إذا ما كانت هناك ملاحظة أولى بالنسبة للأيام الثلاثة
الأولى التي مرّت على أيام مهرجان ڤنيسيا فهي أن القدر الأكبر من التقدير
والاحتفاء ذهب للممثلتين الأميركيّتين سيغورني ويڤر وأنجلينا جولي.
بالنسبة لويڤر بطلة أفلام «أڤاتار» و«غوريللاز في الضباب»
ونحو 100 فيلم آخر، تم الاحتفاء بها في ليلة الافتتاح وإهداؤها الجائزة
التقديرية عن كل أعمالها.
وبينما كان حديثها لجمهور الصالة المتخمة بالحاضرين صادق
النبرة وهي تتحدث عن شعورها حيال هذا التقدير ومهنتها كممثلة، بادلها
الجمهور التحية بالتصفيق وقوفاً وجلوساً. بالنسبة لعديدين هي واحدة من خيرة
ممثلات هوليوود وأشهرهن (74 سنة)، وما زالت مرغوبة ونشطة كما كان حالها في
الثمانينات وما بعد.
جولي وماريا
أما أنجلينا جولي فبلغ إعجاب الحاضرين بأدائها دور المغنية
الأوبرالية ماريا كالاس، في «ماريا»، درجة الوقوف والتصفيق لها لتسع دقائق
متوالية. وكثيرون شاهدوا الدموع تترقرق في عيني الممثلة تقديراً لهذا. فيما
بعد الفيلم انطلق الحديث عن أنها ستكون بالتأكيد إحدى المرشّحات للأوسكار
وقد تفوز به.
«ماريا»
للمخرج التشيلي بابلو لوران يشبه وشاحاً صُمم ليمنح الممثلة التي تقوم بدور
المغنية اليونانية كالاس كل التألق الذي تستحقه. فوز أنجلينا جولي بالدور
يعكس بالنسبة إليها حجر زاوية في مهنتها الناجحة عموماً والمضطربة في بعض
الأحيان.
كان بابلو خاض غمار الأفلام البيوغرافية مرّتين سابقتين؛
الأولى سنة 2016 عندما أخرج «جاكي» عن جزء من حياة جاكلين كندي، والثانية
سنة 2021 عندما قدّم كذلك تلك المرحلة المهمّة من حياة الأميركية ديانا في
فيلمه «سبنسر».
حتى في فيلمه الأسبق «الكونت» (2023) الذي تناول فيه شخصية
الديكتاتور التشيلي أغوستو بينوشيه اختار جزءاً معيّناً فقط من حياته ولم
يشأ، كباقي هذه الأفلام المذكورة هنا له، تناول سيرته على مدار سنوات عديدة.
«ماريا»
يركّز على الأيام السبعة الأخيرة من حياة أسطورة الأوبرا، وكما الحال في
«الكونت» يدمج بعض الفانتازيا ببعض الواقع ليستخرج فيلماً عالي الوتيرة
كقصّة حياة، ومنخفض النبرة عندما يصل الأمر لمنح المشاهد صورة كاملة لتلك
الأيام الحاسمة والأخيرة.
واحدة من علامات تلك الفترة، حسب الفيلم، هي إحساسها بأنها
تريد الوثوق من أنها ما زالت ملكة الأوبرا بين المغنيات، وأن هناك جمهوراً
واسعاً وكبيراً يتابعها وفنها. شيء لا يختلف إلا بدرجات عن صورة غلوريا
سوانسون عندما قامت ببطولة فيلم بيلي وايلدز «سنست بوليڤارد» سنة 1950. لكن
التراجيديا في فيلم «ماريا» تتعرّض لسطوة الممثلة جولي وشهرتها، ما يجعل
الفيلم كما لو أنه صُنع لجولي أكثر مما هو حول حياة كالاس أو، على الأقل،
بالقدر نفسه.
في أي من الحالتين لا يمكن لوم جولي كثيراً في هذا المضمار.
عليها أن تستغل الفرصة لتقدم أداءً درامياً يوازي أداء كالاس الغنائي.
المفارقة الصعبة والمهمّة (والمفيدة للممثلة) هي أن انتقاء الأسبوع الأخير
من حياة ماريا كالاس ليكون موضوع الفيلم يمنح الممثلة اختباراً أدائياً لم
تعهده من قبل؛ ذلك لأن هذا الأسبوع كان الأسوأ في حياة كالاس. كانت باتت
مدمنة مخدرات وصوتها يعاني من تأثير ذلك، ولم تعد واثقة من قدراتها رغم
أنها كانت راغبة فعلاً في العودة إلى الأضواء.
