“ماريا”
بابلو لارين في مهرجان فينيسيا: لعنة الصوت الجميل
أمير العمري–
فينيسيا
من الأفلام الكثيرة المنتظرة في المسابقة الرسمية لمهرجان
فينيسيا السينمائي الـ81، فيلم “ماريا”
Maria
للمخرج التشيلي بابلو لارين. فهو خاتمة ثلاثيته عن مشاهير النساء، أي بعد
فيلميه “جاكي” عن جاكلين كنيدي، و”سبنسر” عن ديانا سبنسر الأميرة الراحلة،
والواضح أن لارين مغرم بهذا النوع من الأفلام التي تروي سير المشاهير، فهو
الذي أخرج أيضا فيلم “نيرودا”
Neruda (2016)
عن الشاعر الشيلي الكبير بابلو نيرودا.
ومع ذلك يمكن القول إن فيلم “ماريا” الذي تقوم ببطولته
أنجيلينا جولي، ليس عن حياة “الديفا” اليونانية الشهيرة “ماريا كالاس” بقدر
ما هو عن الفترة الأخيرة من حياتها، وتحديدا الأسبوع الأخير قبل مفارقتها
الحياة، وكيف أصبحت أسيرة نجاحها، وسجينة دورها الوحيد كإحدى أكبر مغنيات
الأوبرا في عصرنا، ثم كيف أصبحت القوة الوحيدة التي تمتلكها، أي صوتها، هو
أداة دمارها النفسي، بعد أن فقدت القدرة على السيطرة عليه، أو بعد أن أصبح
يخذلها، ومن هنا بدأت نهايتها، وبدأ موتها الحقيقي قبل أن تموت بالفعل.
من مزايا فيلم بابلو لارين، أنه بفضل تسليطه الضوء بقوة على
تلك شخصية الديفا الشهيرة، من خلال الأداء المدهش لأنجلينا جولي، لابد أنه
سيدفع الكثيرين من ججمهور السينما من الشباب الذين لم يعيشوا عصر ماريا
كالاس، إلى البحث عن ماريا الحقيقية، ومعرفة مسار حياتها المعقد الذي لم
يكن ممكنا أن يحيط به الفيلم كله بالطبع، ومن هنا فقد ابتكر كاتب السيناريو
ستيفن نايت في ثاني تعاون له مع لارين بعد “سبنسر”، حيلة تسمح بالعودة من
مشهد موت كالاس الذي يفتتح الفيلم، في سبتمبر عام 1977، للعودة إلى الماضي،
واستعراض بعض المواقف التي أحاطت بهذه الشخصية الفريدة والتي تسلط الأضواء
على شخصيتها التي تبدو في الظاهر عنيفة متسلطة، لكنها في الحقيقة، ضعيفة،
ممزقة.
لم تكن ماريا كالاس بكل المقاييس المعروفة، تتمتع بالجمال
الأنثوي، فملامحها كانت فظة بعض الشيء، لكن جمالها كان ينبع من قوة صوتها
وقدرتها العبقرية على التعبير من خلال الغناء الأوبرالي بكل ما يمكن
التعبير عنه من أحاسيس ومشاعر تفيض من بين النغمات التي ترتفع هي بها إلى
عنان السماء وترفع جمهورها ومستمعيها معها.
ودون شك، تساهم أنجلينا جولي التي قامت بالدور، من ناحية في
“تجميل” صورة ماريا كالاس الشكلية، خصوصا وهي تظهر في عشرات من اللقطات
القريبة (كلوز أب) التي تتناقض تماما بالطبع مع تلك التي نراها في خاتمة
الفيلم لماريا الحقيقية بأنفها الضخم الذي يحتل جزءا كبيرا من وجهها.
ولعل العبارة التي يقولها لها يقول لها صديقها التاريخي
“أوناسيس” في الفيلم ردا على استنكارها لما يمكن أن يعجب الرئيس الأمريكي
الراحل جون كنيدي في صوت ضعيف مثل صوت مارلين مونرو التي تشاهدها ماريا وهي
تغني له “عيد ميلاد سعيد يا سيدي الرئيس”، فكانت عبارة أوناسيس كاشفة حينما
قال “إن ما يعجبه ليس صوتها، بل ما ليس لديك أنت، فلديها الجسد، بينما لا
تمتلكين أنت سوى الصوت”!
