فقدت السينما المصرية واحدا من أخلص وأجرأ أبنائها برحيل المخرج
والفنان السينمائي الكبير سعيد مرزوق، بعد معاناة طويلة مع المرض
والاكتئاب.
قدم سعيد مرزوق للسينما المصرية أربعة عشر فيلما فقط، كلها تقريبا،
فيما عدا واحد أو اثنين، أثارت الجدل فنيا وجماهيريا وسياسيا،
وأربعة منها، على الأقل، تعد من كلاسيكيات السينما المصرية هي
"زوجتي والكلب"، "أريد حلا"، "المذنبون و"المرأة والساطور".
انتمى سعيد مرزوق إلى جيل جديد من مخرجي الستينيات الذين تأثروا
بالسينما الأوروبية والمناخ العالمي الثائر، والمناخ
المحلي في مصر المحتقن بهزيمة 1967 ومولد جيل شاب متمرد على
الأوضاع القائمة.
في هذه الفترة ظهرت جماعة السينما الجديدة التي قدمت عددا من
الأفلام المختلفة عن السينما السائدة لمخرجين ومؤلفين جدد مثل علي
عبد الخالق ومحمد راضي وغالب شعث، كما قدم شادي عبد السلام رائعته
"المومياء"، وحتى بعض المخرجين الأكبر سنا مثل يوسف شاهين وصلاح
أبو سيف أعادوا اكتشاف أنفسهم في أفلام سياسية غاضبة.
ولد سعيد مرزوق وسط رياح وعواصف التغيير العاتية، وحيدا، لم يتعلم
في أكاديمية أو معهد، ولم ينتم إلى "شلة" ولم تتبناه شركة... بلا
مرجعية ولا ديون ولا تراث مفروض عليه، شق طريقه مثل سهم يثير حوله
الإعجاب والعجب والحسد.
لم يكن سعيد مرزوق جزءا من صناعة السينما المصرية رغم أن هذه
الصناعة لجأت إليه لضخ روحا ودماءا شابة في جسدها المترهل، وكثيرا
ما كانت لا تحتمل أفكاره ورؤاه وصوره الصادمة.
منذ فيلمه الأول، بل المشهد الأول، لفيلمه الروائي الأول "زوجتي
والكلب"، 1971، يدرك المشاهد على الفور أنه أمام عمل مختلف، غير
مسبوق، وربما غير ملحوق، في جرأته الفنية و"الجنسية".
سعيد مرزوق من القلائل جدا الذين اهتموا بالجنس، الغريزة الأقوى
والأخطر في حياة الكائن البشري، وهو من القلائل جدا الذين كرسوا
معظم أعمالهم، إن لم يكن كلها، لاستكشاف أثر الغريزة الجنسية على
الأفراد والمجتمعات والسياسات، وتأثيرها المدمر.
الخوف من الجنس هو "التيمة" الأساسية التي تتردد عبر أفلام سعيد
مرزوق، خاصة في أفلامه: "زوجتي والكلب"، "الخوف"، " أريد حلا"، "
إنقاذ ما يمكن إنقاذه"، " أيام الرعب"، "المغتصبون"، "المرأة
والساطور"، و"جنون الحياة".
في "زوجتي والكلب" يخشى الزوج الكهل، محمود مرسي، من الغريزة
المتوهجة لزوجته الشابة، سعاد حسني، وتنتابه الهواجس والشكوك من
خيانتها له، ويستيقظ داخله الشعور بالذنب وانتظار العقاب بسبب
ماضيه المنفلت جنسيا، والذي قام فيه بخيانة أحد زملاءه الأكبر منه
مع زوجته الشابة.
لا يستطيع الريس مرسي أن ينزع عن ذهنه خيالات جنسية يتصور فيها
زوجته وهي تخونه مع زميله الصغير نور، الذي يؤديه نور الشريف، وهو
شاب صغير محروم وفائر بالرغبة الجنسية لا يستطيع بدوره أن ينزع
الخيالات الجنسية التي تراوده حول زوجه الريس مرسي وغيرها من
النساء.
كل من مرسي ونور يعملان مع عدد آخر من الرجال في فنار على البحر،
بشكله القضيبي الواضح، وعزلتهم القاصرة على الرجال بعيدا عن النساء
والعالم، لا يصحبهم سوى كلب، يمثل المعادل الموضوعي لغريزتهم
ورغباتهم البدائية المشبوبة. حياتهم تتمحور حول الخوف من النساء
والتنافس الذكوري الذي يتجسد في المثلث الأوديبي الشهير، الزوج
والزوجة والابن، أو أوديب الخائف والهارب والذي يعاني من الشعور
بالذنب لجرم جنسي ارتكبه في طفولته، أو ربما قبل أن يولد أصلا،
بسبب اشتهاءه لأمه وخصومته لأبيه.
في "الخوف"، ثاني أفلام سعيد مرزوق، 1972، تتجلى فكرة الخوف من
الجنس كأوضح ما يكون، رغم أن المثلث معكوس هنا.
في "زوجتي والكلب" كان الأب هو الذي يخشى فحولة الابن ويتمنى
الخلاص منه بالقاءه من فوق الفنار. في "الخوف" يصعد العاشقان
الخائفان إلى سطح بناية تحت الإنشاء، ولكن الخوف يطاردهما هناك
مثلما طارد نور في نهاية "زوجتي والكلب"، ورغم أن مصدر الخوف يتمثل
في بواب العمارة مخيف الملامح، إلا أنه وفقا للنهاية الأصلية
للفيلم كان يفترض أن يكون الخوف أكثر عمومية وايحاءا بالخوف
السياسي والاجتماعي الذي يشل الشباب وطاقاتهم الجنسية والإبداعية،
بالرغم من أن رمز "بواب العمارة"، مثل "ريس عمال الفنار" لا يبعد
كثيرا عن المعنى المراد.
