"انسحاق
وهزيمة" أمام أزمة فيلم "ريش"...
فنانون وأوصياء في معركة
"سمعة مصر"
نورهان مصطفى
'قطع المخرج
المصري أمير رمسيس التكهنات وتضارب الأنباء بشأن حقيقة استقالته من منصبه
مديراً فنياً لمهرجان الجونة السينمائي الدولي، معلناً من خلال "بوست" نشره
في تمام الرابعة والنصف من مساء الخميس 21 أكتوبر/ تشرين الأول، بتوقيت
القاهرة، أنه في طريق العودة من منتجع الجونة إلى العاصمة، بعد استقالته من
منصبه.
رمسيس الذي كان مسؤولاً عن البرنامج الفني والتدريبي للجونة
طوال خمس سنوات - منذ نشأة المهرجان- رفض الإفصاح عن أسباب استقالته
مكتفياً بقول إن "الأسباب التي تناثرت منذ تسرب الخبر عارية من الصحة".
وتناثرت أنباء عن خلافات بين رمسيس وإدارة مهرجان الجونة
احتجاجاً منه على الصياغة التي خرج بها بيان الرد على الهجوم الإعلامي الذي
لاقته إدارة المهرجان، بشأن اختيار فيلم "ريش" للمخرج عمر الزهيري -الحاصل
على جائزة النقاد بمهرجان كان السينمائي الدولي- للعرض ضمن برنامج مهرجان
الجونة. إذ تسببت تصريحات للممثلين شريف منير وأحمد رزق في إثارة هجوم
إعلامي على الفيلم والمهرجان بدعوى "تشويه صورة مصر".
تأتي استقالة رمسيس بعد عدة منشورات كتبها على
حسابه الشخصي في فيسبوك، أظهر خلالها غضبه من الهجوم الذي قاده عدد من
الفنانين أبرزهم شريف منير ضد فيلم "ريش" المعروض ضمن أنشطة مهرجان الجونة،
والفائز بعدد من الجوائز العالمية، أبرزها جائزة النقاد في مهرجان كان.
ليس من المؤكذ أن استقالة رمسيس مرتبطة بالهجوم الذي لاقاه مهرجان
الجونة بسبب عرض فيلم ريش، من إعلاميين محسوبين على بعض جهات الدولة. إلا
أن موقف المدير الفني للمهرجان يذكّر بتاريخ قريب، كان فيه الفنانون
المصريون يواجهون السلطات أحياناً انتصاراً لحرية الإبداع والتعبير.
ليس من المؤكد أن استقالة رمسيس مرتبطة بالهجوم الذي لاقاه
مهرجان الجونة من إعلاميين محسوبين على بعض جهات الدولة بسبب عرض فيلم ريش،
إلا أنه يذكِّر بتاريخ قريب كان فيه الفنانون المصريون يواجهون السلطات
أحياناً انتصاراً لحرية الإبداع والتعبير.
معركة "المصير"
مع ارتفاع حرارة صيف 1997، عرضَ المخرج الراحل يوسف شاهين
فيلم «المصير» على شاشة السينمات المصرية لأول مرة، اختار حينها أن يختم
الفيلم المُثير
للجدل بعبارة
للفيلسوف ابن رشد "الأفكار لها أجنحة، ماحدش يقدر يمنعها توصل للناس"، وهي
العبارة التي تُنسَب إلى ابن رشد نفسه، عندما لاحظ أحد تلامذته وهو يبكي
بحرقة على كتبه بعد قرار الخليفة يعقوب المنصور بحرقها.
كانت المعركة وقتها بسيطة وواضحة، لم يضطر معها الفنانون
إلى مواجهة الدولة وإنما إلى مواجهة التيارات الدينية التي احتجت على
تصويرها في الفيلم، وهي معركة عادة ما كانت الدولة تتركها من دون تدخل برغم
من أن اليترات الدينية حينذاك كانت ترفع شعارات تتصل بقيم الاسرة والمجتمع
وأخيراً الحفاظ على صورة مصر، وهي المصطلحات التي لم تعد حكراً على هذه
التيارات ويجري استدعاؤها الآن في ساحات
القضاء أو
على ألسنة فنانين وإعلاميين غير
محسوبين على التيارات الدينية.
