قبل سنوات تُعد على أصابع اليد الواحدة، كنت عندما ألتقي
بأحد الغربيين العاملين في صناعة السينما، مخرجين ومنتجين وموزعي أفلام
ومبرمجي مهرجانات، ويأتي ذكر الحراك السينمائي الملحوظ في المملكة العربية
السعودية، كانت ردود الأفعال دائمًا حذرة، والآراء تصاغ في عبارات محسوبة،
يحاول قائلها ألا يسقط في فخ الاستعلاء أو العنصرية – وكثيرًا ما فعلوا-
لكنها تحمل تساؤلًا مبطنًا: ما ضمانة استمرار ما يحدث في المملكة؟ وإذا
كانت السينما قد توقفت لأربعة عقود بقرار حكومي، فماذا يمنع أن تعود للتوقف
مجددًا؟
ربما كانت الصورة لم تتضح بعد آنذاك، وربما اعتمدت في الرد
– ومعي كل داعم للحراك السينمائي السعودي- على بعض من الحدس، وقليل من
الارتكان للخبرة ولحقيقة كوننا نعلم منطقتنا أكثر من الغربي الذي تشوش
رؤيته بعض الصور النمطية عن الشرق عمومًا، وعن المملكة خصوصًا. إلا أننا
اليوم نقف في نقطة لم نعد نحتاج فيها لهذه المعايير الذاتية، فقد صارت
الإجابات واضحة، قائمة على معايير موضوعية ورقمية، وعلى وقع ثقافي ملموس،
يُمكن أن ترد على كل تساؤل متشكك، إن وُجِد.
ست سنوات في أرقام
الهيئة العامة لتنظيم الإعلام بالمملكة أعلنت قبل أيام عن
حصاد مذهل لصناعة السينما في البلد خلال الست سنوات التالية على إعادة
افتتاح قاعات العرض في أبريل 2018، حيث شهدت الفترة بيع 61 مليون تذكرة
تساوي مجموع إيرادات يتجاوز 3.7 مليار ريال، أي مليار دولار أمريكي أضافتها
السعودية إلى حجم السوق السينمائي الدولي. إضافة حرفية حيث إن الإسهام
السعودي قبلها كان يساوي صفرًا لغياب قاعات العرض.
اليوم توجد 618 شاشة عرض في 66 موقعًا، بإجمالي مقاعد 63373
في 22 مدينة مختلفة، عرضت خلال السنوات الست 1971 فيلمًا من ضمنها 75
فيلمًا سعوديًا. يمكنني كناقد مصري منتم بالأساس لصناعة السينما المصرية أن
أقارن الأرقام وأتحسر على الوضع الحالي للصناعة العريقة في بلدي، لكن هذا
موضوع منفصل.
ما يشغلني هنا بالأساس، ويدفعني لكتابة هذا المقال الذي
يحاول توثيق اللحظة بغرض الرجوع لها في المستقبل، هما رقمين محددين: عدد
الأفلام المحلية وعدد قاعات العرض. ففي هذين الرقمين يكمن الرد على أي
تساؤل مشكك، وتوضيح سر الحماس المنطقي الذي يملكه أي داعم للسينما السعودية
ومُبشّر بمستقبلها.
حكايات تنتظر أن تُحكى
لنبدأ بعدد الأفلام السعودية الطويلة، ورقم 75 ليس كبيرًا
لو قسمناه على عدد السنوات (متوسط 12.5 فيلم في السنة)، لكنه سيبدو مذهلًا
إذا ما كانت نقطة الانطلاق تقترب من الصفر، أو لنقل كسر عشريّ أحدثته بعض
المحاولات المنفردة لصناعة فيلم كل عدة سنوات على أيدي مغامرين مثل هيفاء
المنصور ومحمود صبّاغ، وقبلهما الرائد عبد الله المحيسن. هذه قفزة هائلة
تؤكد حقيقة، وتُرسّخ ضمانة.
الحقيقة هي وفرة المواهب والحكايات، وهو أمر بديهي في مكان
شاسع، مليء بالبشر متعددي المشارب والخلفيات والرؤى، يُضاف إليها في حالة
السعودية امتلاك كل سينمائي لحكاية شخصية تستحق أن تُروى: حكاية محُب
السينما الذي كان حتى أعوام مضت ممنوعًا من ممارسة حبه داخل بلده. البعض
كان يسافر إلى بلد آخر كي يشاهد فيلمًا، والغالبية كانت تتعامل مع ولعها
بالسينما كهواية يستحيل أن تصير مهنة وطريق حياة، لتأتي رياح المستقبل
فتُغير كل هذا وتفتح أبواب الأمل على مصراعيها.
