رؤية أخرى لفيلم “ريش”: الحضورُ كدجاجةٍ، الغيابُ كإنسان!
هدى جعفر
تقول الأسطورةُ الفرعونيةُ، أو ما اشتُهر منها، أنّ الإله
سِت دبّر مكيدةً لأخيه أوزوريس ووضعه في صندوقٍ خشبي أمام الحضور لم يخرج
منه حيًا، أما هُنا يدخل الزوجُ إلى صندوق الساحر فيستحيل دجاجةً!
الفيلم المصريّ “ريش” للمُخرج عمر الزهيري، تردّد اسمه في
مهرجان “الجونة” السينمائيّ أكثر من اسم عائلة سويرس شخصيًا بسبب الضجة
المُثارة بعد تصريح الممثل الشهير شريف مُنير بأنّه يُقدّم مصر بصورة سيئة،
وانسحابه من الفيلم مع مجموعة من الممثلين.
قبل “الجونة”، عُرض فيلم “ريش” في المسابقة الرسمية لأسبوع
النقاد الدولي التي تقام ضمن فعاليات مهرجان كانّ السينمائي لهذا العام،
وفاز بالجائزة الكُبرى، وقد زاد من ذيوع الخبر آنذاك هو مشاركة السيدة
دميانا نصّار، الأميّة القادمة من عُمق الصعيد، وهي التي كان حلم التمثيل
يزورها منذ سني حياتها المُبكّرة حتى تحقق أخيرًا في “ريش”
بعد مشاهدة الفيلم يُعرف على الفور بضرورة تنحية اتهام
الإساءة لسمعة مصر جانبًا، لأنّ في الفيلم ما هو أهم!
لماذا “ريش” وليس “دجاجة”؟
الريش يدلُّ على الدجاجة، لكنّه ليس هي، إنّه جزءٌ منها،
مهمٌ وزائدُ عليها في نفس الوقت، ليس لريش الدجاج مكانة تُذكر مقارنة
بالنعام، والطاؤوس، والإوز، وهذه الحقيقة البسيطة هي ما يقوم عليها الفيلم
ذو الساعتيْن تقريبًا.
تمرّ الدقائق الأولى ونحن نتابع حياة أسرة مكونة من زوجين
وثلاثة أطفال، في بيتٍ شديدة الكآبة والقذارة، القذارة في الفيلم مُلفتة
فعلًا، لا تبدو الأمور على ما يُرام، الأم صامتة، والأب يأمر ويُثرثر،
ويُقرر أن يحتفل بعيد ميلاد أحد أبنائه، في الحفل فقرة للساحر ومعاونه،
يدخل الأبُ في الصندوق الخشبي، أمام الحضور، فيُخرج الساحر دجاجةً بدلًا
منه، ثم تخرج الأمور عن السيطرة.
إنّه بيتٌ مُختَرق، بلا حُرمة، ينتهكه السحرةُ، ودخانُ
المصانع، والدواب، والتُحف الغريبة، والبيض المقذوف من الخارج.
في “ريش” لا أحد يقوم بدوره كما يجب، حتى الصندوق يعجز عن
ذلك، فتحصلُ الأسرة على دجاجة ويختفي الأب، وينطلي على المشاهدين، لعب
الحواة: الحاوي في الفيلم، والحاوي خلف الكاميرا!
إلام يقودُ هذا الفيلم
الأفلام التي تبدأ بدُعابة وتنتهي بكارثة تملأ القائمة،
وفيلم “ريش” أحدها، يبدو الفيلمُ كعملٍ تسجيليّ، لحظات الصمت، واللقطات
المطوّلة، والكاميرا الثابتة أمام حركة الشخوص والأشياء، قد تكون البداية
مملة قليلًا لكن الحياة تدبّ في أطراف الفيلم بمرور الوقت، فيقومُ، ويجلسُ،
ويرقصُ، ويدورُ حول نفسه.
نتابعُ مع الزوجة الصامتة، كأي حيوانٍ آخر، تحايلها على
مصاعب الحياة كي تُربي أولادها وتستعيد زوجها في صورته البشريّة، يمتلئ
الفيلمُ بالحيوانات، ومعضلة البطل مع تحوّله القسري يجعلنا نتساءل: هل هذه
الحيوانات، هي حقًا حيوانات!
