انقضى الأسبوع الأول من «مهرجان كان السينمائي الدولي»
بدورته الـ 77 المحمّلة بالأسماء الكبيرة. هذا الأسبوع شهد محطّات بارزة مع
اليوناني يورغوس لانثيموس بعوالمه الغرائبية وحفرياته «المزعجة» في النفس
البشرية، فيما قدّم بول شريدر فيلماً صعباً ومعقّداً وعاطفياً، يحتوي على
عناصر يمكن اعتبارها سيرة ذاتية. وأخيراً، جاء نبيل عيّوش ليقدّم قصّة
امرأة في المغرب تحلم بأن تكون «شيخة» تقدّم فن «العيطة» المغربية ويواكب
مكابداتها وجهودها للتحرّر، إلا أنّه وقع في الكثير من الأفخاخ!
◄ يورغوس
لانثيموس ليس «لطيفاً» البتّة
كان | بعد نصف عام تقريباً على احتفال العالم بفيلم «كائنات
مسكينة» (2023) في «مهرجان البندقية السينمائي» الأخير، وحصوله على «الأسد
الذهبي»، حطّ يورغوس لانثيموس («ناب الكلب»/ 2009، «جراد البحر»/ 2015،
«قتل الغزال المقدس»/ 2017، «المفضلة»/ 2018) رحاله في المسابقة الرسمية لـ
«مهرجان كان السينمائي الدولي»، بفيلمه «أنواع من اللطف». اختار المخرج
اليوناني العودة إلى هواجسه الشخصية: العلاقات السادية المازوشية، وتعقيد
العلاقات الزوجية، والحياة الموازية. في «أنواع من اللطف»، هناك قضايا مثل
الإرادة الحرة، والهوية والإيمان. ثلاث قصص تلخّص تقريباً جميع أعمال
لانثيموس، وجميع الاضطرابات بطريقة فوضوية ومزعجة في جوهرها، وممتعة جداً
في طرحها. إنها السينما المصمّمة على بناء عالم تبدو فيه معاني الأشياء
والعواطف مشرّدة تماماً، لكنّ الشخصيات تتفاعل مع محيطها بوعي وجدية شديدة.
كل ما يحدث في «أنواع من اللطف»، مهما كان جنونياً وقاسياً وغريباً
ومنحرفاً، لا يمكن إلا التفاعل معه وحتى قبوله بل أكثر من ذلك الاستمتاع
به، والخروج منه في حالة من عدم الاستقرار الفكري والحسي.
في قصص «أنواع من اللطف»، هناك قسوة وسخرية وفكاهة تتناغم،
وشخصيات تعاني من اليأس، بعيداً كلياً من أي سجل عاطفي. لا يوجد طريقة
للتعريف بالشخصيات أو حتى القصص، إن المخلوقات التي تتدفق عبر الحلقات أو
القصص الثلاث في الفيلم، تلعب دورها دائماً المجموعة نفسها من الممثلين
والممثلات (إيما ستون، ويليام دافو، جيسي بليمونز، هونغ تشاو، مارغريت
كوالي) وتمثل رموزاً أحادية البُعد للألم البشري. إذاً، لدينا ثلاث قصص
(غير قصيرة، إذ يبلغ تقريباً كل واحدة منها 55 دقيقة)، مختلفة لكنها مرتبطة
بطريقة غريبة وغير مفهومة. القصة الأولى تحمل عنوان «موت
RMF»،
حيث علاقات السلطة والخضوع، تتمثّل في رجل مستسلم لأهواء رئيسه أو «إلهه»،
الذي يطبع حياته بطريقة سخيفة. القصة الثانية بعنوان
«RMF
يحلق» حيث تبدأ لعبة الصورة الرمزية عبر ضابط شرطة يشتاق إلى زوجته
المفقودة. وعندما تعود، يزداد كل شيء غموضاً. والثالثة
«RFM
يأكل الساندويتش» حيث الاستفزازات غير المبررة، تتناول طائفة دينية معينة
وامرأة تبحث عمّن لديه القدرة على إحياء الموتى.