ربما غاب هذا لوهلة على الأوروبي المتعالي: أن المرأة
السعودية التي كان يلخصها في كونها مسكينة، مقهورة وممنوعة من قيادة
السيارة، هي في الحقيقة صاحبة تجربة خاصة في التعامل مع واقعها، تجربة
مشحونة بالمشاعر والتفاصيل التي تُشكل المادة الخام لأي عمل فني. وأن صانع
السينما السعودي الذي كان يُنكر وجوده، هو في الحقيقة فنان لديه خبرة
حياتية زَخِمة يعيش أغلب الفنانين الأوروبيين حالمين بخوض ما يماثلها.
خبرات وتجارب ووقائع أصيلة كانت فقط تنتظر الفرصة كي تخرج للنور.
أهداف ونظام بيئي
بعد أيام سيُعرض “نوره” لتوفيق الزايدي رسميًا في مهرجان
كان، وقبل أشهر عُرض “مندوب الليل” لعلي الكلثمي و”ناقة” لمشعل الجاسر في
مهرجان تورنتو. في نسخة من الرواية قد نرى هذه الاختيارات اعتذارًا متأخرًا
تقدمه المهرجانات الكبرى عن موقف سابق وتصورات نمطية بالية، لكن في نسخة
أخرى – أوسع رؤية وأكثر قيمة- سنرى المشاركات في سياق أكبر يضم نجاح
“سطّار” و”شباب البومب” الجماهيري، ويضم أيضًا الانقسام والحرب الكلامية
حول فيلم “ناقة”، سياق عنوانه الحراك الحقيقي للسينما السعودية.
هذه الأفلام الخمسة وسبعين لم تُخلق من عدم، بل صنعها جيش
كامل من المخرجين والكتاب والمصورين والممثلين والمواهب المتنوعة، عبر طيف
من شركات الإنتاج المحلية التي صارت صناعة السينما شغلها الشاغل الوحيد،
والتي تجتهد كل منها في خلق هامش ربح يناسب توجهاتها، سواء تمثل الربح في
الحصول على نصيب من كعكة المليار دولار في شباك التذاكر، أو في السير على
سجادة مهرجان كان الحمراء، أو في أي صورة أخرى يراها صاحب الاستثمار
السينمائي.
ما يهمنا هنا ليس سؤال ‘كيف يحقق كل مُنتِج أهدافه
الخاصة؟’، وإنما سؤال: كيف يُمكن لهذه الأهداف أن تتضافر، وتتقاطع،
وتتنافس، لتخلق منظومة اقتصادية نشطة تدور بعجلة يستحيل إيقافها؟
الحديث هنا عن التنامي الواضح لنظام بيئي سينمائي
cinematic ecosystem،
يتحرك بشكل طبيعي وفقًا لطبيعة البلد وإمكانياته البشرية والمادية، فيخلق
صناعة كبيرة، راسخة رغم عمرها القصير، قادرة على الاستمرار بقوة دفعها
الذاتية. فحتى لو تصورنا سيناريو خيالي تحاول فيه سلطة ما إيقاف السينما في
المملكة مجددًا، فسيشبه الأمر محاولة إعادة الجنيّ إلى المصباح. صناع
السينما انطلقوا وتحرروا – كلٌ على طريقته- فبات من المستحيل عمليًا إعادة
الأمور إلى ما كانت عليه، فالتاريخ يتحرك في اتجاه واحد فقط.
قاعات تتسع للجميع
نصل إلى الرقم الثاني القيّم: عدد الشاشات. 22 مدينة، 66
موقعًا، 618 شاشة، و63 ألف مقعد. هذه أرقام كبيرة بحق، لا تحتاج للمقارنة
بالوضع قبل 2018، بل هي كبيرة بشكل مجرد، تكشف – خاصة مع نجاحها كلها في
تحقيق أرباح- عن التعطش الذي كان – ولا يزال- السوق السعودي يكنّه للسينما.
فإذا كانت إعادة فتح القاعات قرار حكومي، فإن نجاح وتوسع هذه القاعات قرار
شعبي، يُطمئن المستثمرين على كونها مساحة مثالية للعمل، في قطاع ناجح وصاعد
لم يصل بعد إلى نقطة التشبع.
