كما جاء مُعظم مُخرجي الواقعية الجديدة من قلب السينما
نفسها بصناعتهم للأفلام التسجيلية قبل عملهم في مجال السينما الروائية
الطويلة؛ راغبين، في ذلك، تغيير وجه السينما المصرية وما تقدمه من أفلام
تغييبية، آملين في التعبير عن الواقع وما يعاني منه البسطاء من الناس، كان
داود عبد السيد، كذلك، من هؤلاء المُخرجين الذين قدموا رؤاهم السينمائية في
شكلها التسجيلي قبل التفكير في تقديم أفلامه الروائية الطويلة.
تخرج داود عبد السيد في المعهد العالي للسينما في نفس العام
الذي تخرج فيه المُخرج خيري بشارة 1967م، وعمل كمُساعد مُخرج مع المُخرج
كمال الشيخ في فيلمه "الرجل الذي فقد ظله" 1968م، ثم مع المخرج ممدوح شكري
في فيلمه "أوهام الحُب" 1970م، والمُخرج يوسف شاهين في فيلم "الأرض" 1970م،
أي أنه لم يفكر في صناعة فيلمه التسجيلي الأول الذي يقدم من خلاله رؤيته
السينمائية- وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم- إلا في عام 1976م بعد
تسع سنوات من تخرجه في معهد السينما وعمله كمُساعد مُخرج في ثلاثة أفلام
سينمائية.
لم يحب عبد السيد
عمله كمُساعد مُخرج مع غيره من المُخرجين؛ ولعل هذا هو ما دفعه للتفكير في
صناعة فيلمه التسجيلي الأول، وفي هذا الأمر يقول: "لم أحب مهنة المُساعد،
كنت تعسا جدا وزهقان أوي، لم أحبها، إنها تتطلب تركيزا أفتقده، أنا غير
قادر على التركيز إلا فيما يهمني جدا، عدا ذلك، ليس لدي أي تركيز"[1]،
أي أنه لم يجد نفسه إلا فيما يمثل رؤيته السينمائية الخاصة، وليس ما يمكن
أن يمثل رؤية غيره من المُخرجين؛ لذلك بدأ التفكير في صناعته سينماه التي
تخصه وحده.
مثل غيره من المُخرجين الجُدد الذين مثلوا اتجاها خاصا في
السينما المصرية، فيما بعد، رغب عبد السيد أن يُعبر عن رؤيته للواقع
وللسينما من خلال منظور مُختلف يخص ثقافته وحده، مُخالفا في ذلك الاتجاه
السائد في السينما المصرية، وهو الاتجاه الذي يرى أن الإلهاء والتسلية
والتغييب عن مشاكل الواقع هم أفضل السُبل من أجل تقديم سينما ترفيهية لا
يعنيها ما يدور حولها، بقدر ما يعنيها أن تكون مُنكفئة على ذاتها وعالمها
من دون التشابك مع الواقع المصري الحقيقي- أي أن مُعظم صُناع السينما في
هذه الفترة كانوا يرون أن السينما مُجرد فن ترفيهي لا يعنيه ما يدور في
المُجتمع المصري سواء على المستوى السياسي، أو الاجتماعي، أو الاقتصادي؛
ولذلك ابتعدوا في مُعظم تجاربهم السينمائية في السبعينيات من القرن الماضي
عن معالجة هذه الأمور أو مُجرد التعرض لها بجدية، وفضلوا على ذلك أن يعملوا
على المزيد من إلهاء المُشاهد في سينما لا تخصه، ولا تقدم له شيئا مُهما؛
وهو الأمر الذي أدى إلى سقوط السينما المصرية، في هذه الحقبة الزمنية، إلى
الحضيض؛ فقدمت أضعف أفلامها من الناحية الفنية.