مع لمسات من المأساة اليونانية، وخرافات تضيف إلى الواقع
عنصراً أسطورياً أو بائساً أو باروكياً، يضع لانثيموس إصبعه على الجرح،
ويقدم في «أنواع من اللطف» اعتلالاً اجتماعياً يقوم عبره بتشريح مجتمع
محكوم عليه بالفشل. في الفيلم، أفكار ملموسة تزدهر عبر التعذيب الملتوي
للشخصيات، وتشكّل فيلماً روائياً، فيه ما يكفي لرسم موضوع كبير، قد لا يكون
مفهوماً لكن وجهة نظره واضحة. في ثلاث ساعات قادرة على خنق أي شخص، يقدم
اليوناني كل الجنس المرح، والعنف الجنوني، والسخرية، والسوائل البشرية،
وأكلة لحوم البشر. في كل قصة، يرتدي أبطالها أقنعة جديدة تكشف ما يمكن أن
يخفوه، ويعانون جميعاً من عواقب كونهم دمية فارغة في أيدي من هم أقوى منهم.
أصبح لانثيموس أحد أهم المخرجين الأوروبيين واليونانيين
تحديداً، لكن عكس زملائه، استغلّ شهرته ليغزو هوليوود، من دون التخلّي عن
نفسه، وليكون أكثر استفزازاً وضد التيار الهوليوودي المعتاد. في «أنواع من
اللطف»، كان لانثيموس أكثر هدوءاً من المعتاد، واستخدم اللقطات ذات الزاوية
الواسعة وعمق المجال من دون المبالغة في ذلك. ومن ناحية أخرى، أطلق العنان
لكل هواجسه، وتلاعب بنا وابتزّنا وهيمن علينا وعلى شخصياته.
«أنواع
من اللطف»، فيلم كبير، مخلص تماماً لروح مخرجه، غريب أكثر من اللازم ربما،
لكنه مفاجئ، مرح، لا يمكنك التغاضي عنه، ولا حتى تجاهله. فيلم يأكلك ويمضغك
ثم يتركك في حالة غير مفهومة. في «أنواع من اللطف»، تتألق نية لانثيموس
العظيمة، وهي إذا كانت لديك فكرة مظلمة، استخدمها وحوّلها إلى فيلم من دون
الانتظار حتى تتّضح.
◄ وصيّة
بول شريدر
بعد ثلاثية العنف والتسامح «أول إصلاح» (2017)، و«عدّاد
الورق» (2021)، و«السيد البستاني» (2022)، يقدم كاتب فيلم «سائق التاكسي»
(1976)، الكبير بول شريدر (1946) فيلمه «أوه، كندا» في المسابقة الرسمية لـ
«مهرجان كان». شريط قد يكون الأكثر شخصية في عمر ناهز السابعة والسبعين
عاماً. استناداً إلى رواية بالاسم نفسه للكاتب الأميركي المتوفى حديثاً
راسل بانكس (1940 – 2023)، يقدم شريدر فيلماً صعباً ومعقّداً وعاطفياً،
يحتوي على عناصر يمكن اعتبارها سيرة ذاتية. يختلف فيلم شريدر الجديد عن
معظم أفلامه، إذ يبتعد عن الأبطال المتدينين والمعذبين، ليقدم شهادة
سينمائية شاعرية لموت فنان وهشاشة الذاكرة. فيلم كأنه وصية ذو نكهة قديمة
وصناعة دقيقة وقلب رقيق يحتضر، حول اعتراف غير محتمل عن الحياة، وبمثابة
تمزيق أسطورة الذات. «أوه، كندا» حزين كما هو، ذو صلة بالحالة البشرية
والوجود والإرث والفن. سلسلة طويلة من الأفراح الصغيرة، والآلام، والحب،
وتجارب رجل يحب الفن والثقافة، ويتذكّر حياته وأحباءه وخياناته وملذّاته
ومعاناته.
