من أفلام مهرجان فينيسيا: من إيرول موريس إلى الهولوكوست
أمير العمري– فينيسيا
من الأفلام التي انتظرت مشاهدتها في الدورة الـ81 لمهرجان
فينيسيا، الفيلم التسجيلي الطويل للمخرج الأمريكي المرموق إيرول موريس صاحب
الأسلوب الخاص في عرض أفلامه المثيرة للجدل، التي تتناول الكثير من القضايا
الفكرية والسياسية التي تشغل الرأي العام في الولايات المتحدة، فقد سبق أن
تناول موضوع عقوبة الإعدام في فيلم “خط أزرق نحيف”، ثم مواجهة وزير الدفاع
الأمريكي الأسبق، روبرت مكنمارا بمسؤوليته عن توريط أمريكا في حرب فيتنام
في “ضباب الحرب” واستخدامها أبشع أنواع الأسلحة الفتاكة، ثم مساءلة
الهولوكوست وما إذا كانت غرف الغاز قد وجدت حقا في فيلم “مستر موت” الذي
يتوقف أمام شخصية فريد لوشتر صاحب التقرير الشهير الذي ينكر وجود القتل
بالغاز السام في أوشفتز، ثم “المجهول المعلوم” الذي يواجه فيه وزير الدفاع
الأمريكي دونالد رامسفيلد الذي دفع بلاده لغزو العراق، ثم “ممر الحمام”
الذي يشرح فيه شخصية أشهر كاتب لأدب الجاسوسية، البريطاني جون لوكاريه.
إيرول موريس يعود بفيلم جديد إلى المهرجان هو “منفصل”
Separated
الذي يبحث فيه ما اعتمدته إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب من سياسية فصل
الأبناء عن آبائهم اللاجئين الذين يعبرون الحدود مع المكسيك قادمين من
القارة الجنوبية. وهي السياسة التي توقفت مؤقتا في ظل إدارة بايدن لكن من
المؤكد أن تستأنف في حالة تم انتخاب ترامب.
كان المأمول أن يناقش الفيلم السياسات العنصرية للرئيس
ترامب بشكل عام، وربما أيضا بتركيز خاص على موضوع الجدار العازل بين بلاده
والمكسيك لمنع تدفق المهاجرين غير الشرعيين، وماذا يجري عند الحدود، لكن
الفيلم أصبح بمثابة مقال تفصيلي موثق من خلال الشهادات التي يدلي بها عدد
من الشخصيات، من اليمين ومن اليسار، أي على جانبي القضية، بخصوص موضوع فصل
الأطفال عن ذويهم، وهي قضية إنسانية يحذر موريس كم خطورتها ومن انعكاساتها
المستقبلية على الشارع الأمريكي. ويحاول أن يذكر بما تم تشريعه بالفعل في
هذا السياق.
ورغم جرأة الكثير من المشاهد والمواجهات التي تتم مع بعض
المسؤولين، يبدو الفيلم أقل في مستواه كثيرا عن أفلام مخرجه السابقة، خصوصا
وانه لم ينجح في الحصول على أي تصريح من جانب أي مسؤول في إدارة الرئيس
بايدن، كما أنه يفتقر إلى الطرق المبتكرة الإبداعية التي تميز أسلوب إيرول
موريس كما تبدى في أفلامه السابقة.
من أفلام المسابقة لفت نظري فيلم “اقتل الجوكي” للمخرج
الأرجنتيني لويس أورتيجا الذي يجمع بين فيلم الإثارة (ثريللر) والكوميديا،
رغم أنه يبدو من السطح من الأفلام “الرياضية” خصوصا رياضة سباق الخيل.
“ريمو
مانفريدي” بطل الفيلم، الشاب العشريني، هو الجوكي الذي يقود الحصان في
السباق ويكسب عادة، لكنه أيضا مدمن مخدرات وكحول، بل سنعرف أنه ضالع في
توزيع المخدرات لحساب مجرم عتيد يدعى “سيرينا”. وريمو واقع بين شقي الرحى،
فسيرينا يطالبه بالفوز في السباق القادم لضمان استرداد ما له من مال لديه،
والمسؤول عن تنظيم السباق يريد أن يجني أرباحا من وراء المراهنات، وصديقته
الحامل منه “أبريل”، تريده أن يبتعد عن السباق. وتقوم بدور أبريل، الممثلة
الإسبانية الجميلة التي سبق أن قامت بدور “طوكيو” في مسلسل “سرقة البنك”
الشهير.
تحت كل هذه الضغوط، ومدفوعا برغبة عبثية في الهرب، يرتطم
ريمو بحصانه في السياج وتكون النتيجة إصابته في دماغه إصابة بالغة، ربما
يكون قد نتج عنها ارتجاج في المخ أو نزيف، لكنه لن يبقى طويلا في المستشفى
بل سيسرق معطفا نسائيا من الفرو، ويلف رأسه بقماش أبيض، ويضع الماكياج الذي
سرقه أيضا، ويتنكر في زي امرأة ويطلق على نفسه “دولورس”، ويهيم على نفس في
شوارع بيونس أيرس، بينما يقلب سرينا الدنيا عليه ويرسل في أثره مجموعة من
الأشقياء، لقتله أو العودة به سالما.
هناك كثير من الأفكار المبعثرة في الفيلم مثل فكرة الهوية،
أو الصدام مع العالم الذي يدفع إلى تغيير الهوية كنوع من الهرب، لكن هناك
أيضا فكرة تدمير الذات، وفكرة الجندر أو الميل الجنسي، ففي لحظات يقبل ريمو
أن يتم التعامل مع على أنه امرأة، وفي وقت آخر، يبدي بعض الاستجابة
لمداعبات سرينا الجنسية، كما أن “أبريل” التي أرادته إلى يعود إلى نفسه أي
أن يتغير ويصبح أكثر شعورا بالمسؤولية، كشرط لكي تمنحه حبها من جديد، هي
نفسها تنحرف جنسيا في اتجاه الجنس المثلي رغم حملها منه.