يخلق كل ذلك فيلماً داكناً حول انهيار حياة وانطفاء شعلة.
نرى كالاس تعاني من مشاكلها فتمتنع عن تناول الطعام لأيام (هناك إشارة إلى
أن امتناعها بدأ قبل فترة من بداية أحداث الفيلم). ذاكرتها تستعيد أوج
لحظاتها، لكنها كانت بدأت تدرك أن أفضل سنوات مهنتها هي تلك السنوات
الغابرة. في هذا السياق، يوزّع المخرج مشاهد «فلاش باك» التي تثري المادة
بقدر ما تعزز حضور أفضل السنوات لشخصيته.
في النهاية، يبرز الفيلم كدراما ممهورة بمعالجة فنية جيدة
تعلو على مستوى التعامل مع الشخصية بحب. بكلمات أخرى، هو فيلم مهم مُعالج
ببرود عاطفي حيال الموضوع.
البحث عن «ريمو»
بعيداً جداً عن هذا الموضوع، وضمن مسابقة الدورة الـ81
الحالية لمهرجان ڤنيسيا، يأتينا من القارة اللاتينية فيلم آخر عنوانه «أقتل
الجوكي»
(Kill the Jokey)
للأرجنتيني لويس أورتيغا. كأفلام كثيرة في هذا العصر، هناك أكثر من عشر
شركات إنتاج وتمويل وضعت في الفيلم أموالها. هو أرجنتيني بقدر ما هو مكسيكي
وإسباني ودنماركي وأميركي، وهذا بعض قليل مما يطالعنا الفيلم به في قائمة
شركاته المنتجة.
على ذلك، الموضوع المطروح وهويّته محددان جيداً. دراما ذات
خصائص يمتزج فيها الجد بالهزل والوضع الشخصي بالخلفية العامّة.
بداية الفيلم لافتة وواعدة، نرى فيها امرأة تغني بلا جمهور
في حانة فارغة. هناك رجل نائم منزلق فوق كرسيه. يدخل رجلان من ذوي الأشكال
التي تستطيع أن تدرك أنهما خاضا حياة عصيبة. أحدهما يضع عصاه في فم النائم
لإيقاظه. إنه «الجوكي ريمو» (بيريز بسكارت)، والرجلان جاءا لكي يأخذاه إلى
حيث سيلتقي به رئيس عصابة تراهن على سباقات الجياد. المطلوب منه أن يفوز.
لكن في التجربة الأولى ما إن تُفتح الأبواب لانطلاق الجياد حتى يقع أرضاً.
هو «جوكي» في ماضيه أما حاضره فمميّز بالشراب والإدمان وفقدانه للياقة
المطلوبة.
لا يحيطنا الفيلم علماً بالسبب الذي أدى بـ«ريمو» إلى هذا
الوضع. يبدو واحداً من شخوص الواقع الحاضرة التي فقدت الاهتمام بأهم
الأشياء في الحياة. لكن الفيلم بدوره يفتقد شيئاً آخر: يبدأ بنبرة خيالية
لافتة حيث أي شيء وكل شيء قد يقع. لكنه يتحوّل بعد ذلك إلى نبرة مختلفة
عندما يهرب «ريمو» من المستشفى بعد حادثة خلال سباقه الثاني. هنا تتعرّض
الحكاية إلى التواء واضح. تصبح شيئاً من كوميديا مباشرة حول عصابة تبحث عن
«ريمو» للانتقام منه بعدما تسبب في خسارتها مادياً خلال الرهانات.
لا يفقد الفيلم جاذبيّته وإن كان لا ينجز الكثير عدا ذلك.
يحتوي على تلك الأفكار المودوعة في التغريب؛ إذ كل مشهد عليه أن يأتي
مخالفاً للتوقعات. جديد في الناحية البصرية وكفكرة، لكن الحكاية تمشي في
درب مختلف بحيث الكثير مما نشاهده على صعيد المضامين وكتعليق اجتماعي من
خلال موضوعه، يتبعثر بحيث لا يصل الفيلم إلى تحديد ما يرغب منا تقديره من
تلك المضامين. |