ملفات خاصة

 
 
 

«ريش».. رحلة تحرر امرأة كادحة من زوجها الدجاجة

د. أمــل الجمل

عن فيلم «ريش»..

لـ «عمر الزهيري»

   
 
 
 
 
 
 

امرأة صامتة لا تنطق إلا بكلمات معدودة قرابة الساعتين، لا تنظر في عين زوجها أبدا، وكأنها تخشاه أو منكسرة أمامه، لكنها أغلب الوقت تنظر إلى الأرض تعبيرا عن السمع والطاعة، خصوصا حين يُصدر تعليماته، كأن يأمرها بأن يكون طعام الغداء على مدار اليومين التاليين من الباذنجان، أو يحذرها بأن لا ترتكب أي خطأ أثناء حضور ضيوفه للاحتفال بعيد ميلاد ابنه.

إنها لقطات مشهدية بفيلم "ريش" (112 دقيقة) للمخرج المصري عمر الزهيري في أول أعماله الروائية الطويلة، وقد نال جائزتين من نقاد مهرجان كان الـ74، وعُرض مؤخرا ضمن قسم "آفاق" بمهرجان كارلوفي فاري الدولي الـ55 بالفترة ما بين 20-28 أغسطس/آب الماضي.

يبدأ الفيلم برجل لا نعرف هويته يحرق نفسه ويسقط أرضا، إلى أن يكف عن الحركة تماما، في ضباب كثيف ومكان يبدو وكأنه خرابة. ومنذ بداية الفيلم وحتى نهايته لا نرى ولا نسمع شيئا عن هذا الرجل، لكننا نرى أشياء قد تُفسّر لماذا انتحر هذا اليائس؟ وكأنه يذكرنا بقصة بو عزيزي تونس، وأمثاله من المحتجين في بلدان شتى.

بطلة القصة هنا امرأة نراها تقف بملابسها القديمة مطأطأة الرأس، كأنها خادمة أمام سيدها، بينما الحقيقة أنه زوجها، يرتدي ملابسه ثم يفتح الحصالة فيستخرج منها عدة جنيهات قديمة متهالكة، كأنها غُسلت عشرات المرات في عرق الأيدي الكادحة، تأخذهم منه دون احتجاج، فتُطعم صغارها ورضيعها، ولا نراها تأكل معهم، كأنها توفر الطعام لهم، تحاول تنظيف البيت المتهالك القبيح دون تذمر، تُغلق بسرعة الشباك لتمنع دخول الدخان الأسود الكثيف المُندفع من أحد القطارات.

"أبو لمعة الفشّار".. جبروت الزوج الكادح المستعبد

هذا الدخان يُفسر الحالة المكتئبة للبيت والمنطقة المحيطة التي لا نعرف موقعها بالضبط، فلا دليل واحد على أنها تقع في أرض الكنانة -إذ يمكن أن تكون في أي بلد بالعالم- باستثناء لهجة الممثلين الذين ينطقون بكلمات قليلة هم أيضا. هذا المكان المُترب المتهدم بجدرانه العارية المُشوهة ذات الطلاء المقشر، الذي تتناثر في أرجائه قطع من الأثاث المكسور والأرائك الرثة، سندرك بعد قليل أنه وحدة سكنية بالإيجار تُخصص لعمال المصانع المقامة على أطراف المدينة.

زوج هذه المرأة مُسيطر، يبدو أقرب للدكتاتور الذي يقدم الوعود الكاذبة لأبنائه ليكتسب حُب واحترام عائلته، إنه يعمل في مصنع، ولديه ثلاثة أطفال صغار، أحدهم رضيع. يتحدث إلى أولاده بشكل عبثي، خصوصا إذا علمنا أنه لم يسدد إيجار هذا البيت المتواضع منذ ثلاثة أشهر، ومع ذلك يعدهم بأشياء تبدو خيالية مقارنة بمستواه الاجتماعي الاقتصادي، مثل شراء فيلا مع حوض سباحة يوما ما، أو صالة بيلياردو. يتحدث عن تجربة سفره للخارج أثناء الدراسة وشرب الحليب من البقرة مباشرة، في أسلوب أقرب للمزاح، لكن لا أحد يضحك.

يبدو هذا الرجل بلا حول ولا قوة رغم الصورة المخادعة له أمام عائلته، إنه أقرب لشخصية "أبو لمعة الفَشَّار"، نراه في عيد ميلاد ابنه يُحضر الزينة ونافورة مياه تُضيء على شكل تمثال في محاولة لتجميل المكان الكئيب من شدة قبحه، يستضيف رئيسه في العمل الذي يُهدي الطفل مبلغا من المال، فيُسرع الأب بالقبض على الأوراق المالية القديمة شاكرا مديره كما يفعل العبيد.

الزوج المُسيطر قبل أن يتحول لدجاجة مع زوجته وأطفاله خلال تناولهم الغداء

عبودية الدجاجة وحرية المرأة.. سحر الصندوق الخشبي

يبدأ الساحر فقرته في عيد الميلاد، لكن لا أحد يستجيب لدعوته، فيطلب من رب الأسرة الدكتاتور أن يدخل إلى الصندوق الخشبي، وبعد قليل يُخرجونه على شكل دجاجة، وعند محاولة استعادته يرتكب مساعد الساحر خطأ ما، فيعجزون عن إعادته لسيرته الأولى رغم كل المحاولات.

لا شك أن تحويل بطل فيلم "ريش" إلى دجاجة يُذكرنا برواية "المسخ" للكاتب التشيكي العظيم "فرانز كافكا"، ففي أحد الصباحات يستيقظ البائع المتجول المطحون ليجد نفسه وقد تحوّل إلى صرصار، لكن الفارق بين العملين كبير، فالمسخ عند "كافكا" يواصل سرد قصته بنفسه كاشفا من خلال تأملاته للعالم عن الاغتراب الذي يُعد أحد أهم سمات المجتمع الحديث الرأسمالي، لكن بطل المخرج عمر الزهيري بالفيلم يختفي تماما بعد تحوله إلى دجاجة، وكأنه كان مجرد تعلة درامية لمنح المرأة فرصة لاكتشاف قدراتها الكامنة فيها، والتي لم تكن هي نفسها تُدركها، وكأن الفيلم يقدم دعوة مبطنة هامسة للتمرد على السكون والخنوع.

