ملفات خاصة

 
 
 

عن نساء "برليناله 2025" مجدّداً:

حضورٌ طاغ لكنّ الارتباك بصري

برلين/ نديم جرجوره

برلين السينمائي

الدورة الخامسة والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

فيلمان آخران، مُشاركان في مسابقة الدورة الـ75 (13 ـ 23 فبراير/ شباط 2025) لـ"مهرجان برلين السينمائي (برليناله)"، يتناولان شقاء المرأة وآلامها. أوّلهما صينيّ أيضاً، فبعد "عيش الأرض" للصيني هيو مينغ (العربي الجديد، 17 فبراير/شباط 2025)، الكاشف أهوال اليوميّ في عائلة كبيرة العدد، يُقيمون جميعهم/جميعهنّ تقريباً في بلدة ريفية، يُعاين "فتيات على السلك" (ترجمة حرفية للعنوان الإنكليزي Girls On Wire) للصينية فيفيان كو (إخراجاً وكتابة السيناريو)، بكثيرٍ من العنفين الجسدي والمعنوي الظاهِرَين مباشرة (قليلاً) ومواربة (غالباً)، مسارَي الشقيقتين تْيَان تْيَان (لو هاوتْشُن) وفانغ دي (وَنْ كي)، منذ طفولتهما في بيئة عائلية غير مُريحة، يمتدّ تأثيرها (البيئة) عليهما سنين طويلة، وتحفر في أعماقهما جراحاً لن تندمل.

أمّا "أمّ الصبيّ" (ترجمة عربية أنسب للمضمون الدرامي لـMother’s Baby) للنمساوية يوهانا مودر (إخراجاً وكتابة السيناريو مع آرن كولفاير، المولود في جزيرة أوزِدَم الألمانية البولونية)، المازج في طياته اختبارات علمية تقترب من اللامعقول أو ربما المحتَمل تحقّقه لكنّ في أزمنة بعيدة، فيُعاين أحوال امرأة تبغي طفلاً، فتخضع لتلقيح يُنجِب لها الطفل المرغوب فيه، قبل أنْ تنقلب حياتها كلّياً، فتبدأ رحلة آلام نفسية، تضعها على حافة الخراب الذاتي الأخير.

أهوال وعنف

في المسابقة نفسها، هناك "ما تعرفه مارييل" للألماني فريدريك هامْبَلِك (إخراجاً وكتابة السيناريو أيضاً)، الجامع في نصّه البصري كوميديا ساخرة وقاسية بدراما أسريّة، ترتكز على شيءٍ من الاجتماعي والتربوي والنفسي والانفعالي، فيختار نسقاً غرائبيّاً غير واقعي نواة درامية تكشف، تدريجياً، مناخاً عائلياً مرتبكاً، يختبئ وراء أقنعة تُخفي أكاذيب وارتباكات.

فمارييل (ليني غايزلار)، الابنة الوحيدة ليوليا (يوليا يانتش) وتوبياس (فيلِكس كرامر)، تكتسب مهارة كشف ما يقوله ويفعله والداها، من دون أنْ تكون معهما أو مع أيّ منهما (تسمع وترى أقوالهما وأفعالهما وإنْ تكن بعيدة كثيراً أو قريباً عنهما)، بعد تلقّيها صفعةً قوية من زميلة لها في المدرسة، إذْ تشتمها مارييل في لحظة ما. والوالدان، اللذان يظهران علناً في علاقة متينة تمتلك حبّاً وتفاهماً، يغوصان معاً ومنفردين في مآزق وانهيارات غير واضحةٍ كلّياً، رغم أنّها تُثير في الابنة المُراهقة غضباً مكتوماً، وعصياناً ناقصاً، إذْ تشعر بتعاطفٍ أكبر مع الوالد (قبل اكتشافها إصراره على إجهاضها في مرحلة الحَمل)، وبنقمة شبه كاملة على الوالدة.