جاء داود إلى
السينما من خلال هذا الواقع السينمائي الضحل؛ ولأنه من المُخرجين الذين
عاشوا صخب الأحداث المتواترة منذ 1952م بثورتها العسكرية، والحقبة الناصرية
ذات المد القومي، ثم الهزيمة العظمى والانكسار في 1967م، ثم فترة السادات
الاستهلاكية التي أدت إلى المزيد من الاندحار واليأس للمواطن المصري، والتي
زادته فقرا على فقره، فضلا عن شيوع الفساد في كل المجالات، ثم انتصار 1973م
الذي تلاه مُعاهدة كامب ديفيد واتفاقية السلام التي زادت المصريين- لا سيما
المُثقفين منهم- قنوطا ويأسا وانكسارا على كل المستويات. نقول: إن عبد
السيد كان ابن هذه الأحداث الصاخبة المتواترة التي جعلته- هو وغيره من
المُثقفين والمُخرجين- يتأملون الواقع وما يدور فيه عن كثب من خلال ثقافتهم
التي استقوها؛ ومن ثم كانت لديهم الرغبة في إعادة ترتيب هذا الواقع؛ لفهم
آلياته، وما ذهبت إليه الأحداث، وما يمكن أن تؤول إليه. هذا التأمل جعله
يقدم فيلمه التسجيلي الأول "وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم" 1976م
الذي لم يعمد فيه إلى "التسجيل المُباشر للواقع الذي يريد أن يلقي بالضوء
على سلبياته، وإنما يعمد إلى التناقض الكامل بين شريط الصورة والصوت؛ فأنت
تسمع صوت "الرجل الحكيم" يتحدث بطريقة الخطاب الرسمي خلال السبعينيات. يبدو
في ظاهره بليغا مُؤثرا، لكنه في أعماقه يُخفي قدرا مُفزعا من الجهل بحقيقة
الواقع أو تجاهله، فكل وصايا هذا الرجل الحكيم تدعو إلى أن نترك القرية على
حالها، بينما ترى بعينيك على الشاشة هذه الحال التي لا تليق بالحياة
الإنسانية؛ لذلك فإن الفيلم يريد- من خلال الوعي بجمالياته- أن يحرضك على
أن تسعى إلى إصلاح هذا الواقع أو تغييره، من خلال تغيير السياق الذي صنعه"[2].
إذن، فلقد كان المُخرج مُشتبكا مع قضايا مُجتمعه، راغبا في
تصحيح الكثير من الأوضاع التي انقلبت إلى فوضى حقيقية بعد العديد من
المُمارسات السياسية والاقتصادية التي مارستها الأنظمة السياسية؛ مما ترك
بأثرها السلبي على المُجتمع المصري، وهو من خلال هذا الفيلم يؤكد أن
السينما- التسجيلية منها والروائية- ليست مُجرد فن ترفيهي يعمل على تغييب
الوعي والانسلاخ عن قضايا الواقع، بل هي فن لا بد له من الاشتباك ونقاش
الأزمات التي تمر بها المُجتمعات من أجل محاولة إيجاد حلول لها، وإلا انهار
المُجتمع بالكامل إذا ما استسلم لأزماته.
في عام 1979م يقدم
عبد السيد فيلمه التسجيلي الثاني "العمل في الحقل" عن الفنان التشكيلي حسن
سليمان و"العمل في الحقل هو اسم لوحة تشكيلية للفنان الكبير حسن سليمان،
وهي تُصور بقرتين تجران عربة "النورج" الصغيرة في عملية درس القمح. حركة
النورج في دائرة مُغلقة لا تنتهي إلا لكي تبدأ من جديد في دورة لا نهائية،
نراها أيضا في السواقي القديمة، ونعرفها في دورة الشمس والكواكب، وتعيشها
حياة الكائنات ومنها البشر؛ حيث تهدف الحياة في جوهرها للاستمرار من أب وأم
إلى أبناء يعيدون سيرة الآباء والجدود"[3].
من خلال هذه اللوحة وغيرها من لوحات الفنان التشكيلي حسن سليمان، ومن خلال
تأمل عبد السيد لهذا العالم الفني استقى فيلمه الجديد مُطلقا عليه اسم لوحة
سليمان نفسها؛ حيث قدم عالما فنيا يهتم بما يفعله الفنان محاولا تأمل هذا
العالم.