هناك فرق آخر بين العملين، وهو أن بائع "كافكا" تحوّل إلى مسخ، لأنه كان يعاني الاغتراب على مستويات عدة، اغتراب عن الأسرة والمجتمع وفي العمل والجسد، واغتراب حتى عن نفسه، لقد حاول الخروج عن القانون الذي يقتل فيه إنسانيته في ظل مجتمع مرعب، وهنا تحوّل إلى مسخ. بينما عند الزهيري لم يكتفِ المخرج بأن جعل الرجل -الدجاجة- مُنصاعا لأسياده متسلطا على زوجته، بل إنه سرعان ما همّش دوره، فصارت المرأة هي البطلة التي استعادت إنسانيتها بتحوّل زوجها إلى دجاجة، لأن تحوّله أو بالأحرى غيابه منحها الفرصة لتكتشف إمكانياتها الحقيقية.

الزوجة الأم التي اكتشفت قدراتها التي لم تكن تدرك أنها تمتلكها خلال رحلة استعادة الزوج

مدبرة المنزل.. رحلة البحث عن ساحر

تبدأ رحلة الزوجة في لعب دور المرأة المعيلة، في البداية تبدأ رحلة البحث عن ساحر لإعادة زوجها، ثم فجأة تجد نفسها مهددة بالطرد من هذا البيت القذر. صحيح أنه مكان قاتم قبيح فقير متقشف، لكنه لا يزال بيتا له سقف وجدران وأبواب تحميها هي وأبنائها، لذلك عندما يحجز على البيت وأجهزته المتهالكة تصبح تحت ضغط البحث عن مَخرج.

تستعين برئيسه ثم بصديقه الذي يساعدها مرات عدة بسخاء يشي بأن كل هذا سيدفع ثمنه لاحقا، إذ يعرض عليها حبه، لكنها لا توافق، وعندما يتجاوز حدوده تصده بالضرب والدفاع عن نفسها كالنمرة، ثم تهرب من السيارة.

تبحث الزوجة عن عمل، لكن المصنع -مقر عمل زوجها- يرفض عمل النساء، لذا فإنها تعمل في مكان لتقطيع اللحوم عند امرأة ثرية غريبة، لكن سرعان ما تُطرد لأنها سرقت بعض أكباد الدجاج وأشياء أخرى صغيرة لتطعم صغارها، تضطر إلى أن توافق على تشغيل طفلها مكان والده، فتستخرج له شهادة طبية مختومة تُثبت تغيبه.

في المستشفى، حيث الأطفال ينتظرون علاج الأب الدجاجة بعد أن أوشكت على الموت

مصرع الدجاجة.. شمس الحرية تكشف وهم الحماية الزوجية

لا تكف الزوجة أثناء بحثها عن العمل عن رعاية الدجاجة وتطبيبها على أمل استعادة الزوج، مثلما تعيد المحاولات مع السحرة دون فائدة، ثم تطلب من الرجل المعجب بها أن يساعدها في البحث عن عمل جديد، وتنجح فيه، وحينها يُصبح لديها دخل، فتُحضر لأبنائها مأكولات لم يكونوا يتذوقونها في وجود الأب، مثلما استعادت أجهزتها المحجوز عليها بعد أن دفعت الإيجار المتأخر، وعندما واصل صديق زوجها مطاردتها فارضا عليها حبه، سلّطت عليه صاحب العمل الجديد فضربه، بينما كانت تقف تشاهده في تشفٍّ وتحدٍّ وكبرياء، فأين كان يختبئ كل ذلك؟

هذه المرأة التي لا نعرف اسمها، كما لا نعرف اسما لأي من الشخصيات الأخرى، فحين ينادي بعضهم بعضا فإنهم يتكلمون بضمير الغائب، أو يستخدمون الألقاب التي يستخدمها الخدم مع أسيادهم، لكن الأهم أنه خلال هذه الرحلة القاسية تكتشف هذه المرأة أنها قادرة على أن تعيش في مستوى حياة أفضل بدون هذا الرجل الدكتاتور، بدون كلام كثير أو ثرثرة كذابة، كما أنها نجحت في حماية نفسها من الرجال.

لذلك لم يكن غريبا أو مستهجنا أنها ذات لحظة ستقوم بذبح الدجاجة، إذ أصبح جليا أنها آمنت بنفسها، ولم تعد تخشى غياب هذا المُتسلط الذي كانت تتوهم أنه يحميها بوجوده ويوفر لها الطعام، يبدو أنها كانت تعتقد أنها بدونه ستموت جوعا وخوفا، لكنها اكتشفت أنها لا تزال قادرة على مواصلة الحياة بشكل أفضل في غيابه، لذلك ذهبت إلى الطبيب كي تستخرج شهادة وفاة لزوجها، لكن المفاجأة أنهم بالمستشفى سيخبرونها بأنه ما زال حيّا، إذ وجدوه بين المشردين الذين لا ينطقون، فتصطحبه وتغسّله وتحاول أن تستعيده، وحين تفقد الأمل تقتله بأيد باردة، وكأنها تؤكد تحررها الكامل.

أثناء الاحتفال بعيد ميلاد الابن، فالأم ومن حولها الجيران والمعارف وزملاء الأب في العمل

رمزية الدجاجة.. كوميديا سوداء بين الواقعية والفانتازيا

لا شك أن الفيلم يجمع بين الأسلوب الواقعي الممزوج بالفانتازيا، والمُطعّم بحِس يمكن وصفه بالكوميديا السوداء. حدود الإطارات السينمائية وجماليات تكوينها – رغم القبح – يُعبر عن عين فنية تبحث عن الجديد والاختلاف، فالأماكن رغم واقعيتها تبدو أحيانا موسومة بالغرائبية.

وإذا كان الصرصار في "مسخ" كافكا لم يكن مجرد حشرة، بل وُظف كرمز للإنسان المقهور، فإن اختيار الزهيري تحويل بطله الدكتاتور إلى دجاجة لم يكن عشوائيا أو من فراغ، وإلا لماذا مثلا لم يحوله إلى ديك أو صرصار، أو أي شيء آخر، حيث تُوصف الدجاجة بأنها كائن ضعيف غير فاعل تثرثر وفقط.

كثير من تفاصيل الفيلم ومشاهده توحي بالعبثية، ليس فقط مشهد تحوّل الزوج لدجاجة، لكن أيضا لقطات ظهور الحيوانات، كالحمار والقرد الذي يقفز على زجاج السيارة، وكلب الحراسة الذي ينهش المرأة ويتسبب في طردها.