بهذا، يُمكن اعتبار اضطرابات مارييل شبيهةً بأهوال "فتيات على السلك"، وبالعنف، متنوّع الأشكال وأساليب التحقّق، الذي تعانيه نساء "حليب ساخن" للإنكليزية ريبيكا لنْكِوَيتش (العربي الجديد، 17 فبراير/شباط 2025) و"اللون الأزرق الأخير" للبرازيلي غبريال ماسْكارو و"برج الجليد" للفرنسية ذات الأصل البوسني لوسيل هادجيهاليلوفيتش (العربي الجديد، 19 الشهر نفسه)نساء ومراهقات وصبايا يواجهن أسوأ ظرفٍ وحالة، وأعنف راهن وعيش، وأقسى ماضٍ ومسار. يُردن خلاصاً، فيقعن في هاوية الاختناق والتشرذم. يجهدن في نفاذٍ من بطش الآخر، وأحياناً من بطش الذات المنبثق من محيطٍ أو من داخل ذاتي، فيكتشفن أنْ لا ثغرة واحدة على الأقلّ تتيح لهنّ راحة وسكينة.

رغم تركيبته الدرامية الكلاسيكية، يمتلك "فتيات على السلك" قدرة بصرية على صُنع تساوٍ بين تفاصيل حياتية مختلفة. فهناك أولاً عنفٌ يُمارس على شابّة مسجونة في غرفة بائسة؛ وهناك بالتالي شابّة أخرى تعمل ممثلةً بديلة تُنفّذ اللقطات الأصعب والأخطر. المشترك بين الشابتين، إلى كونهما شقيقتين، تاريخٌ حافل بعنف أهل وبيئة، وبتمزّق نَفْسٍ وروح وانفعال، وباختبار الأقسى والأسوأ في يوميات، تُنذر بمزيد من المخاوف والصدمات والقهر.

الاشتغال السينمائي مبسّط وعادي، رغم لقطات عدّة تشي بعينٍ سينمائية تُتقن ابتكار جماليات تعكس ما يعتمل في كلّ فردٍ، فالجميع (ذكوراً وإناثاً) مُصابون بأعطاب متفاوتة القسوة والتأثير والتأثّر.

اشتغالات مختلفة

هذا يُشبه اشتغالات "أمّ الصبيّ"، رغم أنّ جديد مودر يستفيد من فنون السينما ما يُشبِع النصّ ويفتحه على إيهامات، تنكشف وقائعها في النهاية: الإضاءة والتصوير (روبرت أوبرّاينر) أساسيان في متابعة كلّ ما تفعله يوليا (ماري لوينْبيرغر) وتشعر به، منذ لحظة إنجابها طفلاً لن تحضنه أو تنظر إليه، إذْ يؤخذ سريعاً منها، "لإجراء فحصوات ضرورية وعادية" كما يُقال لها، قبل "إعادته" إليها. والتوليف (كارِن هامر) يوحي ببساطةٍ في ربط اللقطات/المشاهد وصُنع حكاية بصرية منه (الربط)، يستغل الإضاءة والألوان لكشف ما تعانيه المرأة/الأم، التي ـ بفضل أداء أوبّراينر، خاصة تعابيرها الصامتة بالعينين والوجه والحركة والجسد والنبرة ـ تخوض اختباراً قاسياً في الإنجاب أساساً، لكنْ في علاقاتها بمحيطين ومحيطات بها، أوّلهما زوجها/شريكها يورغ (هانس لوف).

بساطة الاشتغال ظاهرياً حاضرةٌ في "ما تعرفه مارييل" أيضاً، الذي يوحي بسرده حكاية عادية، رغم استنادها إلى حالة غير طبيعية، كي يقول شيئاً عن تفكّك أسرة، أو بالأحرى بعض العفن المخفيّ فيها. وإذْ يتضمّن الحوار تعليقات ساخرة وانتقادية في آن واحد لمسائل وحالات، مُثيراً بذلك ضحكاً لن يحول دون تنبّهٍ إلى مغزى الحكاية برمّتها، تكتفي الأدوات الفنية المختلفة بتمكين النصّ من بلوغ المُراد منه، وإنْ يبقى الأداء حِرفياً مهنياً لا أكثر.

الحسّ الساخر والانتقاديّ مُغيّبٌ كلّياً عن "فتيات على السلك" و"أم الصبيّ"، اللذين يتمتّعان بقدرٍ عالٍ من العنف المبطّن والمباشر. لكنّ "فتيات على السلك" يتفرّد بالتزامه سرداً سينمائياً متقن الصنعة، من دون إبهارٍ واختلافٍ، باستثناء لقطات قليلة، بينما "أمّ الصبي" يحاول نقاشاً إضافياً في مسألة علمية: السلمندر (Salamandre بالفرنسية وSalamander بالإنكليزية) أشبه بعظاية، يختبر علماء (أيكون الاختبار خيالياً، كالعظاية الخرافية هذه كما يُقال عنها غالباً؟) كيفية "صُنع" مخلوق بشريّ منها. هذا يوحي به "أم الصبي" على الأقلّ، بتركيبة درامية متماسكة ومشدودة ومُثيرة لتوقّعات، تفشل كلّها في ختام نصٍّ مُعلّق، لا إجابات حاسمة فيه.