في الفيلم بعض ما يذكرنا بالمزاج العام الذي يمكننا أن
نلمحه في أفلام ألمودوفار الأسباني، خصوصا فكرة التردد بين أنواع الجندر،
والميل إلى تدمير الذات، والبحث عن مهرب من سجن النفس.. وربما يكون هذا
ناتجا من تأثر لويس أورتيجا بألمودوفار الذي أنتج له فيلمه الأول “الملاك”
El Angel
الذي عرض في 2018 بقسم نظرة ما في مهرجان كان.
برع في أداء شخصية ريمو الممثل “ناهول بيريز بيسكاريات”،
الذي بدا بوجهه الجامد وعينيه الواسعتين وهو يحدق في ذهول خلال تجواله
الليلي، يريد أن يجد له ملجأ، كما لو كان كائنا قادما من الفضاء. وربما
تكون رحلة هروبه، وتنكره، وما يمارسه من القتل بإطلاق الرصاص من مسدس يحصل
عليه من رجل سبق له أن قدم له المساعدة، ربما تكون كل هذه المشاهد
والتفاصيل، تدور في الخيال، أي صورة متخيلة، قد تدون نتاج ذهن مشتت بسبب
الإصابة، وربما يكون “ريمو” قد قضى نحبه بالفعل تحت تأثير الإصابة القاتلة.
وكلها افتراضات لا يحسمها الفيلم بالطبع، بل يبقي على ذلك الغموض، كجزء
أصيل من الحبكة.
في قسم “أوريزونتي” شاهدت الفيلم الإسباني “ماركو”
Marco
الذي أخرجه اثنان هما أيتور أريجي وجون جرانو، وفيه يقوم الممثل الاسباني
الكبير إدوارد فرنانديز بدور “ماركو” وهو رجل في نحو الثمانين من عمره أصبح
رئيسا لاتحاد الناجين من الهولوكوست في اسبانيا، هو متحدث بارع، نجح في دفع
أعلى السلطات بما في ذلك رئيس الجمهورية نفسه، للاعتراف بهذه الاتحاد.
وفي الفيلم معلومات وصور وثائقية كثيرة حول كيف تم إرسال 9
آلاف لإسباني من فرنسا إلى معسكرات الاعتقال النازية خلال الحرب العالمية
الأولى. والمفترض أن “ماركو” من بينهم، وهو يروي الكثير عن تلك التجربة
القاسية.
إلا أن المشكلة أن ماركو وليس لديه شهادة رسمية معتمدة من
السلطات الألمانية تفيد بكونه كان واحدا من المعتقلين السابقين في
المعسكرات النازية. وعندما يذهب مع زوجته للحصول على مثل تلك الوثيقة يفشل
لأن ما يخبرهم به من معلومات لا يوجد دليل موثق لديهم عليها. وهو يقوم
بتزوير اسم ليجعله مطابقا لاسمه في صورة (كوبي) من وثيقة رسمية، لكن أمره
سينكشف تدريجيا، فهو أحد ضحايا الهولوكوست المزورين.
الفيلم مصنوع في سياق شديد الرونق والإثارة، من خلال
سيناريو محكم، وبناء دقيق للشخصية، وإخراج لا يسقط في الإثارة أو التبسيط،
ولا يلجأ للمبالغات ، بل يميل إلى تقريب الموضوع للمشاهدين من خلال الكشف
عن كثير من الأحداث التاريخية التي شابت عصر حكم الجنرال فرانكو وتعاونه مع
هتلر، مع الانتقال ببراعة بين الخاص والعام، بين ماركو وعائلته وخصوصا
ابنته التي تطالبه بالاعتذار الرسمي بعد انفضاح أمره، وزوجته المغلوبة على
أمرها التي عرفت الحقيقة مبكرا لكنها ظلت تأمل أن ينكشف الخداع من دون أن
تجرؤ على مواجهته، وزملائه الذين انتخبوه رئيسا لاتحاد الناجين من
الهولوكوست، ثم أسقطوه ونبذوه واستبعدوه من اجتماعاتهم.
ومن أهم عناصر الفيلم من دون أي شك، الأداء البديع للممثل
إدوارد فرنانديز في دور ماركو، الذي يظل حتى بعد أن يتجاوز التسعين من
عمره، وحتى بعد انكشاف حقيقته، ونبذ زملائه له، مصرا على ضرورة الاعتراف
بما قدمه من خدمة دليلة لضحايا الهولوكوست، مصرا في الوقت نفسه على أنه لم
يكذب ولم يزور شيئا، لقد أصبح مندمجا تماما في الدور الذي صنعه لنفسه.
القصة حقيقية، والشخصية حقيقية، والتفاصيل تمتد لتشمل
الكثير من الأشخاص خصوصا من اليهود، الذين نشروا مذكراتهم باعتبارهم من
ضحايا الهولوكوست الذين قضوا سنوات وتعرضوا للتعذيب داخل المعسكرات
النازية، ثم ثبت أنهم لم يكونوا هناك قط، لكن قد يكون هذا أول فيلم يصور
شخصية رجل انتحل شخصية ليس له، في سباحة عكس التيار السائد، ولكن من دون أن
يكون الشخص يهوديا بالطبع، ومن دون أن يصل الفيلم بأي قدر، إلى التشكيك في
وقوع “الهولوكوست” نفسه الذي أصبح عقيدة ثابتة في الغرب! |