"لم أنظر إلى الفيلم كقضايا بل كمشاعر".. عبثية الواقع

المخرج -الذي هو ذاته كاتب السيناريو- يُحمل فيلمه كثيرا من النقد الساخر من مشكلات اجتماعية واقتصادية، وإن بصوت هامس غير فج، كالنظرة للنساء والتحرش بهن، ورفض أن تعمل المرأة بجوار الرجل أو مكانه، لكنهم لا يمانعون في عمل الأطفال، وإضافة إلى جوانبه العبثية؛ اكتسب الفيلم بُعدا واقعيا من هيئة الشخوص وتصرفاتهم الذكورية، هؤلاء الرجال الموجودون في كافة درجات السلم الاجتماعي والوظيفي.

مَنْ يتأمل الفيلم يُدرك أن التفاصيل الإنسانية المتراكمة، خصوصا لتلك المرأة مع أولادها، أو من أجل أولادها هي أكثر شيء جعلنا نتعلق بالفيلم ويُعيدنا إلى الواقعية، وهذا لن يكون غريبا إذا سمعنا المخرج يقول: أنا لم أنظر إلى الفيلم كقضايا بل كمشاعر، كنت دائما أبحث عن مفاجآت فنية في العمل، مثل حركة ممثل، أو حادثة ما تثير المشاعر، كما تعاملت مع الفيلم كلوحات، قاصدا المتعة البصرية في الطرح.

إنتاج الفيلم.. ميزانية محدود لأبطال غير محترفين

بقي أن نشير إلى أن أبطال الفيلم ليسوا ممثلين محترفين، فبعضهم ممثلون مسرحيون، وبعضهم ظهر في أدوار ثانوية بعدد من الأعمال، أما البعض الآخر فلم يمثل أبدا.

شارك في إنتاج الفيلم أربع جهات من مصر وفرنسا واليونان وهولندا، حيث بدأ الإنتاج من الجانب الفرنسي، ثم شارك لاحقا من مصر المنتج والسيناريست محمد حفظي، مع ذلك صُنع الفيلم بميزانية محدودة جدا تبلغ 400 ألف يورو، وحصد جائزتين من مهرجان كان، واحتفى به النقاد في مهرجان كارلوفي فاري، مما يؤكد أنه ليس بالأموال وحدها تُصنع الأفلام السينمائية.

 

الجزيرة الوثائقية في

13.09.2021

 
 
 
 
 

مصراوي يحاور عمر الزهيري مخرج "ريش":

كيف تصنع فيلما يفوز بجائزة عالمية؟

حوار- د.أمل الجمل:

الزهيري: صورت بعض المشاهد دون علم الممثلين..

والمنتج الفرنسي لم يتدخل في السيناريو

التقيته في الدور السادس بفندق تيرمال مقر مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي الخامس والخمسين المنعقد بالفترة ٢٠ -٢٨ أغسطس الماضي.

كان فيلمه "ريش" معروضاً ضمن قسم "آفاق" هناك، شاهدت الفيلم، واستمتعت به سينمائياً.

الحقيقة أن الفيلم يستحق عن جدارة جائزتيه في مهرجان كان السينمائي الأخير، حيث فاز بجائزتي أسبوع النقاد، وجائزة الفيبريسي، بدا لي عملاً سينمائياً بسيطاً غير مصطنع، لكنه في ذات الوقت مُحمل بأبعاد وأعماق، وتورية مصنوعة بذكاء، إنه بعيد تماماً عن الصوت العالي في طرح الأفكار، يعتمد على تحريك المشاعر من تفاصيل تبدو صغيرة - لكنها كبيرة في معناها - موسومة بالصدقية. حيث امرأة فقيرة مقهورة مستكينة تعيش رحلة اكتشاف قدراتها وإمكانياتها بعد تحول زوجها إلى دجاجة بسبب خطأ غير مقصود لساحر انتهازي.

الفيلم أقرب إلى روح سينما تاركوفسكي، حيث الاهتمام بالشاعرية، رغم فقر الشخصيات وقُبح الأماكن. يجعلنا نشعر بروح الشخصيات ودواخلها التي تبدو هادئة ظاهرياً لكنها متأججة من الداخل. الفيلم يكشف عن مخرج قادر على خلق النَفَس السينمائي. السيناريو أو تتابع المشاهد لا يتعمد التفسير أو تبرير السلوك، إنه ينحاز أكثر إلي المفاصل الشاعرية. الزمن النفسي للشخصيات مصنوع بحساب دقيق، النظرات -خصوصا البطلة - لها معنى عميق رغم قلة الكلمات، لحظات الصمت الكثيرة بالفيلم مُحملة بثقل الحياة وقسوتها. مع ذلك هناك لحظات للبهجة مغروسة أيضاً بتلقائية محببة، وفي ذات الوقت تُخفف من وطأة الكآبة والمشاكل المحيطة بالبطلة، هناك لحظات من السخرية التي يصعب أن تكون كوميديا تفجر الضحك، لكنها تميل للكوميديا السوداء. يصعب جدا أن تضحك - من وجهة نظري - ربما باستثناء لقطة وحيدة بعد أن تصد البطلة محاولة الإعتداء الجنسي عليها، وتفر هاربة من السيارة نجدها تتذكر جهاز التلفاز الموجود في سيارة المعتدي عليها فتعود مسرعة لتحمله وتواصل الهروب.

لكل ما سبق قررت أن ألتقي مخرج الفيلم الشاب الموهوب عمر الزهيري لأتعرف على فكره الذي قاده في هذا السن المبكر لصناعة فيلم بهذه الحساسية. لكني لم أندهش كثيراً بعد مشاهدة فيلميه القصيرين، "زفير" - الذي كان قد سبق له الفوز بجائزة تحكيم مهرجان دبي للأفلام الروائية القصيرة - ثم مشروع تخرجه من المعهد العالي للسينما "ما بعد وضع حجر الأساس لمشروع الحمام بالكيلو ٣٧٥"، والذي شارك في مسابقة "سينيفونداسيو" عام ٢٠١٤ في دورة مهرجان كان الـ ٦٧.