يقول الناقد أحمد
يوسف عن هذا الفيلم: "في "العمل في الحقل" تجربة فريدة في عالم الفيلم
التسجيلي؛ فهو للوهلة الأولى يبدو كأنه يُحاكي الأفلام التسجيلية التي تحصر
نفسها في دائرة الحديث عن لوحات تشكيلية لفنان بعينه- هو هنا الفنان حسن
سليمان- لكن الفيلم في جوهره رحلة في وجدان ووعي الفنان حسن سليمان، بل في
وجدان ووعي الفنان داود عبد السيد نفسه. (إن هذه الحالة من التوحد بين
شخصيات الفيلم وبين صانعه هي إحدى سمات السينما المصرية الجديدة، لكنها سوف
تصبح أقوى عناصر داود عبد السيد الجمالية التي تمنح أفلامه حرارة وصدقا)،
وكما لجأ داود عبد السيد إلى التناقض بين شريطي الصورة والصوت في "وصية"،
فإنه يصنع هنا تقابلا بين لوحات الفنان حسن سليمان وعالمه الفني من ناحية،
والواقع الذي استمد منه الفنان مادته من ناحية أخرى، أو التقابل بين
"الأتلييه" المُغلق، والحياة الحقيقية خارجه. كان إذن طرفا التقابل عنده
(وسوف يستمران كذلك) المُثقفون والبسطاء، أو الفن والحياة، طرفان يخوضان
دائما صراعا جدليا، ولنتأمل كيف يشير الفيلم إلى أن الفنان حسن سليمان في
كهولته ووحدته وابتعاده عن الحياة قد هجر موضوع "العمل في الحقل" الذي كان
أثيرا عنده في شبابه؛ ليختار موضوع البحر مُترامي الأطراف، فكأن داود عبد
السيد يلخص، في بلاغة شاعرية، كيف يمكن للفنان أن يحمي نفسه من الانزلاق
إلى مأزق الوحدة والتشاؤم بأن يظل مُؤمنا على الدوام بضرورة "العمل في
الحقل"، حقل الواقع والفن في آن واحد"[4].
ربما يؤكد داود من خلال هذا الفيلم أنه مُخرج صاحب مزاج
سينمائي خاص، وكما سبق أن قال: إن العمل في مشاريع غيره السينمائية تفقده
الكثير من التركيز، أو لا يستطيع التركيز فيها، فهو هنا يؤكد هذا القول
حينما يلجأ إلى صناعة هذا الفيلم الذي يهتم اهتماما خاصا بشخصية الفنان حسن
سليمان وعالمه الفني الخاص، وهو العالم الذي جذب داود إليه، ولم يكن ليجذب
غيره من المُخرجين لتأمله ومحاولة تقديم فيلم خاص عنه؛ لذلك فعبد السيد
يؤكد أنه راغب في تقديم سينما خاصة جدا، لا بد أن تمسه هو شخصيا أولا؛ كي
يبدأ في التحرك والتفكير فيها من أجل صناعة فيلم سينمائي جديد.
لم ينتظر عبد السيد كثيرا بعد فيلمه "العمل في الحقل"؛ فقدم
في العام التالي مُباشرة- 1980م- فيلمه المُهم "عن الناس والأنبياء
والفنانين" وهو الفيلم الذي صنعه داود عن الفنان التشكيلي راتب صديق
وزوجته، ولعلنا نلاحظ أن اهتمام المُخرج بالفن التشكيلي والفنانين كانا من
أهم ما يميزانه، أي أنه كان له اتجاه خاص في تأملهم وصناعة الأفلام
التسجيلية عنهم، وهو الأمر الذي سيفسر لنا، فيما بعد، الاهتمام البيّن
بالصورة في أفلامه الروائية القادمة- حيث الكادر السينمائي عبارة عن لوحة
تشكيلية مُتكاملة ومُختارة بعناية- بل واهتمامه بتحويل الأفكار-أيا كانت-
إلى صورة سينمائية- سنلحظ في أفلامه الروائية القادمة الكثير من الأفكار
سواء كانت دينية، أم فلسفية، وهي ما نجح في تحويلها من مجرد أفكار مُجردة
إلى صورة مُتحركة ثرية تحمل داخلها العديد من المستويات المُتباينة- أي أن
داود لم يكن مُجرد مُخرج سينمائي راغب في تقديم سينما مُختلفة فقط، محاولا
الاشتباك مع الواقع وفقا لرؤيته وأفكاره السينمائية التي تدور في ذهنه، بل
كان فنانا يعمل على صياغة وصناعة فن مُختلف يحمل بصمته وحده، وكأنه يعيش
داخل عالمه/ أفكاره التي من المُمكن لها الاشتباك مع الواقع أو الإسقاط
عليه، كما يمكن لها أن تظل مُغلقة ومُنكفئة على ذاتها وجمالياتها الخاصة
مُمثلة لعالم مُتكامل من الأفكار التي من المُمكن لنا وصفها بأنها أفكار
فنية رغم فلسفيتها وتجريدها في بعض الأحيان.