إنْ يكن ثقل القسوة والعنف الأسريّ في "فتيات على السلك"، الذي يُظلِّل النص البصري كلّه، أساسيّاً في تنقيبٍ عن تفكِّك العلاقات العائلية وانهيارها وارتباكها، والخيارات الخاطئة أو غير المدروسة وغير المفهومة، وعن مسارات غير مرغوبٍ فيها؛ فإنّ ثقل قسوة وعنف مبطّنين يتحكّم بالمسار الحكائي لـ"أمّ الصبيّ"، ممزوجاً باللامُتوقَّع. وإنْ تكن المُراهِقة مارييل، في "ما تعرفه مارييل"، أساس فضح المستور، والعمل على تحرير (!) الوالدين من النفاق والاحتيال في العلاقات القائمة بينهما، بل في علاقة كلّ واحد منهما بنفسه أولاً؛ فإنّ المُراهقِة جانّ/بيانْكا (كلارا باسيني)، في "برج الجليد"، ستكون بدورها تلك الأداة التفكيكية لامرأةٍ (كرستينا/ماريون كوتيار) تعاني انكساراً ذاتياً في مستويات عيش وتفكير وانفعال، رغم أنّها (جانّ/بيانكا) نفسها تعاني شيئاً من هذا الانكسار، الذي يؤدّي بها إلى رحلة في النفس البشرية.

البساطة السينمائية في حكاية مارييل مختلفة كلّياً عن الاشتغال السينمائي في "برج الجليد"، المليء بعتمةٍ ومتاهاتٍ وفراغات تُحيل إلى شيءٍ من أفلام الرعب، من دون بلوغ مُنجزاتها الباهرة. فالبساطة أقدر على التنبيه إلى تفاصيل كثيرة (وهذا غير شامل كلّ بساطة سينمائية)، بينما "برج الجليد" يوهم باختباراتٍ سينمائية باهرة، فإذا بالمُنجز النهائي غير متساوٍ وبراعة الإيهام.

أمّا "فتيات على السلك"، فبقدر سعي مخرجته فيفيان كو إلى مساواةٍ بين كواليس صناعة الأفلام الصينية ووحشية العالم السفلي للمخدّرات والقتل والعلاقات الأسرية المحطَّمة والمحطِّمة، يبقى أسير الحِرفية المهنية، مع بعض كليشيهاتٍ مُتداولة عن اجتماع وعائلة وعنف وعلاقات وصناعة أفلام وجريمة.

دورةٌ تُعنى بالمرأة

واضحٌ أنّ الدورة الـ75 هذه لـ"برليناله"، أقلّه في مسابقتها الرسمية، مخصّصة بالأنثى، مُراهِقة وشابّة وامرأة وعجوزاً. اهتمامٌ بها غير جديد، في "مهرجان برلين" كما في مهرجانات أخرى، وغير محصورٍ في شخصيات نسائية تكون جوهر المُنجز السينمائي، إذْ يتعدّاها إلى من يصنعن الأفلام أيضاً. هذا خيار تُكمله تريشيا تاتل، المديرة الفنية الجديدة لـ"برليناله"، المستلمة مهامها هذه عشية الدورة الـ75.

المسألة غير مرتبطةٍ بـ"طغيان المرأة"، بل باختيار أفلامٍ تبغي اهتماماً بها، فتكاد السينما تختفي إزاء الحكاية أو الحالة. مع هذا، "تنجو" أفلامٌ عدّة، مُشاركة في المسابقة الرسمية تحديداً، من فخّ نضالٍ انفعالي، لأنّ فيها اجتهاداً سينمائياً، أو محاولة اجتهادٍ سينمائي.