التقيته. كانت الزميلة هالة الماوي تكاد أن تنتهي من حوارها معه، حيث كنا - هي وأنا فقط - نُمثل الصحافة العربية في المهرجان التشيكي العريق. كان عمر مبتسما، ودوداً، مرحباً بكافة أنواع الأسئلة فامتد الحوار معه لنحو ساعة حول صناعة فيلمه منذ كان مجرد فكرة، وصيرورته في الكتابة وصولاً إلى توقعاته عن توزيعه في مصر. سألته:

·        كيف بدأت فكرة ريش؟

كنت أشارك بفيلم قصير في مهرجان كان، عرفت أن هناك برنامج للكتابة اسمه "ريزيدينس"، وأنه يُمكنني أن أتقدم له إذا كان عندي فكرة فيلم طويل، وقتها لم يكن لدي فكرة جاهزة. بدأت رحلة البحث والتفكير، ثم في وقت من الأوقات ظهرت الفكرة في عقلي وحسيت أنها ممكن تعمل فيلم حلو.

·        هل تبدلت تفاصيل السيناريو بعد مشاهدة أماكن التصوير؟

السيناريو كان في حالة تغيير لحد المونتاج، لم يكن ثابت، بالنسبة لي السيناريو هو عشرة في المائة من الفيلم. الاختيارات كانت الأهم، عندما شاهدت الممثلين غيرت أشياء تناسب شخصياتهم، وكذلك الأماكن. ما تم تصويره حدث بعد أن شاهدت الأماكن واشتغلت عليها.

·        نعود للعشرة في المائة الخاصة بالسيناريو.. هل اشتغلت في البداية وحدك، أم بالشراكة مع أحمد عامر، وكيف كانت رحلة العمل على سيناريو مشترك؟

كتبت لوحدي في البداية.. ثم عندما طُلبت معالجة مكتوبة بشكل تقني أفضل هنا جاء دور أحمد عامر، فأخذ يصيغ ما كتبته من معالجة وتتابع مشاهد. ثم كتبنا نسخة سيناريو، بعدها طورناها. دور أحمد هنا خلص، لكني كتبت من أول وجديد لوحدي. غيرت كل حاجة.. بعد اختيارات الممثلين أصبح هناك مشاهد تتغير تماما عن المكتوب، وأخرى تم إلغاؤها أو تُكتب مشاهد أخرى بديلة لها.

·        أفهم من ذلك أن دور أحمد انتهى ولم تستعن بما كتبه؟

لا.. أحمد كتب السيناريو في مرحلة. عموما الفكرة كانت ثابتة لم تتغير، لكن الذي يحدث للشخصيات هو الذي كان يتغير، في التطور، واختياراتنا في أي قصة سنواصل. أنا لا أعتمد في إخراجي على السيناريو بشكل كبير، أعتمد أكثر على الصورة، مثلاً إذا هناك مشهد كنت غير قادر على تصوره، أغيره وأفكر لفترة في سبب احتياجي له؟ بالفيلم مشاهد بسيطة جدا، لم تكن موجودة في السيناريو، لكنها محورية.

·        مثل؟

قبل أن تذهب الزوجة للعمل، مثلاً تفاصيل مشهد الكشف عليها لم تكن موجود في السيناريو، أثناء التصوير شعرت أن هذا المشهد ضروري لكي يحدث التوازن بينه وبين مشهد السرقة بعد ذلك. هناك مشاهد بسيطة قوي لكنها تصنع فارقاً، كالمشهد الذي اشترت فيه الأم كيكة لأولادها بعد أن تسلمت عملها. وطبعا الممثلين وجودهم كان يفرق معي في التخييل، عندما يتواجد ناس من لحم ودم فهذا الجو في التصوير يساعدني على التخيل.

·        ثم كان المونتاج إعادة إحياء للفيلم؟

بالضبط .. وبصراحة لم أكن أتوقع كل رد الفعل هذا من النقاد تحديداً، وما حدث في مهرجان كان السينمائي كان مبهراً.. لم أشعر برد الفعل الجماهيري قوي لأني لم أحضر سوى عرضين في كان، وهنا في كارلوفي فاري في انتظار رد فعل الجمهور.

·        كيف اخترت أماكن التصوير والممثلين؟

الأب لم يُمثَّل من قبل إلا معي بفيلمي القصير "ما بعد وضع حجر الأساس لمشروع الحمام في الكيلو ٣٧٥" أما الساحر فلم يُمثل أبداً. أنا مخرج إعلانات، أصور في الشارع كثيراً. ذات مرة وجدته يقود سيارة فأوقفته وقلت له تعالي هتمثل معايا. أما الأماكن فليست حقيقية، هي كلها مصنوعة. كنا نذهب للمكان الحقيقي، نغير في الديكور، ونستخدم الجرافيكس، وذلك حتى نظل بعيداً عن تحديد زمن الأحداث.

·        إلى تلك اللحظة التي تنطق فيها الشخصيات بكلمات معدودة لن نعرف مكان الأحداث.. هل قصدت ذلك؟

أنا سافرت بلاد كثيرة واشتغلت في أماكن كثيرة ، ورأيي إن البني آدمين شبه بعض. كان نفسي أعبر عن هذا المعنى، المعنى الإنساني والسؤال هل الحياة ممكن أن تستمر هكذا إلى متى؟ مثلاً فيه لحظات بالفيلم لما الزوجة تسرق حاجات صغيرة لا تدعو للرفت، ولكن تدعو للتعاطف.. لكن الخوف بداخل الناس أن هذه المرأة يُمكن أن تسرق حاجة أكبر.. هذا معناه أن هناك خلل كبير بينا وبين بعض كبشر، لم يسأل الناس لماذا سرقت؟ كان المفروض أن يتعاطفوا. بخصوص مكان الأحداث البعض يقول إنها مصر من اللهجة أو الأغاني، لكن في النهاية أنا لا أحب تصوير الواقع. أحب أصور من خيالي.

·        هل تركت مساحة لارتجال الممثلين؟

ليس ارتجال. كنت أطور قراراتي واختياراتي، بمعنى أنى أفكر في المشهد الذي أعددته. لا أقرأ السيناريو في التصوير أبداً. يكون عندي مذكرة مفصلة تشبه "ستوري بورد".. أُفكر؛ هل هذا مناسب للممثل أم لا؟ خصوصا أنني لا أقابل الممثلين قبل التصوير، لا أعمل بروفات. أحياناً يُدركوا أنني المخرج فقط عندما أقول: "حلو قوي.. اللي بعده".. أحيانا يعتقدون أن المساعد هو المخرج.