الفيلم هو عن اللحظات الأخيرة لليونارد فايف (ريتشادر غير)،
مخرج أفلام وثائقي، عارض حرب فيتنام والمؤسسات السياسية والعسكرية، وهرب من
الولايات المتحدة إلى كندا. فايف مخرج أفلام سعى عبر عمله إلى كشف حقيقة
المجتمع الذي يجد نفسه فيه. يوافق فايف على طلب طالبيه السابقين مالكوم
(مالكوم إمبريولي) زوجته ديانا (فيكتوريا هيل)، بتصوير فيلم وثائقي عنه.
يُصوَّر الفيلم باستخدام كاميرا ابتكرها فايف بنفسه وحصل على براءة
اختراعها، وهي كاميرا الاعتراف، إذ يتفاعل من هو أمام الكاميرا مع من هو
خلفها، بطريقة فرويدية. لا يريد فايف، أن يكون مالكون خلف الكاميرا، بل
زوجته وشريكة حياته إيما (أوما ثورمان)، التي بسببها وافق على الوثائقي
الذي سوف يحكي فيه عن نفسه وحياته وأسراره.
«أوه،
كندا»، عمل عن السينما كوسيلة غير مكتملة لكشف الحقيقة، ونقاش حول الأكاذيب
التي نقولها لأنفسنا وللآخرين، أي سيرة ذاتية مزيّفة. فايف (ريتشارد غير
مثير للإعجاب في الفيلم)، يتحدث عن أطفاله الذين هجّرهم، والأحبّاء الذين
تركهم، وعن حياتك عندما تكون على حافة الموت. هو مريض جداً ومشوّش، يعاني
مشكلات خطيرة في الذاكرة، وهذا يعني أنه سوف يذهب ويعود بكلامه وذكرياته
التي ستكون مؤقتة ومربكة ومتناقضة ومتكررة. يُنظَّم الفيلم بهذه الطريقة،
إذ يتنقل ذهاباً وإياباً في الزمن والأشكال، ويعود باستمرار إلى حالة
المقابلة نفسها، وغالباً ما يضع المشاهد في المنطقة العقلية الهشّة التي
يتحرك فيها بطل الرواية.
في ثلاث ساعات قادرة على خنق أي شخص، يقدم يورغوس لانثيموس
كل الجنس المرح، والعنف الجنوني، والسخرية، والسوائل البشرية، وأكلة لحوم
البشر
وللحفاظ على تصوّر فايف للوقت، يزيد شريدر إرباك المشاهد
ويستخدم الشاشة ويعرضها ويصغرها ويبدل عدسات التصوير وحتى الألوان، ويجعل
السرد مربكاً وغير مركّز، بالطريقة نفسها التي يرى فيها فايف العالم. كل
هذا التشتّت الشكلي والكلامي والإيمائي في رسم الشخصية والفيلم يثقل
الإيقاع، لكن مرة أخرى، لا ينوي شريدر الخضوع للاحتياجات العامة للمشاهد،
فهو عاش الحياة وحاربها وعاش السينما ويرويها عبر الطريقة التي يراها فيها.
هناك متعة متلصّصة يقدمها لنا شريدر في الفيلم وفي الطريقة
التي يقدم فيها شخصياته، ويبني فيلمه. فهو يومئ برأسه إلى كلاسيكياته،
ويحافظ على تماسك أعماله العصرية. ما ينقله شريدر بشكل مثالي، ويغمر فيلمه
به هو الهشاشة الجسدية والعقلية لبطله، ولا يهتم بالسيرة الذاتية بل بأسئلة
العالم حول صراع الذكريات وفقدان القدرة على ربط الأحداث. «أوه، كندا»، هو
فيلم عن الأمتار الأخيرة الجسدية والعقلية في الحياة. ترجم شريدر ذلك على
الشاشة بطريقة معقّدة بعض الشيء، لكن متماسكة، ليقول لنا بأنّ كل شيء يمكن
أن يتحطّم بمجرّد فقدان ذكرياتنا.