في عام 1985م قدم
المُخرج فيلمه الروائي الأول "الصعاليك"، وعن هذه اللحظة يقول: "عشت أحلم
بهذه اللحظة، وللأسف رحلتي مع الأفلام التسجيلية لم تُحقق أي شيء؛ لأنه لا
يوجد من يهتم بها، وطالما نادينا بعرضها في دور السينما قبل الفيلم
الروائي؛ ومن هنا وجدت أنه لا يمكن الوصول لعقل المُشاهد إلا من خلال
الفيلم الروائي الطويل"[5]،
يدور الفيلم عن مفهوم الصداقة بين اثنين، ورغم أن الفيلم كان يعنيه في
المقام الأول هذا المفهوم- الصداقة وتحولاتها- إلا أنه لم يكن مُنفصلا عن
نقاش الواقع والمُجتمع الذي يعيش فيه، لا سيما فترة الانفتاح الاقتصادي
وأثرها على المُجتمع المصري من انهيار منظومة الأخلاق والقيم والمُثل. تدور
قصة الفيلم حول صديقين من الصعاليك/ هامش المُجتمع هما "مرسي"، و"صلاح"
القاطنين في الإسكندرية. يتزوج الأول من "صفية"- إحدى بائعات الهوى- ويصدم
مُرسي بسيارته أحد الشباب، ويُحكم عليه بالسجن، ويتكفل صلاح بزوجته وابنه،
وعقب ذلك يتجه الاثنان إلى صفقات تهريب المُخدرات التي تنقلهما من قاع
المُجتمع إلى قمة الثراء والنفوذ.
إن مفهوم الصداقة الذي كان يعني داود في فيلمه يوضحه من
خلال نموذجيه: مُرسي وصلاح، وهو من خلال هذا المفهوم يحاول دائما الربط بين
ثنائية العقل والقلب؛ فأحدهما شديد العقلانية، ولا يمكن أن يخطو خطوة واحدة
في حياته قبل تحكيم عقله أولا، بينما الثاني يترك نفسه وأفعاله لمشاعره
وانفعالاته. هذه الثنائية رغم أنها ستكون الرابط الأساس بينهما، إلا أنها
ستكون السبب أيضا في قتل أحدهما للآخر في نهاية الفيلم؛ فرغم أننا في بداية
الفيلم نرى كل منهما يريد التضحية بنفسه من أجل الآخر، إلا أننا حينما نصل
إلى نهاية الفيلم، وبعدما يتركا طبقتيهما الفقيرة إلى قمة المُجتمع
الاستهلاكي سنجد العقل هو الذي يتغلب؛ وبالتالي يقتل مُرسي صلاح؛ لأن صلاح
الذي تركته حبيبته "مُنى" لا يريد الاستسلام لمافيا الانفتاح الاستهلاكي
ممن عملوا على تخريب البلد؛ ومن ثم يرغب في الإبلاغ عنهم؛ فيقتله مُرسي.