·        إذن، كيف تقوم باختيارهم إذا كنت لا تتعامل معهم ولا تلتقيهم؟

عندما أذهب لرؤية الممثلين أصطحب معي المساعدين. أتركهم يتكلمون معهم، بينما أظل أنا بعيداً أتأملهم كيف يتصرفون، فأي شخص تخبريه بأنه سيقابل المخرج يخاف.. لأن الشائع أن المخرج هو مَنْ يقول آه أو لا. لذلك عندما أخفي نفسي يكونوا على طبيعتهم أكثر. ساعات أترك الكاميرا تدور من دون أن يعرفوا، فيكونوا تلقائيين جدا، منها كل لحظات الرقص لم يكونوا يعلموا أن الكاميرا تُصور.. وكانوا على راحتهم..

·        كما في مشهد عيد الميلاد مثلا؟

آه، مثلا، فأنا أخلق جو معين وأتركهم، لكن أيضاً أخلق معهم علاقات جيدة فيها ود. أكون أنا أرق إنسان يتعامل معهم في اللوكيشن، فلما أطلب منهم أي حاجة في التصوير يحاولوا أن يعملوها بأقصى طاقتهم. أشتغل معهم بالإنطباع، عندما أشاهد الممثل أقول ينفع يعمل كذا، وأنا لا أريدهم أن يستخدموا تكنيك معين، لا أريدهم أن يتحولوا إلى ممثلين. كان عندي فرصة أجيب ممثلين كبار، لكن عملي معهم كان اختيار أن أخلق عالم فني بناسه وهم بداخله، بالتالي كان هذا هو الأسلوب الذي اتبعته.

·        حتى تشعر بأن ردود أفعالهم بكر، أو طازجة؟

بالضبط، وكنت أيضاً كمخرج لا أعترض، بمعنى أنني لا أُعيد اللقطات كثيراً، لا أحاول أن أطلب منهم أشياءً من أجل الوصول للكمال، بالعكس، أحاول أن تكون الأشياء طبيعية، فلو أخطأوا أتركهم، وأخذ الخطأ كما هو.. ومشاهد كثيرة قوي تم تصويرها من إعادة واحدة.

·        ألم تخش، ولو للحظات، أن تكون هذه الأخطاء على حساب جودة الفيلم.. ألم يساورك هذا الشك أبداً؟

لم يأتيني أي شك. بصراحة، لما بدأت التصوير كل الخوف وهذه الأشياء راحت. أنا بطبعي هادئ، كما أن خبرتي كمساعد مخرج أفادتني، أنا في هذه المهنة من ٢٠٠٦، فهناك خبرة كبيرة اكتسبتها، كما أن إخراج الإعلانات علمني كثير جدا، علمني أنزل التصوير كل يوم، ومخرج الإعلانات دوره إداري أكثر منه فني، لأنه طول الوقت يحاول حل مشاكل لأنها ليست إخراج سينمائي، هو جو تقني جدا، لكنه مدرسة. طول الوقت تتعامل مع الكاميرا، مع وجود شعور بالالتزام، وضرورة وجود وقت محدد لتسليم الشغل. كذلك، من الناحية التقنية يكسر الخوف من نزول التصوير، هو تمرين للجسم كالرياضة. عموما الجرأة أفادتني، وكان عندي شعور بأنني غير باقي على شيء في السينما، بأنني أحب أن أظل جريء.

·        في حوار سابق لي معك قلت إنك "لن تُخرج عملاً أنت غير مقتنع به، لأنك لن تكون قادر على عمله.. بمعنى أن هناك أعمال لا تستطيع إخراجها" لكني أعتقد أن الإعلانات دربتك على عمل أشياء ربما تكون غير مقتنع بها؟

لكن، الإعلانات ليست مثل الإخراج للسينما. مخرج الإعلانات تقني جدا، ينفذ فكرة لا تخصه، لا تنتمي له، فكرة كتبها آخرون. في الإعلانات ليس لديَّ تحكم كامل في كل اختياراتي، عندي اعتبارات أخرى مختلفة أختار وفق هذه الإعتبارات، فمخرج الإعلانات ليس له أي علاقة بمخرج السينما.. مخرج السينما يبحث عن المشاعر، والأفكار، بمعنى ممكن أعمل فيلم غير مفهوم لكن الناس تحس بيه.. لكن ما ينفعش أعمل إعلان مش مفهوم، لأنه ساعاتها هأبقى «… »

لكن هناك ميزة للعمل في الإعلانات، أن الخبرة المكتسبة من التكثيف في الإعلانات ليس أي إنسان قادر على تحقيقها. إنها تدريب خفي.. هذا التكثيف قادر على إفادتك في تطوير الخبرة الشعورية، وما يخص منطقة المشاعر.

الإعلانات أيضاً تدرب الإنسان على أن يتحمل ضغوطات كثيرة.. وهي حاجة مهمة لي، لأني طالما أحتاج وقت طويل لإنجاز أفلامي السينمائية لذلك لابد أن يكون عندي عمل آخر أُخرج فيه طاقاتي، لذلك من المهم أن أواصل عملي بالإعلانات بين كل مشروع سينمائي والعمل التالي له، حتى أغسل دماغي وأجدد نفسي، مع ذلك أعترف بأ عقلي مرن، فعندما يصلني مشروع أشتغل عليه، أخوض التجربة لآخرها.. اقرأه جيداً، أتناقش مع صاحبه، ، أقول له رأيي حتى إن لم أنفذه.

·        فيلمك إنتاج مشترك.. هل هناك شروط خاصة بإنفاق أموال الجانب الفرنسي؟

يمكن الصوت لأنه كان الشرط إنفاق ما بين ٦٠ إلى ٧٪ منه بفرنسا، تم تطبيقه لكن بمرونة، لأن هناك قوانين تشترط ذلك، لكن أريد أن أُؤكد على أن مستوانا التقني في مصر متقارب معهم في فرنسا، بالعكس نحن أفضل، لأن سننا أصغر، ومحتكين أكبر بالصناعة. مدير التصوير بالفيلم هو أيضاً أول فيلم روائي طويل له، الديكور كذلك مستواه عال، هذا يحدث لأن طبيعة السوق المصري كبيرة، هناك ضغط شغل.

·        هل المنتج الفرنسي كان له ملاحظات على السيناريو؟

لا.. لم يكن هناك أي ملاحظات.