◄ نبيل
عيوش أتخمنا بالكليشيهات
يبدأ فيلم نبيل عيوش الجديد «الجميع يحب تودا»، المشارك في
«مهرجان كان» بتعريفنا بتاريخ الشيخات، وفن «العيطة» المغربية. العيطة
باللهجة المغربية تعني النداء، وكانت لغة تواصل مشفّرة اعتمدها المقاومون
أيام الاستعمار ولمناهضة الظلم والقهر إلى جانب الحبّ، وغنّت الشيخات أشهر
أشعارها المتحرّرة. تطوّر هذا الفن وحفظه الناس، وغنّته الشيخات في الأفراح
والاحتفالات حتى اليوم. تودا (نسرين الراضي)، تحلم بأن تكون شيخة، فهي ليست
أكثر من مغنية مغربية تقليدية تغني من دون خجل عن الحب وتحرّر المرأة،
وتؤدي كل ليلة عروضها في حانات بلدتها الريفية، وتجذب أعين النساء وتسحر
الرجال. ولكن تعرّضها الدائم لسوء المعاملة والإذلال، يجعلها تريد ترك كل
شيء وتسافر إلى الدار البيضاء لتسعى وراء النجومية، ولتوفير مستقبل أفضل
لابنها الأصم.
افتتح عيوش فيلمه بمشهد قوي، عالي الكثافة، ثم عرّج على
الميلودراما الكلاسيكية، لقصة تحرّر امرأة في المغرب، الذي شاهدنا منها
الكثير، وهي بحدّ ذاتها فكرة هشّة ومحفوفة بالمخاطر، فوقع عيوش في أفخاخها،
وتسارع في السرد بشكل غريب، ليفقد الفيلم زخمه، وتتكرّر مشاهده، ليصل إلى
نهاية غير مرضية. امتلأ فيلم عيوش بالأغاني والموسيقى وبتودا التي تؤدي
أغانيها، كأنه ليس لديه الكثير ليقدمه، أو كأنه لا يعرف إلى أين يأخذ
فيلمه. وعادة ما تدفع مثل هذه الأفلام الثمن في نهايتها، عندما لا تستطيع
ربط الحبكة بشكل مرض، فبدا الفيلم كأنه حكي على عجل، وبنهاية أقل ما يُقال
عنها بأنّها لا تقول أي شيء.
يعود نبيل عيّوش إلى فنّ العيطة الذي كان لغة تواصل مشفّرة
اعتمدها المقاومون في زمن الاستعمار
عبر الألوان، والبارات المغربية، والبيرة والموسيقى
والأغاني والرقص، خلق عيوش قصة تخفي واقعاً قبيحاً، قدم فيه تصوراً واقعياً
(كما في أفلامه القديمة) للمشكلات الاجتماعية المغربية، وخصوصاً ما يتعلّق
بالنساء. لكن لم يكن لدى عيوش أي عمق ليقدمه لنا، فأصبح الفيلم غير مبال
وتعسفياً، وأفقدنا الاهتمام، حتى جعلنا نشعر بالملل في بعض أوقاته. أتخم
عيوش فيلمه بالكليشيهات، والميلودراما التي لا داعي لها، فأصبح فيلمه
بمثابة قصة لا معنى لها. لا يتعمق أبداً في الحدود الأخلاقية والاجتماعية
في بلده، وبسبب جدية طرحه، لا يدرك المخرج أو لا يريد أن يدرك أن فيلمه
يسير على خط السخافة المفرطة، إلى درجة أنّ بعض المشاهد المغالية في
الجدية، تنتهي لتصبح فكاهية!
«الجميع
يحب تودا» يدّعي أنه معركة ضد الأعراف والتقاليد، ولكنه يقدّمها بكثير من
الكآبة، التي لا توفر الكثير من الأمل. في النهاية، يصبح الفيلم نفسه عبئاً
على المخرج وعلينا، غير مريح وثقيلاً بعض الشيء. كل ما أراد قوله عيوش جاء
بلا حميمية، ليصبح مجرد صورة لامرأة عزباء عازمة على تغيير حياتها. أجمل
وأهم ما في فيلم عيوش هي، تودا نفسها، إذ أبهرتنا نسرين راضي بأدائها
وصرّتها وعيونها وجمالها، كانت كل شيء في الفيلم، وغالباً هي التي أنقذت
عيوش من مزيد من الأفخاخ. |