كما أنّ المرأة، في لحظة اهتمامٍ بها في "برليناله 2025"، تحضر خارج البطولة، إنْ تكن البطولة شخصيةً أو قضية أو حالة أو إخراجاً/كتابة سيناريو. فـ"المستعمرة" (2025)، جديد المصري محمد رشاد (برنامج "وجهات نظر"، Perspectives)، يُتيح للمرأة/الأم/الأرملة مكاناً في سياقٍ كاشفٍ انهياراً فظيعاً في عيش ومشاعر وعلاقات. والفيلم، إذْ يروي حكاية الشقيقين حُسام (أدهم شكري) ومارو (زياد إسلام) في مواجهتهما مصائب بيئة واجتماع وحياة، يقول إنّ المرأة/الأم/الأرملة (هنادي عبدالخالق) تعاني حرماناً وأعطاباً، وإنّ شابات، يُختزل بعضهنّ بعبير (هاجر عمر)، تائهات بين موتٍ وفقرٍ ورغبات ومشاعر، وهذا يعني أنّهن متألّمات، ومُسبّبو الألم كثيرون، بدءاً من أهل وأقارب.

لمحمد رشاد، قبل "المستعمرة" (إخراجاً وتأليفاً)، أفلامٌ قليلة، أبرزها الوثائقي "النسور الصغيرة" (2017، العربي الجديد، 13 إبريل/نيسان 2018). الانتقال من اشتغال وثائقي مُثير للانتباه، شكلاً ومضموناً، إلى روائيّ يكاد يكون مخيّباً لتوقّعات "محبّي" وثائقيّه هذا، غير سليمٍ، فالنص محتاج إلى كتابة وتنفيذٍ أفضل، لأنّ المطروح مهمٌّ، لكشفه أنماطاً مختلفة من فسادٍ وابتزاز وقهرٍ وخلل، والمرأة/الأم/الأرملة تكون في حيّز الخلل الأسريّ (لـ"المستعمرة" قراءة نقدية مستقلّة لاحقاً).

 

العربي الجديد اللندنية في

21.02.2025

 
 
 
 
 

من برلين.. مخرج «آخر يوم»:

أبحث عن تأثير الأحداث على البسطاء في كل مكان

احمد العياد

من مركز كفر الدوار البعيد جدًا عن حواضر صناعة السينما والحركة الفنية، بدأ شاب مصري مشواره نحو مهرجان برلين السينمائي الدولي، متحديًا المركزية الكبيرة التي تحكم الوسط الفني والثقافي في مصر حيث نشأ.

إلي العاصمة الألمانية التي تحتضن مهرجان برلين، جاء محمود إبراهيم المخرج المصري الشاب في صحبة فيلمه «آخر يوم» المعروض ضمن قسم «الفورم الممتد» بالمهرجان الذي يتيح منصة للأصوات التي تخرج الأفلام من رحم الشغف قبل أن تصقلها الإمكانيات. والمفارقة أن الأمر حدث دونما تخطيط.

 عن بداياته، وتأثير دراسته للمونتاج على رؤيته السينمائية، وعلاقته المتوترة بقاعات العرض، وعن خطته لما بعد برلين كان لـ فاصلة معه هذا الحوار.

«آخر يوم» فيلم قصير جدًا، لا تزيد مدته عن أربع دقائق ونصف الدقيقة، يتحرك بطلاه بصمت داخل مساحة ضيقة يتراكم فيها أثاث يشي بأن حياة كانت هناك. يترك الفيلم المهمة لشريط الصوت الذي يتولى نقل الحكاية لنا كاملة، على الرغم من أنه مجرد مونتاج لنشرة أخبار تنتقل بنا من أحوال العمال إلى خبر عن إزالة بيوت لتوسعة طريق بالقاهرة وتنتهي في القدس حيث تعمل السلطات الإسرائيلية على حصار وهدم بيوت الفلسطينيين. يترافق هذا الشريط التي تقطعه صافرة تشويش تتعالى بسرعة لتكتم الصوت مع الملامح المحايدة للبطلين وانتقال الكاميرا وسط ذلك التشويش لتوصل الرسالة كاملة.

وعلى الرغم من أن كفر الدوار التي يبدأ منها الفيلم بعيدة عن الحدثين الذين يحملان سردية الفيلم إلا أن الربط بينها وبينهما يتكفل بإحداثه شريط الصوت في بدايته التي تتحدث عن مفاوضات العمال للحصول على حقوقهم، فكفر الدوار الواقعة في محافظة البحيرة  في شمال غرب دلتا النيل، واحدة من المدن الصناعية الراسخة ومركزًا لحركة العمال في مصر وهي أيضًا مسقط رأس مخرج «آخر يوم». التي يقول عنها في حواره لـ فاصلة: «نشأت في مدينة لم تكن لها صلة قوية بصناعة السينما، ولم أدخل قاعة عرض سينمائي حتى بلغت السابعة عشرة، وكان ذلك لمشاهدة فيلم أولاد رزق. قبل ذلك، كانت متابعتي للأفلام تقتصر على التلفزيون فقط».