لكن دائما هناك ملاحظات على السكريبت في الإنتاج المشترك، من واقع تجارب الآخرين وتأكيده على ذلك.

أنا شخصياً لم أُوضع في هذا الموقف.. لسببين؛ أولاً لأني سرت في خطوات تحميني، لأني قدمت من قبل أفلام قصيرة في مهرجان كان، وكنت أقدم نفسي كسينمائي وليس كشخص قادم لطرح قضايا. كذلك، الأهم أن شركة الإنتاج كبيرة جدا «ستل موفينج» هى شركة أنتجت للمخرج المجري بيلا تار، كان وقتها مخرج عكس التيار. إضافة أنهم من البداية - حتى قبل وجود الاسكريبت - كانوا معجبين بطريقتي في التفكير، ولما كنت أشعر بالقلق من مكان قادم منه جزء من التمويل وأخبرهم بشعوري كنا نغلق هذا الباب، ونبحث عن باب آخر. وبصراحة لما تكاتف المنتجون الكبار فهذا شكل حماية للمشروع من التدخل فيه.

·        قلت إن الفيلم سيعرض في خمسين دار عرض بفرنسا، هل تخبرنا في كل دار عرض كم كرسي؟

لا أعرف.. لكن خمسين دار عرض عدد كبير جدا لفيلم مثل "ريش".. فيلم مثله ربما يُعرض في عشر دور عرض، هذا العادي، لكنه الآن سيعرض في خمسين دار عرض.. لسبب طبيعة السوق، وطبيعة الجمهور، والإمكانيات التي تساعد على ذلك.. بعضها دار سينما صغيرة وأخرى كبيرة. لكن المهم أن الموزع الفرنسي من أهم ثلاثة كبار في السوق الفرنسي.

·        وبالنسبة لمصر؟

ما أعرفه كالتالي.. سأتكلم عن التوزيع.. دور حفظي كمنتج ممكن أتكلم عنه لأن دوره هنا كان مختلف عن دوره بأي فيلم آخر. حفظي كان منتج، ولم يقتصر دوره على إستكمال الإنتاج. كان مسئول عن كل التصوير، وهو كان مكلف جدا، وضع ميزانية كبيرة. كان مسئول عن العلاقات وبيع الفيلم، وهذا صعب جدا في فيلم تقريبا صامت.. لكن ما أفهمه، صحيح أننا حصلنا على جائزة مهمة، ستفيدنا، لكن على أرض الواقع عند توزيع الفيلم في مصر، أنا شخصيا، أتمنى أن ينزل في عدد دور عرض سينمائي قليلة، لأن الفيلم يحتاج ظروف عرض تقنية جيدة، خصوصاً من حيث الصوت، والصورة.

·        لكن جزء من دورة حياة الفيلم أنه لابد وأن يعرض في السينما؟

وجهة نظري أن الفيلم خفيف إنتاجيا على المنتجين.. هأتكلم عن تجربتي. أنا تقريبا أدخل كل الأفلام حتى إن لم أكن أحبها، من أجل أن أشاهد وأتابع ما يحدث، هناك أفلام أدخلها مع عائلتي.. لا أستطيع منعهم من مشاهدة نوعيات آخرى أو مشاهدة المنصات. شخصياً أحب الأفلام الكوميدي. أشاهدها لأجل المتعة. بالنسبة لي في السينما لا يوجد نوع يلغي الأنواع الآخري.. الجميع يجب أن تتاح له الفرصة.. كذلك السينما منذ صغري عمري ما فكرت مَنْ هو المخرج أو الكاتب أو المنتج.. كنت أشوف الفيلم عجبني عجبني، لم يعجبني خلاص ولازلت محافظ على هذه الروح وأنا كبير.

·        نعود لخطة العرض في مصر وتوقعاتك؟

أتمنى أن يُعرض في الإسكندرية والقاهرة.. ومحافظات مختلفة. أتوقع أن الشباب يحبوا الفيلم، خصوصاً مَنْ يحب السينما ويبحث عن سينما مختلفة في الأسلوب. شخصياً لا أحب أن فيلم بعينه يتحمل نتيجة أفلام أخرى، أعلم أن فيلمي مختلف في أسلوبه، وطريقته، في إنتاجه، ونوعه، في نصيبه ونوع نجاحه، كما أنه ليس مؤشر على مستوي السينما المستقلة في مصر، مع ذلك كان مدهش لي أن الناس احتفت بالممثلين على السوشيال ميديا، وكان هناك اهتمام كبير بهم، شيء لم أتوقعه.

 

موقع "مصراوي" في

20.09.2021

 
 
 
 
 

عمر الزهيري: أصبتُ برهبة بعد فوز "ريش" في "كان"

المصدر: القاهرة- النهار العربي

هبة ياسين

توّج فيلم "ريش" للمخرج المصري عمر الزهيري بجائزتين خلال الدورة الأخيرة من مهرجان كان السينمائي، الأولى هي الجائزة الكبرى لمسابقة "أسبوع النقاد الدولي"، والثانية "جائزة الفيبريسي" لأفضل فيلم في المسابقات الموازية.

ويعدّ "ريش" أول الأفلام الروائية الطويلة للزهيري، وقد اشترك في تأليفه مع السيناريست أحمد عامر، فيما شهد الفيلم تعاوناً إنتاجياً بين فرنسا ومصر وهولندا واليونان، كما نال دعماً من جهات دولية عديدة خلال مراحل إنتاجه.

وجاء فوزه بالجائزتين مفاجئاً للجميع، سواء على المستوى السينمائي أو الجماهيري، وفي حوار لـ"النهار العربي"، أبدى الزهيري سعادته بفوز الفيلم في مهرجان كبير بحجم "كان السينمائي"، معتبراً هذا الإنجاز "بمثابة نجاح لمنظومة الفيلم ككل، بمن فيها أبطاله غير المعروفين، وهو أمر مهم بالنسبة إليه في ظل حالة الترويج الدائم أن نجاح الأفلام المستقلة يعتمد على الاستعانة بنجوم كبار أو ممثلين محترفين".

وحول هذا التتويج أضاف: "تملكتني المفاجأة والرهبة، فالجائزتان لم يحصل عليهما فيلم عربي من قبل، وفوجئت بحجم الحفاوة والترحيب عند عرض الفيلم ونفاد تذاكره بالكامل، بجانب إشادة النقاد، بينما توقعت الحصول على تنويه خاص أو شهادة تقدير على أقصى تقدير، لكوني أدرك أنه من الصعب منح هذا الفيلم جائزة لكونه يحوي كثيراً من التجريب، والمعتاد دائماً أنهم يمنحون الجائزة لأفلام متعارف عليها داخل الإطار الفني وسينما الآرت هاوس".