ولكن بعيدا عن فكرة “تجميل” ماريا شكلا وتقريبها من الجمهور
وجعلها تبدو في صورة امرأة حالمة تعيش أسيرة ما حققته في حياتها من نجاح،
تظل حتى النهاية تتطلع إلى استعادة المستحيل، فقد برعت أنجلينا جولي كثيرا
في أداء الشخصية، متماهية معها إلى أقصى حد ممكن، وأضفت عليها من داخلها،
بل وبذلت جهدا كبيرا في الأداء الأوبرالي بصوتها بعد تدريبات مكثفة مرت
بها، ولكن لارين أيضا يمزج بين صوت أنجلينا الحقيقي وصوت ماريا من
التسجيلات القديمة، مع صوتها الحقيقي بالطبع في مشاهد الفلاش باك الكثيرة.
أما “الحيلة الدرامية” التي يلجأ إليها سيناريو ستيفن نايت،
هي أن يجعل ماريا تتخيل أن صحفيا شابا يريد أن يجري معها مقابلة صحفية
طويلة مصورة بكاميرا الفيديو، تستعرض خلالها مسار حياتها، وتكشف لأول مرة
ما لا يعرفه أحد عنها. ولذا فالفيلم مقسم إلى نحو خمسة أجزاء، يسبق كل منها
عنوان محدد على أداة الكلاكيت، وصولا إلى الفصل الأخير، قبل الوفاة.
هذه الحيلة بدت مصطنعة بعض الشيء، خصوصا أنها أوقعت الفيلم
في مسار سردي أقرب إلى المسار التسجيلي مع الإكثار من مشاهد الغناء
الأوبرالي من الماضي عندما كانت ماريا كالاس متألقة على مسرح سكالا الشهير
في ميلانو، ثم في نيويورك ولندن وباريس، وخصوصا أيضا، أن هذا المسار السردي
أفقد الفيلم بعض الشيء، قوته “الدرامية” فقد تستعاض عن الحبكة الدرامية
للأحداث بالدراما” الداخلية التي تدور داخل وعي الشخصية نفسها، أي صعودها
وتألقها وبلوغها القمة، ثم شعورها بالإحباط واليأس بعد أن فقدت ما تعتبره
حياتها، أي الأوبرا، وأصبحت عاجزة عن العودة إلى الغناء، وأقبلت كما نرى،
على تعاطي الحبوب المهدئة التي أثرت كثيرا على صحتها وقد تكون السبب في
إنهاء حياتها مبكرا في عمر 53 عاما.
ويتم التعبير عن هذه الدراما الداخلية العنيفة من خلال
الانتقال المستمر إلى مشاهد الأوبرا من الماضي، عندما كانت ماريا تتمتع
بقدرتها الهائلة على الأداء، ومحاولاتها المستمرة لاستعادة هذا التألق بعد
أن أصبح صوتها يخذلها، وفي كثير من هذه المشاهد المستمدة من الماضي ينتقل
لارين بين الألوان والأبيض والأسود، من دون منطق ما يفرض هذه الانتقال، بل
لهدف جمالي بحث.
معظم المشاهد تدور داخل الشقة الفسيحة الفاخرة التي عاشت
فيها ماريا كالاس سنوات حياتها الأخيرة في باريس، بعد أن اعتزلت العالم.
والشخصيات في الفيلم محدودة: فهناك إلى جانب ماريا، شخصية خادمها المطيع
الأمين “فيروشيو” (الذي يقوم بدوره الممثل الإيطالي بييرفرانشيسكو فافينو)
وخادمتها “برونا” (تقوم بدورها الممثلة الإيطالية ألبا رورواشر) والاثنان
مواليان حتى النهاية لسيدتهما رغم كل ما يلاقيانه على يديها من سوء معاملة
وفظاظة نتيجة شخصيتها المتسلطة، واعتدادها بنفسها ورغبتها في تأكيد سلطتها
وسكوتها خصوصا بعد أن فقدت خضورها كمغنية أوبرا من مشاهير العالم، وابتعدت
تماما عن عالمها الأثير، وأصبحت تقرض ذكريات الماضي وتقتات على الحسرات
والآلام الداخلية.