الصدفة تكفلت برسم طريق محمود إبراهيم إلى صناعة السينما. يقول لـ فاصلة: «كنت أدرس في قسم الصحافة بكلية الآداب، لكن القسم أُغلق وأنا في السنة الأولى. في الوقت نفسه، علمت أن معهد السينما سيفتح في الإسكندرية، فقررت الالتحاق به، خاصة أن المدينة قريبة من سكني. سحبت أوراقي من الكلية رغم أن الدراسة في المعهد كانت قد بدأت بالفعل، لكنني قُبلت رغم ذلك وبدأت دراسة السينما»، واختار إبراهيم دراسة المونتاج، الذي يقول عنه: «المونتاج هو الذي علّمني السينما. هو الذي يجعلك تفكر في بناء الفيلم منذ مرحلة الكتابة، وليس فقط أثناء التصوير أو المونتاج النهائي».

لعبت الصدفة أدوارًا كثيرة في علاقة مخرج «آخر يوم» بالسينما. فكما رتب القدر دراسته للسينما بالإغلاق المفاجئ لقسم الصحافة تزامنًا مع افتتاح فرع لمعهد السينما بالإسكندرية؛ شاهد محمود أول فيلم «آرت هاوس» كذلك بمحض المصادفة. يقول إبراهيم لـ فاصلة: «في مرحلة عمرية معينة، كنت أميل لأفلام الحركة، لكن لاحقًا تغير ذوقي. أتذكر أنني شاهدت فيلم ميكروفون للمخرج أحمد عبد الله بالصدفة، وشعرت أنه قريب مني ومن تفكيري، على عكس أفلام الأكشن التقليدية.

بعد ذلك، في عام 2019 وأثناء دراستي في المعهد، كنت أبحث على أحد مواقع قرصنة الأفلام، ووجدت نسخة سيئة جدًا من فيلم «آخر أيام المدينة» للمخرج تامر السعيد. ورغم رداءة الجودة، شعرت بأن هذا هو النوع من الأفلام الذي أريد صنعه».

رغم ذلك، يصف إبراهيم علاقته بدور العرض بأنها «علاقة متوترة» فلنُدرة دور العرض في مدينته البعيدة عن القاهرة، لم يكن مخرج «آخر يوم» معتادًا على مشاهدة الأفلام وسط جمهور «لم أكن أشعر بالراحة، ولم أستمتع بالتجربة. لكن الأمر تغيّر عندما حضرت مهرجان الإسكندرية لأفلام البحر المتوسط، حيث دخلت عرضًا للفيلم اللبناني «بيروت يا بيروت» للمخرج مارون بغدادي، ووجدت نفسي وحدي في القاعة، وكانت تلك نقطة تحول بالنسبة لي».

يجيئ محمود من عائلة بعيدة تمامًا عن صناعة السينما والفن، إلا أن أفرادها يدعمونه ويشجعونه على الاستمرار. يقول لـ فاصلة: «لم تكن والدتي مستوعبة لما أفعله أو أدرسه، لأن العائلة ليس لها علاقة بالسينما. لكن عندما علموا أنني ذاهب إلى برلين، كانوا سعداء جدًا».

تدور أحداث «آخر يوم» بين ثلاث مدن، كفر الدوار، القاهرة والقدس؛ لكن التصوير كله يجري في موقعين اثنين، داخل شقة ضيقة، وفوق سطح إحدى العمارات، غالبًا العمارة التي تقع فيها الشقة نفسها. يظهر في التصوير اعتماد الفيلم على إمكانيات بسيطة وميزانية صغيرة جدًا، فهل كان هذا فيصلًا في قرارات المخرج الفنية؟

يقول محمود إن الإمكانيات قادت بالفعل لأن يخرج فيلم «آخر يوم» للنور. «قبل العمل على آخر يوم، ترددت كثيرًا وكنت أشعر أنني لست جاهزًا بعد لصناعة الأفلام. كتبت سيناريو لفيلم قصير لكنه لم يُنفَّذ بسبب الإمكانيات، ثم فقدت الشغف به. لكن من نفس السيناريو خرجت ثلاثة أفلام قصيرة، أحدها كان آخر يوم».