أضف إلى ذلك حزمة التخفيضات الضخمة التي أعلنتها هيئة
الأفلام لرسوم تراخيص ممارسة النشاط وتشغيل قاعات العرض، والتي انخفض
أغلبها لما يقترب من 10% من التكلفة السابقة (تكلفة تشغيل قاعة فاخرة في
مدينة كبرى مثلًا انخفض من 210 ألف ريال إلى 25 ألف فقط، وفي المدن الصغرى
من 84 ألف إلى خمسة آلاف فحسب). أن تأتي هذه التسهيلات في الوقت الذي يحقق
فيه القطاع مكاسب متزايدة قد تُغري المُشرعين في بلاد أخرى برفع الرسوم،
أمر لا يُمكن إلا أن يوصف ببعد النظر والتطلع لمزيد من التوسع في القاعدة
الجماهيرية للسينما في المملكة.
نلاحظ أن التخفيض لا يقتصر على دور العرض الدائمة، بل يمتد
إلى ما سُمي بـ “السينما المؤقتة”، أي التصريح بتشغيل موقع لعرض محدد بشكل
مؤقت. الأمر الذي لن يشجع فقط على إنشاء دور عرض لأغراض تجارية، بل سيسمح
بالمزيد من نوادي السينما، والعروض الخاصة، والتظاهرات النوعية الصغيرة،
وغيرها من الصور التي يُمكن فيها للناس مشاهدة الأفلام. وعندما تصل الأفلام
للناس أكثر، سيكون للقاعات المدفوعة جمهور أكبر، وستتسع قاعدة الراغبين في
دراسة السينما وامتهانها، فيتسع القطاع أكثر وأكثر.
باختصار
هي صورة مثالية للصياغات المعروفة بال
win-win situations،
القرارات التي تخلق موقفًا الكل رابح فيه: الجمهور تتاح له مشاهدة أفلام
أكثر، الموزع ومالك القاعات يصير عمله أسهل ومكسبه أكبر، الفنان يصل إلى
المشاهدين بسهولة، والقطاع كله يتطور ويتوسع بشكل تلقائي، مدعمًا النظام
البيئي السينمائي الذي تحدثنا عنه.
بين “ناقة” و”شوقر دادي”
الآن لم يعد التشكك في مآل السينما السعودية أمرًا
عقلانيًا، حتى لدى أكثر الغربيين تصديقًا للصور النمطية، فالأرقام لا تكذب
ولا تتجمل. لكن المهم هنا التأكيد على أن وقود هذا التطور هو التنوع الفني،
هو إتاحة المساحة لكل شيء: للأفلام الفنية التي تسافر إلى المهرجانات
والأفلام الجماهيرية التي تحطم أرقام شباك التذاكر، للفيلم السعودي والفيلم
الأمريكي والفيلم المصري والفيلم الكوري، وأي تجربة أخرى قد تُثري ذائقة
المشاهد، وتدفع موهوب شاب أن يتأثر فيقرر أن يصنع تجربته الخاصة.
يرد ذلك على أسئلة طُرحت مؤخرًا، وجدالات خاصها الجمهور
والصناع. فلا ضير من عمل ننقسم حوله بين محب وكاره مثل “ناقة”، فالجدل أحد
أسمى الأهداف التي قد يحققها عمل فني مغامر، والفيلم في النهاية يُمثل
صانعه، ولا يشترط أن يُعبر عن ثقافة وعادات بلد بأكمله، فهو غرض مستحيل
عمومًا لا يخرج إلا ككارت تهديد لكل من يفاجئ الذائقة الاعتيادية بعمل خارج
عن المألوف.
لا ضرر أيضًا من نجاح كوميديا مصرية خفيفة – بل لنقل ساذجة-
مثل “شوقر دادي”، فذلك نوع له جماهيريته وله صناعه، ولعلنا في السنوات
المقبلة نجد مواهبًا سعودية تصنع أعمالًا مشابهة ناجحة، تُفيد الصناعة
وبالتالي تضمن لكل العاملين فيها الاستمرار والتطور. وليطمئن القلقون، فعلي
الكلثمي ووائل أبو منصور لن يقررا أن يصنعا “شوقر دادي” لمجرد تحقيقه
إيرادات كبيرة، لكن تلك الإيرادات ستساعدهما على تحقيق أفلامهما الخاصة في
ظروف إنتاجية أفضل.
بكلمات أبسط: لا داع للقلق من كل ما حدث ويحدث في السينما
السعودية، بل للدقة لا داع للقلق لأن ما حدث ويحدث يطمئننا على وجود صناعة
حقيقية آخذة في التطور، يُمكن الرهان على استمرارها طويلًا لأنها تُبنى –
بثقة ودأب وسرعة- على أسس صحيحة. |