قصّة الفيلم وكواليسه

يقدم الفيلم قصة أم تعيش في كنف زوجها وأبنائها، حياة لا تتغير بين جدران المنزل الذي لا تغادره ولا تعرف ما يدور خارجه. ذات يوم يحدث التغير المفاجئ ويتحول زوجها إلى دجاجة، فأثناء الاحتفال بيوم ميلاد الابن الأصغر، يخطئ الساحر ويفقد السيطرة ويفشل في إعادة الزوج الذي كان يدير كل تفاصيل حياة هذه الأسرة.

هذا التحول العنيف يجبر هذه الزوجة الخاملة على تحمل المسؤولية بحثاً عن حلول للأزمة واستعادة الزوج، النجاة بما تبقى من أسرتها الصغيرة، فتمرّ الزوجة بتغيرٍ قاسٍ وعبثي.

كشف المخرج عمر الزهيري لـ"النهار العربي" فكرة الفيلم وكواليسه قائلاً: "رادوتني الفكرة حين شاركت عبر فيلم قصير في المسابقة الرسمية للأفلام القصيرة لمهرجان كان السينمائي 2014، حيث أخبرني القائمون على المهرجان أن لديهم برنامجاً للكتابة يمكنني من خلاله الحصول على دعم لصناعة فيلم طويل كمنحة كتابة، ويساعد المهرجان في أن يضعني على تواصل مع المنتجين الفرنسيين والمركز القومي للسينما الفرنسية، وعندما أتيحت لي الفرصة وجاءتني فكرة الفيلم شرعت في العمل عليها".

ونوّه المخرج: "أحبذ العمل بطريقة بسيطة دون تعقيد، ومن هنا بدأت فكرة الفيلم منذ عام 2015 واستغرقت مساراً طويلاً من التطوير، ثم قابلت الشركة الفرنسية المنتجة وبدأنا التحضير واستغرقنا وقتاً حتى بلغنا تصوير الفيلم والانتهاء منه".

مغامرات غير محسوبة

تبدو فكرة الفيلم أقرب إلى السوريالية أو الفانتازيا، لكنّ الزهيري ينفي عنها تلك الصفة شارحاً: "تقوم الفكرة على حادثة ترتبط بـ"عرض ساحر"، فالفيلم واقعي يتخلله خطّ خيالي وسحري يغير كل حوادثه، فيمكن وصفه بـ"الواقعية السحرية"، حيث نرى الحوادث والفكرة من خلال وجهة نظر أبطال الفيلم".

بمعايير شباك السينما والاجتذاب الجماهيري، يبدو الفيلم مغامرة، إذ تبدو فكرته غير جاذبة لمرتادي صالات السينما، ومن الممكن أن تؤثر على شعبيته عند العرض الجماهيري أو قد لا يحقق الإيرادات المنتظرة، لكن الزهيري لم يهتم بذلك، إذ يعتمد أسلوب المخرج الشاب حتى في أفلامه القصيرة على التجريب بناءً على ما يقتنع به، وقد اقتنع بأفكار هذا الفيلم ومشاعره فصنعها، وتلك طبيعته في كلّ مرّة يشرع في صناعة عمل فني، حيث لا يضع في ذهنه نهائياً شكل الاستقبال الجماهيري ولا النجاح المنتظر.

ويؤكد الزهيري إدراكه أن هذا الفيلم تكتنفه مغامرة كبيرة، وهو مختلف تماماً عن الأفلام السائدة، سواء التجارية منها أو الفنية، حيث لا تتشابه طريقته مع الأفلام الأخرى، وعن ذلك يقول: "أعي الفارق بين أنواع الأفلام المختلفة، منتبهاً لأبعاد الفيلم التجاري وجمهوره المستهدف، وأدركت ذلك عند صناعة فيلم بمعطيات مشابهة لـ"ريش"، فلم أصنعه بهدف تحقيق إيرادات وجماهيرية من عدمه، لكن للتعببر عن أفكار شعرت بها، وهذه حدودي، إذ لا يمكنني التحكم في الجماهيرية، لكن يكمن دوري في صناعة عمل جيد".

وأضاف: "رغم بساطة قصة فيلم "ريش" وأسلوبه، لكن المشاعر والأفكار فيه عنيفة، وفوجئت بحجم الاستقبال والترحاب الذي حظي به الفيلم، ومن ثم أؤمن بأن المخرج عليه العمل الدؤوب، تاركاً ردود الأفعال تأتي وتتضح مع الوقت.

ثمة أفلام كثيرة صنعت في أوقات مختلفة ولا تزال تحتفظ ببصمتها حتى الآن، رغم أنها لم تحظ بقبول عند عرضها أو تعرضت للهجوم والانتقاد، وبمرور الزمن تتحول إلى علامات والعكس، وهناك أيضاً أعمال ناجحة وقت عرضها ولكن بمرور الزمن تختفي، إذاً فالحكم للزمن".

رسالة الفيلم

لا يفضل الزهيري أن يُنصّب نفسه مُرشداً للجمهور، فهو غير مهتم بتقديم دروس للجمهور، إنما يشغله طرح الأفكار عبر الشخصيات ويوضح قائلاً: "أحبذ الحكي عن البني آدميين "البشر"، طارحاً شخصيات تمر بتجارب ذات أفكار كثيرة، وأترك مساحة داخل كل مشهد، فلا أجعله متكاملاً بل أمرر "نصف" معلومة أو إحساس أو فكرة، وأكثر ما شغلني في هذا الفيلم هي الشخصيات التي تبدو غير مهمة أو مميزة "ليسوا أبطالاً"، وليست شخصيات سينمائية جذابة بل بسيطة للغاية، فانصبّ اهتمامي على اكتشاف عوالمها".

وأردف: "تبدو البطلة الرئيسية للفيلم سيدة ضعيفة دون أي معالم واضحة في شخصيتها، لكن يتضح للمشاهد بمرور الحوادث أنها قوية للغاية، فما كان يشغلني في الفيلم هو اكتشاف قدرات كل بطل، حريصاً على ألا يتحمل الفيلم أي تأويل، فلا يحتوي الفيلم أسماء للشخصيات أو أماكن نعرفها، فضلاً عن أن طريقة الحوار مختلفة وعالم الفيلم نفسه غير متعارف عليه، إذ شغلتني المشاعر العامة ولتخرج كيفما تخرج، فأحكي قصة منظمة للغاية وأفهمها جيداً لكن بأسلوب حر متغير كثيراً".