في "زوجتي والكلب" كان الخوف يهدد الرجال فقط. في "الخوف" يهدد
العاشقين الشابين، أما في "أريد حلا"، 1975، فهو يهدد المرأة، فاتن
حمامة، رمز الأنوثة الطيبة في السينما المصرية، ومصدره هو الذكر
الذي يجسده رمز الفحولة الذكورية رشدي أباظة، ونعرف من سياق الفيلم
أن الزوجة تطلب الطلاق بسبب غريزة زوجها المنحرفة والفائضة عن الحد
الطبيعي.
الفوضى الجنسية المدمرة هي أيضا موضوع فيلم سعيد مرزوق التالي،
"المذنبون"، 1976، ولكنه يستطيع هنا أن يقدم تصوره عن الفساد
الاجتماعي والسياسي الذي تتسبب فيه الغريزة المنفلتة عن عقالها،
وكل الناس هنا مذنبون بمعنى من المعاني بسبب انسياقهم وراء الغرائز
والأطماع. وقد أثار الفيلم ضجة هائلة وقتها بسبب المعاني السياسية
والاجتماعية التي يتضمنها، وليس المشاهد الجريئة، فهي مشاهد عادية
مقارنة بأفلام منتصف السبعينيات.
في "إنقاذ ما يمكن إنقاذه، 1985، تتكرر أفكار "المذنبون" بصورة
أخرى من خلال "فيللا" قديمة تمثل مصر، بعد أن كانت مقرا للوطنية
والشرف تحولت إلى بيت دعارة على يد مالكها الجديد، القادم من أسفل
طبقات المجتمع، ويهدد الجنس هنا بإفساد، واغتصاب، الفتاة الشريفة،
ميرفت أمين، وهي نموذج لجيل الشباب، ومصر المستقبل، التي تضيع في
النهاية تحت أقدام الداعرين والمتطرفين دينيا!
في " أيام الرعب"، 1988، يعود سعيد مرزوق إلى "تيمة" الخوف الفردي
الأوديبي، ومع أن الخوف هنا منبعه عادة الثأر والموت، وليس الجنس
بشكل مباشر، ولكن لا يجب أن نهمل أن بطل الفيلم محروس، محمود يس،
على وشك الزواج، وهو يعاني من الخوف المرضي بسبب ماض قديم يطارده
ويهدد بقتله، أو اخصاءه، عقابا له على جريمة لم يرتكبها.
في "المغتصبون"، 1989، نعود لفكرة المجتمع المنحل طبقيا وأخلاقيا
والذكورة المدمرة التي تتمثل في مجموعة من الشباب الفقير المحروم
المريض يقومون باغتصاب وحشي لفتاة عذراء. في السنوات التي سبقت
انتاج الفيلم تعرض الرأي العام في مصر إلى صدمة وحالة فزع بسبب
سلسلة من حوادث الإغتصاب الجماعي التي كانت شيئا غريبا وغير معتادا
في تلك الفترة، قبل أن تستفحل الظاهرة وتصل إلى حالتها المرعبة
التي ظهرت في حوادث اغتصاب "ميدان التحرير".
في "المرأة والساطور"، 1997، يرصد سعيد مرزوق ظاهرة أخرى هي انقلاب
المرأة التي تعرضت للإغتصاب والإهانة إلى وحش تقوم بقتل زوجها
والتمثيل بجثته، وكان المجتمع المصري وقتها يعاني من حالة صدمة
وفزع آخر بسبب سلسلة من حوادث قتل الأزواج على يد زوجاتهم!
الاغتصاب من الخلف، رمز "البهيمية" و"الكلبية" كما يرى سعيد مرزوق،
كان سبب مطالبة فاتن حمامة بالطلاق في "أريد حلا"، ولكنه في
"المرأة والساطور" يدفع الزوجة نبيلة عبيد إلى قتل زوجها، أبو بكر
عزت، وتمزيقه، اخصاءه، حرفيا.
لقد انتهى زمن المرأة المهذبة التي تخسر قضية الطلاق لأنها تعففت
عن الحديث في الجنس أمام القاضي ليأتي زمن النساء القاتلات على يد
نادية الجندي ونبيلة عبيد.
في فيلميه الأخيرين " جنون الحياة"، 1999، و"قصاقيص العشاق"، 2003،
تتكرر "التيمات" نفسها بتنويعات أخرى، في الأول تقوم إلهام شاهين
بقتل الشاب الفحل متعدد العلاقات كريم عبد العزيز بعد أن يدخل في
علاقة معها ثم مع ابنة أختها ياسمين عبد العزيز، وفي الثاني يقوم
مصطفى فهمي بفعل الشىء نفسه مع نبيلة عبيد التي يترك زوجته وبناته
من أجلها ليكتشف أنها صنعت مفرش سرير من قصاقيص ملابس عشاقها!
يبدأ أول فيلم روائي صنعه سعيد مرزوق بسرير يضم زوجين يتضاجعان،
وينتهي آخر أفلامه بمشهد سرير وعاشقين يحترقان. وليس هناك مشهدان
آخران يمكن أن يعبرا بهذا الوضوح عن الفكرة الأساسية التي شاغلت
المخرج الراحل طوال حياته الفنية...بغض النظر عن رأينا في مدى
مطابقة هذه الفكرة للواقع، أو نوع أخلاقيتها، أو تركيبتها النفسية. |