“ريش”
بالغ القذارة كما هو بالغ الغرابة، حتى بيوت الأغنياء تُثير القرف، مشهد
تناول الكلب لقطع اللحم على حافة المسبح مثلًا، إنّها قذارة لهدفٍ فنّي،
وأيضًا، يا للغرابة!، لهدفٍ جماليّ، يمنح الإحساس بأنّنا في حظيرة كبيرة،
الشعور بالضيق، وعدم الراحة، والاشمئزاز ينتقل إلى المشاهدين، هذه العدالة
في توزيع الجمالُ والقُبح قانونٌ سينمائي معروف، وإلا لماذا هي السينما من
البداية؟
حتى الدمامة المعنويّة كانت مُستهدفة: المدير وهو يُجاري
فايزة أحمد بأدائه النشاز في ذلك الظرف الزماني غير المُلائم، والسيّدة
المسئولة عن التوظيف تظهر مُجزّأة، كعبٌ عالٍ وطلاء أحمر وسجائر، وكأنّها
مومس تمنح المال لا العكس.
التقتيرُ،
السُدى، اليأسُ، القهرُ اليوميّ، كلها وجوه أخرى للفيلم، حاضرة ومُركّزة.
العجيب أنّه بالرغمِ من محليّة “ريش” إلا أنّ مصر كانت
غائبة، ولولا اللهجة والموسيقى لما خطرت على البال!
تحيةٌ كبيرةٌ لطاقم التمثيل، خاصة الزوج، وزبائن المطعم،
والمدير المُتحرش، أمّا السيدة الجميلة دميانة نصار فقد كانت على السجادة
الحمراء أكثر تركيزًا وحضورًا منها في الفيلم.
للموسيقى أثر كأنّها أحد الأبطال، أوّل الأغاني ظهرت في
الدقيقة 46 تقريبًا، وعززت المعنى باستخدامِ التنافر، كنكتةٍ في مجلس عزاء،
وإن شاب هذا التنافر قليل من السذاجة، كأن ينتهي الفيلم بأغنية “الصُبحية”
لفرقة “المصريين” دون غيرهم، لكن رقص الرجل المُلتحي على “سوّاح”، وتوزيع
بليغ حمدي لأغنية “قصة حُب” وازن ما مال!
إين يذهب الريش؟
إنّ التشكيك بقيمة الأفلام الحاصلة على دعمٍ أجنبي في
منطقتنا أمر لا غبار عليه، فقد أثبتت تجارب عديدة أنّها أفلام شحيحة
الجماليات في مُعظمها، وأنّ قبولها من قِبل المانح الأجنبي غالبًا ما يكن
لأسباب بعيدة عن المستوى الفنّي، ولها علاقة بصورة “الآخر” لدى “الآخر”،
فهل كان المُنتج الفرنسي سيقبل فيلمَ “ريش” إن كان أكثر نظافة؟ بصراحة هذا
سؤال غير مهم الآن، لأنّ ميزات الفيلم أكثر من عيوبه بما لا يُقاس.
التطرّف في القذارة كان ضروريًا وإن بولغ فيه، مشهد رمي
الشعر في المرحاض مثلًا، إنّها تلك القسوة الساحرة التي جعلت بعض الرسامين
يخلّدون المذابح، وجعلت حرق الجثث في فيلم “قائمة شندلر” أو سفك الدماء في
“كِل بِل” تارانتينو تُغري بالإعادة أكثر من مرة، الفن يتغذّى على المآسي،
والقُبح، والألم في معظم حياته المديدة، وإن غابت هذه الحقيقة عن الجماهير
فهي مشكلة جوهريّة.
كل شيء في الفيلم شاذ، وغير مُريح، وكابوسيّ، حتى رقص
الأقارب في عيد الميلاد، وهذه الروح تنسجم وجسد الفيلم، ورفض العمل لهذه
الأسباب، يُشبه انتقاد أفلام الرجل العنكبوت لأنّ البشر لا يطيرون في
الواقع!
“ريش”
فيلم ذكي، وجميل ومُمتع، قبحه وجماله شيءٌ واحد، لا يُمكن الفصل بينهما
وإلا ستختل الصورة برمّتها فلن تُجدي حينها.
يقول الزوج قُبيل الفاجعة واصفًا التحفة الغريبة أنّها
“بتدّي جمال للمكان، وف نفس الوقت شيك”، هذه الجُملة المُريبة التي
يُكرّرها الزوج غير مرّة خير ما يُمكن أن يصف “ريش” بعد كل تلك “البعثرة”،
وبقدر اتساع الصور والمعاني خلف كلمتيْ “جمال” و”شيك” يكُن استيعاب الفيلم،
واستيعاب السينما أيضًا. |