إننا في هذا الفيلم أمام رحلة تتأمل المُجتمع المصري في
فترة الانفتاح التي دمرت كل شيء في مصر؛ فنرى في بداية الفيلم مُرسي وصلاح
اللذين يلطخان ثياب أحد الرجال الأرستقراطيين لمُجرد اللهو وترك بصماتهما
على ثيابه، ثم يمران ضاحكين على ما فعلاه، وكأنهما لا يرغبان من هذا الفعل
إلا اللهو وترك بصماتهما اللاهية، والمُنتقمة من هذه الطبقة الاجتماعية
التي لا يمكن لها أن تشعر بهما ولا تدري عنهما أي شيء، لكننا سنلاحظ من
خلال هذه الرحلة صعود هذين الصعلوكين إلى قمة المُجتمع الاستهلاكي
الانفتاحي بمُتاجرتهما في المُخدرات؛ وهو الأمر الذي سيجعلهما يلوثان
المُجتمع أيضا تاركين بصماتهما عليه، أي أن هذه الطبقة مع صعودها لا يمكن
لها إلا أن تترك بآثارها على المُجتمع بالكامل، وهما في ذلك لا يمكن
لومهما، كما نلاحظ أن المُخرج لا يدينهما؛ لأن سياق المُجتمع وما يتم
مُمارسته من سياسات داخله هي التي أدت إلى تفريخهما؛ ومن ثم فهما لا ذنب
لهما فيما هما فيه، بل السياق بالكامل هو السبب في حياتهما، وفي تلويثهما
للمُجتمع المصري. ولعل داود كان عامدا إلى وصول هذا المعنى لنا في فيلمه
حينما رأينا مشهد البداية يتكرر مرة أخرى في نهاية الفيلم رغم قتل أحدهما
للآخر، لكنه يريد التأكيد على أن هذه الدورة من التلويث ستستمر ولن تنتهي
إلا إذا تغير المُجتمع بالكامل وعمل على تأمل أسباب هدمه وتلوثه؛ لذلك
نستطيع وصف من أوصل المُجتمع المصري إلى هذه الدرجة والانهيار من خلال
مُمارسة العديد من السياسات الاقتصادية والسياسية بأنهم هم الصعاليك
الحقيقيون، وليست شخصيات الفيلم- مُرسي وصلاح ومن يدورون في فلكهما.
هنا، في هذا الفيلم،
يحرص المُخرج على إعمال ذهنه، وتأمل ما يدور من حوله، والعمل على تحليله؛
لنصل في النهاية إلى أسباب الانهيار علّنا نعمل على تجنبها وتصحيح الأوضاع.
وإذا كان داود يحاول التأكيد دائما على أن فيلمه لم يكن يحمل أي شكل من
أشكال الإسقاط السياسي، ولا يعنيه الحديث عن فترة الانفتاح: "موضوعي
الصداقة بين شابين، وكان من المُمكن أن تدور العلاقة في جو آخر غير
الانفتاح؛ فالصعاليك ليس عن صعود اثنين، بل عن صداقتيهما"[6]،
فنحن لا يمكن لنا الذهاب معه فيما ذهب إليه؛ لأنه هو نفسه يقول: "أي عمل
فني جيد هو أشبه بالبئر الذي كلما نزلت فيه أكثر؛ كلما حصلت على مياه أنقى
وأعذب، وبالتالي ستأخذ منه على قدر الجهد الذي ستبذله"، أي أننا حتى لو
ذهبنا إلى ما ذهبنا إليه من أن فيلمه كان يهتم أكثر بآثار الانفتاح
الاقتصادي على المُجتمع المصري، وما آل إليه، وما سيؤدي إليه الأمر في
النهاية؛ فنحن لسنا مُتجاوزين في هذا التفسير؛ لأن العمل الجيد أشبه بالبئر
كما ذهب هو نفسه.
رغم أن داود عبد
السيد من المُخرجين الذين لا يمكن فصلهم عن موجة الواقعية الجديدة في
السينما المصرية، ورغم أن كل نقاد السينما تقريبا وضعوه في هذا التصنيف،
إلا أننا نلاحظ أنه لم يكن كغيره من مُخرجي الواقعية الجديدة؛ لأنه لم يكن
من المُخرجين الذين يميلون إلى التصوير الخارجي بقدر رغبته بالتصوير داخل
الاستوديو، وفي هذا يقول: "لا أكره التصوير في الاستوديو، بالعكس أفضله،
وهذه هي السينما. أن تكون لك الحرية في فتح الحائط الرابع للديكور، وأن
تُعيد الواقع في شكل قد يكون أقوى اكتمالا من الواقع"[7]،
وهو الأمر الذي يقول فيه أيضا: "لو كان في إمكاني بناء الميناء في الصعاليك
لما ترددت"[8]؛