أبطال بلا خبرة

يفضل الزهيري العمل مع أشخاص بدون خبرة في التمثيل أو الوقوف أمام الكاميرا، حيث يوجههم توجيهات بسيطة دون تعقيد، وقد يستخدم الخطأ داخل الفيلم حيث يراه عنصراً حيوياً في بناء العمل، وهو ما يوضحه قائلاً: "أسلوبي قائم على محاولة رصد الحياة، واحترام عقلية الجمهور. فحكاية تجربة إنسانية والحكم عليها، ووضع عنوان لها أو اختزالها في قضية أو فكرة ما، هو نمط بعيد تماماً عما أفكر به، إذ أضع الجمهور في علاقة مع الفيلم وأراقبه وهو يتعايش معه تاركاً القرار له، فالقضايا والأفكار تتغير وتتبدل".

ولهذا فإنه يستعين بأشخاص عاديين لم يحترفوا التمثيل يوماً، الأمر الذي يعدّ مغامرة غير معروفة العواقب، وهو يبرره قائلاً: "هذا لم يكن خياراً إنتاجياً لتقليص النفقات، على العكس توافرت للفيلم إمكانات إنتاجية كبيرة مقارنة بأفلام مستقلة أخرى. لكنني أفضل أن أصنع عالماً خاصاً للفيلم له قوانينه، وأهم شيء في هذا العالم هم الناس الذين يعيشون في داخله، لم أكن أريدهم أن يمثّلوا شخصيات بعينها بأسلوب التمثيل المتعارف عليه، بل أردت أن يصدق الجمهور أنهم يعيشون في هذا المكان الذي صُنع بأكمله من الصفر".

واعتبر الزهيري أن الصعوبة لم تكمن في توجيههم بل في العثور عليهم، خصوصاً أن الأسلوب الذي انتقي به الممثلين في هذا الفيلم كان عكس المتعارف عليه، وهذا ما يفسره بالقول: "بدأنا العمل والتحضير عام 2016، وانتهينا من الوصول لكل الممثلين في 2019، حيث وجدنا الأم والطفلين من إحدى قرى البرشا في محافظة  المنيا (جنوب مصر)، بينما الأب ينحدر من الدلتا (شمال مصر)، وكنت مدركاً وواعياً لأسباب حاجتي لذلك، وذلك لأن الممثلين المحترفين لديهم علاقة تلقائية مع الكاميرا فيجيدون الحديث والنظر إليها، وكان الهدف خلق "عمل بكر" يفاجئنا، وهو ما أكسب هذه القصة التي تبدو خيالية قدراً كبيراً من الصدقية".

اشترك السيناريست أحمد عامر مع عمر الزهيري في كتابة الفيلم، ما يوحي أن الزهيري يفضل تأليف أعماله أو المشاركة في كتابتها لتبدو بصيغة "سينما المؤلف"، وهي المفضلة لديه كمخرج، رغم أنّ أفلامه لا تعتمد على قوة السيناريو بل على عالم الفيلم والممثلين.

مكاسب طويلة الأمد

حظي هذا الفيلم باهتمام جهاته الإنتاجية، عبر توفير ميزانية مشابهة للأفلام التجارية بجودة مرتفعة في استديوهات الصوت في فرنسا، يميل الزهيري للاختيارات الراديكالية في صناعة أفلامه، لذلك لم يكن متسرعاً في إنجاز هذه الفيلم الذي استغرق 6 سنوات لصناعته كي يخرج في الصورة التي يبتغيها.

يعتبر الزهيري أن الشيء الأهم الذي حققته هذه الجائزة للسينما المصرية تنبع من كونه تعلم ويعيش ويعمل في مصر، وكذلك الحال بالنسبة إلى فريق العمل، فهو فيلم مصري صنعه مصريون موضحاً: "معظمنا من متخرّجي معهد السينما، فهو فيلم لم يصنعه "أجانب" أو حتى أشخاص تلقوا تعليمهم في الخارج، ما يقوي وضع السينما المصرية ويعززها، خصوصاً مع فوز الفيلم المصري القصير "ستاشر" للمخرج سامح علاء، بجائزة السعفة الذهبية العام الماضي.

وأردف قائلاً: "أعتبرها عناصر إيجابية مكملة لبعضها البعض، وهي تأتي استكمالاً لأشياء كبيرة صنعت في السابق، لتؤكد أن السينما المصرية كبيرة وعظيمة وعريقة، وتمتد الى نحو أكثر من مئة عام، لكن لا استثمار كافياً في تسويقها في أوقات سابقة، على عكس الجيل الحالي (الذي أنتمي إليه)، فخلال السنوات الخمس الأخيرة، ظهر مخرجون يصنعون أفلامهم لا يحاولون من خلالها إرضاء أي طرف، سواء الجمهور أو المهرجانات، بل يصنعونها وفقاً لرؤيتهم وذائقتهم فخرجت أفلاماً جيدة".

درس عمرو الزهيري في معهد العالي للسينما بالقاهرة، إذ استهواه الفن وتملّكته الرغبة في أن يكون مخرجاً منذ أن كان في عمر 13 عاماً، وبجانب دراسته عمل كمساعد مخرج مع أهم المخرجين المصريين، مثل يوسف شاهين وشريف عرفة ثم يسري نصر الله لنحو ثماني سنوات، وتخلل ذلك العمل مع كاملة أبو ذكري وساندرا نشأت، كما عمل في أفلام مستقلة وتجارية مع أحمد عبد الله وتامر السعيد في "آخر أيام المدينة"، بجانب عمله في مجال إخراج الإعلانات.

أول أفلامه هو الفيلم قصير "زفير"، عام 2011، وتوّج بجائزة لجنة التحكيم بمهرجان دبي. في 2014 قدم عمر فيلمه القصير الثاني "ما بعد وضع حجر الأساس لمشروع الحمام بالكيلو 375"، وهو أول فيلم مصري تختاره مؤسسة سيني فونداسيون في مهرجان كان السينمائي.

 

النهار العربي اللبنانية في

30.09.2021

 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004