الأمر ذاته تكرر مع فيلم شاهين "المهاجر" الذي أثار عرضه
أزمة مع التيارات الدينية التي اعتبرت أنه يسيء إلى الأنبياء وواجه شاهين
دعوات قضائية وتهديدات بالاغتيال. حينذاك وقفت الصحافة المصرية ومعها
الفنانون من خلال نقاباتهم من أجل الدفاع عن حرية التعبير والإبداع، ورفض
التهديدات ومحاولات الحجر، إلا أن الدولة اختارت التدخل من أجل فرض
التهدئة، خاصة بعدما أعلنت المؤسسة الدينية الرسمية "الأزهر" رفضها للفيلم،
ما أدى إلى قرار رقابي بمنع عرض الفيلم في مصر. واضطر شاهين إلى رفع دعوى
قضائية من أجل الحصول على حق عرض الفيلم في مصر وكانت تلك المحاكمة تجسيداً
لاتحاد الفنانين المصريين في مواجهة الحظر والرقابة على الإبداع.
معارك الفن مع الرقابة في مواجهة اتهامات "تشويه صورة مصر"
أو "الإساءة إلى سمعتها" أو لأسباب تستند إلى دعوات دينية متشددة، يعود
تاريخها إلى بدايات السينما الروائية في مصر. ورغم كل المعوّقات التي
قابلها الفنانون على مدار نحو 100 عام من الإبداع السينمائي، إلا أنهم لم
يتراجعوا عن مساندة الفن وإحياء قيم حرية الإبداع في وجه ما يعدونه
"ظلاماً"، إلا في السنوات الأخيرة التي شهدت تحولات سريعة تجلى أثرها قبل
أيام، وقت عرض فيلم "ريش"، للمخرج الشاب عمر الزهيري، خلال فعاليات مهرجان
الجونة السينمائي.
على عكس ما سبقه من أفلام ومعارك، لم يقف مقص الرقيب
بالمرصاد لفيلم ريش، ليفاجأ صانعوه بمقص زملائهم من الفنانين المصريين يقف
لهم بالمرصاد.
على عكس ما سبقه من أفلام ومعارك، لم يقف مقص الرقيب
بالمرصاد لفيلم ريش، وإنما فوجئ صانعوه بمقص زملائهم من الفنانين المصريين
يقف لهم بالمرصاد.
فن "مؤذٍ للعين"
"الفيلم أساء لسمعة مصر. أسرة عايشة في عذاب بشكل غير طبيعي
وشكل مؤذي وقذارة رهيبة وشكل مش حلو أبدًا خلاني اتخنق من الفيلم ... مش
عارف إدوه الجائزة على إيه، أنا ضد منعه. لكن الفن ينقل الواقع مجملًا
وأعطاني إحساس بأن الفيلم تسجيلي روائي قصير".
تصريحات شريف منير دعت المتابعين إلى استدعاء عدد من
الأفلام المهمة التي شارك فيها الممثل نفسه وتعد من علامات السينما المصرية
والعربية، وابرزها فيلم «الكيت كات» 1991، المأخوذ عن رواية "مالك الحزين"
للروائي المصري الكبير الراحل إبراهيم أصلان الذي يستكشف في أعماله نسيج
العلاقات في الأحياء الشعبية الفقيرة وبخاصة حي "الكيت كات" بالقاهرة
الكبرى.
في الفيلم الذي أخرجه داوود عبد السيد وتصدر موقعاً مميزاً
في قائمة أفضل 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية، نتابع العلاقات الفاسدة
والمتفسخة داخل حارة مصرية يطحنها الفقر، من خلال البطل "الشيخ حسني"،
الكفيف الذي يعيش مع أمه المسنة وابنه الشاب المحبط العاطل عن العمل الذي
لا يجد مستقبلاً نافعاً في مصر فيقضي حياته باحثاً عن فرصة للهروب من خلال
الهجرة، لكن كل سعيه يبوؤ بالفشل. وهو الدور الذي لعبه شريف منير نفسه،
واستدعاه زملاؤه من الفنانين في معرض تعليقهم على تصريحاته.
تاريخ المنع والمواجهة
كانت المواجهات التي يجيش فيها الفنانون أنفسهم للدفاع عن
حرية الإبداع حاضرة في خلفية المشهد الفني مُنذ زمن بعيد، فمع عرض أول فيلم
ناطق على شاشة السينما المصرية، «أولاد الذوات»، بطولة يوسف وهبي، 1932،
تدّخل الرقيب وسُحبَ الفيلم لأن الصحف الفرنسية هاجمته واتهمت صنّاعه
بالتعصب، لأنهم صوروا بطلة الفيلم الفرنسية بصورة غير لائقة. خشي "قلم
الرقابة" أن يتسبب الفيلم في أزمة دبلوماسية مع فرنسا، فمُنع وفق البند
الخامس من الممنوعات الخمسة «منع ما يؤدى إلى مشاكل سياسية أو دولية حتى
إشعار آخر». وبحسب كتاب "سلطة السينما... سلطة الرقابة" للباحثة أمل عريان
فؤاد، تحركت قوات البوليس المصري كي توقف عرض الفيلم في السينمات. ما استدعى هبة
فنية وصحافية للانتصار إلى حرية الإبداع على خلفية وطنية، باعتبار معركة
عرض الفيلم؛ معركة ضد تحكمات الاستعمار الأجنبي.