الأمر الذي دفعه إلى بناء حارة شعبية كاملة في الاستديو في فيلمه "الكيت
كات" 1991م، بدلا من التصوير الخارجي في الأماكن الواقعية، ولكن هذا
الإعراض، أو الميل إلى التصوير داخل الاستوديو بدلا من التصوير الخارجي لا
يمكن له أن ينفي اعتباره من أهم مُخرجي سينما الواقعية الجديدة المصرية؛
لأن الواقعية الجديدة لم تكن تعني التصوير الخارجي فقط، بل التعبير الحقيقي
عن الواقع، والاشتباك معه، ونقاشه، ومحاولة تحليله، وهو ما فعله عبد السيد
في أفلامه الروائية كلها تقريبا، رغم أن الكثير من هذه الأفلام قد مالت إلى
التفلسف، أو مُناقشة الأفكار المُجردة بشكل سينمائي، لكن "فلسفة السينما"-
أي دفعها باتجاه أن تكون لها فلسفة خاصة، وليس التفلسف- لم يكن عائقا أمام
المُخرج كي يشتبك مع الواقع المُحيط به اشتباكا حقيقيا، بل كان ذلك سببا
قويا للاندماج مع الواقع بشكل أكثر عمقا مما تناوله غيره من المُخرجين
المُجايلين له؛ لذلك سنرى في جل أفلامه العديد من مستويات التلقي التي
تُناسب جميع المُشاهدين سواء كانوا بسطاء، أو مُنعدمي الثقافة، أو مُثقفين،
أو حتى يبحثون عن الرفاهية في السينما فقط، أي أن أفلام عبد السيد باتجاهها
الخاص الذي رآه كانت سينما تتناسب مع كل الأذواق، وكل المستويات الثقافية
أو الفكرية.
سيحاول عبد السيد فيما بعد تقديم سينماه التي تخصه،
وسيستغرق أكثر داخل ذاته، وثقافته، وأفكاره؛ الأمر الذي قد يدفع سينماه،
أحيانا، باتجاه الغموض والتجرد، وضرورة التفكير العميق فيها من أجل القدرة
على فهم رموزها الكثيرة التي يبثها المُخرج في طيات مشاهده/ أفكاره. إن هذا
الاستغراق في الأفكار والثقافة الخاصة بالمُخرج هو ما جعله يصنع ما يمكن أن
نُطلق عليه- فلسفة السينما- وليس المقصود بهذا القول أن داود قد حاول
التفلسف السينمائي، بل إنه من خلال رؤاه السينمائية والفكرية قد دفع
السينما التي يقدمها إلى أن تكون لها فلسفة خاصة، ومنطق فني خاص جدا يخص
عبد السيد نفسه، ورغم أنه يريد الحديث عن الواقع، لكنه كان دائما ما يؤكد
"أن السينما، بطبيعتها، هي كيفية خلق شيء يُشبه الواقع، لكن ليس الواقع"؛
لهذا لم يكن مُتشابها في ذلك مع غيره من المُخرجين المُجايلين له في تجاهه
السينمائي، وهو ما سنراه لاحقا في الأفلام التي قدمها فيما بعد في حقبة
التسعينيات.
من الجزء الثاني من كتاب "صناعة الصخب: ستون عاما من تاريخ
السينما المصرية 1959- 2019م"
مراجع:
[1] انظر
دراسة "داود عبد السيد: واقعية بلا حدود" للناقد البحريني حسن حداد/ مجلة
هنا البحرين/ 27 يناير 1993م.
[2] انظر
مقال "داود عبد السيد: جوهر الشعر وبناؤه" للناقد أحمد يوسف/ مجلة الفن
السابع/ المجلة ص 25/ العدد الخامس/ إبريل 1998م.
[3] انظر
مقال "التصدي بالثقافة" للمُخرج داود عبد السيد/ جريدة الوطن/ الأحد 15
يوليو 2012م.
[4] انظر
مقال "داود عبد السيد: جوهر الشعر وبناؤه" للناقد أحمد يوسف/ مجلة الفن
السابع/ المجلة ص 25/ العدد الخامس/ إبريل 1998م.
[5] انظر
دراسة "داود عبد السيد: واقعية بلا حدود" للناقد البحريني حسن حداد/ مجلة
هنا البحرين/ 27 يناير 1993م.
[6] انظر
دراسة "داود عبد السيد: واقعية بلا حدود" للناقد البحريني حسن حداد/ مجلة
هنا البحرين/ 27 يناير 1993م.
[7] انظر
دراسة "داود عبد السيد: واقعية بلا حدود" للناقد البحريني حسن حداد/ مجلة
هنا البحرين/ 27 يناير 1993م.
[8] انظر
المرجع السابق. |