وهناك أيضا الممثل التركي “هالوك بيللنجر” في دور أوناسيس،
وكان أداءه فيه مقنعا بدرجة كبيرة. والحقيقة أن حضور شخصية أوناسيس في
الفيلم أساسي، وهو الذي لعب دورا كبيرا في حياتها رغم حبه الشديد لها. فهو
الذي أراد لها الابتعاد عن الأوبرا، وامتدت علاقتهما الطويلة لسنوات رغم
أنهما كانا متزوجين، ولكن حتى بعد طلاقهما، لم يتزوجها أبدا، فقد رفضت هي
أن تصبح كما تخبرنا في الفيلم، مجرد جلية أخرى يقتنيها.
وهي تعلق ساخرة من زواجه بجاكلين كنيدي التي لت تظهر
شخصيتها في الفيلم لكنه سيعترف لها بأنها كانت بالفعل نوعا من الاقتناء.
وفي
مشهد يدور مع الرئيس الأمريكي الراحل جون كنيدي تخبره أنها تشعر بأن كلاهما
يتمتعان بمكانة كبيرة في العالم، ورغم هذا فهي لا تشعر بأنهما متقاربان، ثم
تتركه وتنهض في تأفف واضح.
سنتعرف من خلال الحوارات التي يجريها معها الصحفي الشاب
(الذي يمنحه الفيلم اسم عقار من عقاقير المهدئة التي أدمنت عليها)، على
طفولتها في لمحة سريعة من خلال الإشارة إلى أمها التي كانت دائما تشعرها
بفضلها عليها وكيف أنها هي السبب فيما حققته من شهرة وتطالبها برد الجميل
بمنحها المال، وكانت هي التي أرسلتها للتدرب على الغناء من صغرها لا من أجل
الفن، بل من أجل الحصول على المال، بل ودفعتها كما نرى في أحد مشاهد الفلاش
باك، أثناء الحرب العالمية، وقت احتلال النازيين اليونان، للغناء وبيع
جسدها للضباط الألمان مقابل المال. ولكن الأم كانت أيضا امرأة وحيدة تجتر
مرارتها، في وحدتها بعد أن تخلى زوجها عنها.
تخرج ماريا في بعض المشاهد مع الصحفي الشاب للتجول في حدائق
التويلري قرب قصر اللوفر، وكثيرا ما يرتد الفيلم في مشاهد بالأبيض والأسود
إلى لقاءات ماريا كالاس مع التايكون اليوناني أوناسيس، أو نعود إلى علاقتها
الغريبة مع خادميها، فيروشيو الذي يحميها ويمنع عنها الذين يريدون النيل
منها كما في مشهد الصحفي الفرنسي الذي يهاجمها ولا نعرف إن كان واقعا أم
متخيلا، وخادمتها الوفية التي ربما لا تفهم كثيرا في الغناء الأوبرالي
لكنها تعرف ان صوت ماريا لم يعد كما كان، ورغم ذلك فهي دائما تجيب عندما
تسألها رأيها بأن غناءها “رائع”.
الصورة في الفيلم هي العنصر الأكثر بروزا، والتصوير البديع
الذي قام به المصور الأمريكي الكبير إدوارد ليشمان (كارول، الكونت، مياه
داكنة) ينتقل بين الحقيقة والخيال، ويمزج الماضي والحاضر في ألوان براقية
لامعة يطغى عليها الأصفر والأحمر والبني، ليضفي شعورا بالنوستالجيا في
مشاهد الماضي، ثم النزعة الاكتئابية في مشاهد الحاضر.
شريط الصوت وحده عمل عبقري بكل معنى الكلمة، فهو يوازي
الصورة ويتفوق عليها أحيانا، في انتقاء دقيق ومحسوب من أوبرا عايدة
ولاترافياتا وفيوليتا، ومن فيردي وروسيني وبوتشيني.
فيلم “ماريا” ليس تحفة سينمائية، فهو ينقصه السرد الدرامي
الأكثر تشويقا وإثارة، لكنه يظل رغم التكرار، واللعب على الفكرة نفسها من
زوايا مختلفة، متعة للعين وللأذن. |