كانت المواجهات التي يجيِّش فيها الفنانون أنفسهم للدفاع عن
حرية الإبداع حاضرة مُنذ بدايات السينما المصرية
من 1932 إلى 1983، ظلّ مقص الرقيب موجودًا، إذ تم الهجوم
على فيلم "خمسة باب"، بطولة نادية الجندي وعادل إمام، إذ جرى اتهامه بـ"خدش
الحياء" و"الإساءة لسمعة مصر"، ما أدى إلى منع عرضه، وتكبّد صناع الفيلم
خسائر فادحة.
رغم الخسائر المادية والمعنوية، تضامن الفنانون المصريون مع
زملائهم من أبطال العمل ضد الرقابة والمنع. قالت الفنانة نادية الجندي خلال
أحد اللقاءات الصحافية حول قرار منه الفيلم: "هناك زملاء لم تربطني بهم سوى
الزمالة الفنية. ساندوني ووقفوا معي، منهم الفنانة مديحة كامل التي كانت
تتصل بي يوميًا".
لا تنسى نادية الجندي أيضًا موقف زميليها كمال الشناوي
وفاروق الفيشاوي، كلاهما رفض أن ينتهز الفرصة ويهاجم الفيلم، بل أرسلا
إنذارًا للرقابة على المصنفات الفنية لإيجاد حل من أجل استمرار عرض الفيلم
في دور السينما، وبالفعل تم إعادة الفيلم لدور العرض مرة أخرى، بسبب تضامن
الفنانين مع زملائهم.
في العام نفسه، 1983، كانت السينمات المصرية تعرض فيلم "درب
الهوى"، بطولة أحمد زكي ويسرا، وواجه الفيلم نفس التهمة أيضًا "الإساءة إلى
سمعة مصر"، فتم منعه من العرض أيضًا حتى تتساوى الرؤوس، لكن جاء رد الفنان
الراحل أحمد زكي، متحديًا المنع، بعد منع فيلمه "العوامة رقم 70":
"الصدق... [يجب أن] نواجه مشاكلنا أحسن ما ندفن راسنا في الرمل".
المخرج محمد دياب: "لو الفنانين نفسهم هم اللي بقوا بيرددوا
الاتهامات اللي من نوعية تشويه مصر فدي مصيبة"
بصيصٌ من الأمل
رغم قيادة شريف منير وفنانين آخرين للحملة ضد أشكال يجدونها
"غير وطنية" من الإبداع ممثلة في فيلم "ريش"، هناك بعض الفنانين الذين
تذكروا أدوارهم في الدفاع عن حرية التعبير، إذ قال المخرج محمد دياب الذي أبدى انزعاجه
من تصريحات شريف منير: "لو الفنانين نفسهم هم اللي بقوا بيرددوا الاتهامات
اللي من نوعية تشويه مصر فدي مصيبة. لأن الكلام ده فيه مزايدة على الرقابة
وعلى منتجي الفيلم وعلى المهرجانات اللي بتختار الأفلام، وهيخلي أي فيلم عن
المهمشين متهم بالتزلف وبيصعب أنه ينتج أو يُجاز [رقابياً]، وللأسف الكلام
ده بيخلي الرأي الشعبي يبقى دايماً حاطط أفلام المهرجانات في وضع المتهم:
أكيد اختاروا الفيلم عشان سبب غير مستواه الفني".
واعتبر دياب أن تصريحات الفنانين المهاجمين للفيلم بدعوى
"الإساءة إلى سمعة مصر" يرددون "كلام فيه انسحاق وهزيمة. وكأننا معندناش
القدرة نعمل حاجة كويسة، بمنطق أستاذ شريف كان هينسحب من عرض الفيلم العظيم
(الكيت كات) اللي كان بطله وقدم فيه دور عظيم وكنا اتحرمنا من أعظم فيلم
مصري".
وربمّا كان سيخفُت كل هذا الجدل المُثار حول "ريش" لو صدَّر
المخرج عمر الزهيري مقدمة الفيلم بالجملة المكررة "الكليشية" الأشهر على
تترات الأعمال الدرامية المصرية: "تنويه: قصة الفيلم من وحي الخيال، ولا
تمت للواقع بأي صلة، وأي تشابه بين شخصيات الفيلم وبين الواقع، هو من وحي
خيال المخرج"، كما فعل يوسف شاهين حين خرج من معركة فيلم المهاجر بكتابة
تلك الجملة بالعربية على نفس الكادر الذي كتب فيه تصديراً بالفرنسية يخرج
فيه لسانه للجميع. |