سألناه: هناك من رأى أن الفيلم يرمز إلى سقوط المباني في غزة. هل كان ذلك مقصودًا؟

صورت الفيلم عام 2023، قبل اندلاع الحرب، ويحكي قصة شقيقين يقضيان آخر لحظاتهما في منزل العائلة الذي سيُهدم ضمن أعمال تطوير المدينة. وبينما يقومان بنقل الأثاث إلى الخارج، يصدح التلفاز في الخلفية بأخبار هدم منازل الفلسطينيين في حي الشيخ جراح بالقدس، لكنني لاحظت لاحقًا وجود تشابه بين الأحداث.

أتت المصادفة لتلعب دورها مجددًا في مشاركته في مهرجان برلين، فبعد تواصله مع تامر السعيد، المخرج صاحب فيلم «آخر أيام المدينة» الذي كان من الأفلام التي فتحت عينا إبراهيم على سينما مختلفة، نصحه تامر السعيد ببعض التعديلات في فيلمه. يقول إبراهيم «أقنعني بفعل ذلك من أجل نفسي، حتى لو لم يُعرض الفيلم في مهرجان». بعدها نصحته الفنانة مها مأمون بإرساله إلى قسم الفورَم الممتد (Forum Expanded)، وتلقى النصيحة نفسها من مبرمج كندي قابله في مهرجان الجونة. يعلق: «لم أكن أعتقد أن الفيلم قد يعجب أحدًا، لكنه قُبل في برلين بعد أن أرسلته في ديسمبر».

وعن كيف تلقى خبر اختيار الفيلم في المهرجان يقول: «كنت سعيدًا جدًا، خاصة أنني أحب هذا القسم من مهرجان برلين، حيث يعرض أفلامًا تعلمت منها الكثير، مثل أفلام المخرج اللبناني غسان سلهب والمخرج تامر السعيد».

اللافت أن الفيلم لم يُعرض في مصر، يقول محمود إبراهيم: «قدمته لمهرجان زاوية للأفلام القصيرة، لكنه لم يُقبل هناك، بينما قُبل في برلين». تلك المفارقة تبدو مثيرة أكثر للتساؤل بعدما تلقى إبراهيم دعوات من مهرجانات سينمائية أخرى للمشاركة فيها بعد مشاهدة فيلمه الأول المعروض في برلين. يقول إبراهيم «تواصلت معي مهرجانات أخرى تواصلت كلها غير عربية. وأتمنى أن أشارك فيها جميعها من خلال الأفلام التي أعمل عليها حاليًا حيث أنهيت تصوير فيلمين قصيرين، أحدهما روائي والآخر وثائقي».

وعما إذا كان للميل السياسي للفيلم دور في قبوله في مصر وخارجها، يقول: «لا اعرف. لكن أي فيلم يمكن أن يكون سياسيًا إذا ناقش الواقع. حتى لو كان عن شاب يبحث عن عمل، فهذا شأن سياسي في حد ذاته. أنا لا أحاول انتقاد شيء محدد، بل أفكر بصوت عالٍ من خلال السينما». 

يعمل إبراهيم حاليًا على مشروع سينمائي جديد، ويعتبر المخرج الشاب المخرج الكبير يسري نصر الله كمرشد له في هذه التجربة، بعدما تعرف إليه إبراهيم عندما تقدم للالتحاق بورشة دهشور للأفلام التابعة لشركة مصر لأفلام العالمية. يقول مخرج «آخر يوم»: «تعرفت عليه من خلال ورشة في دهشور كانت لجنة تحكيمها تضمّه إلى جانب مروان عمارة وماغي مرجان. خبرته في الحياة والسينما تجعلني أتعلم منه الكثير».

يسعى محمود حاليًا لتأمين التمويل اللازم للانتهاء من الأفلام التي يعمل عليها، ويجيب عن سؤال فاصلة حول العمل في أفلام مخرجين آخرين لتوفير الدخل والتمويل: «لا مانع لدي بالتأكيد من التعاون مع زملائي في أفلامهم، ومتحمس للمونتاج لكني أبتعد عن وظيفة المخرج المساعد، فهي وظيفة مرهقة جدًا، والمقابل المادي ضعيف. ما يشغلني حاليًا هو كيفية تأمين تمويل لأفلامي كي أستطيع الاستمرار».

وحول استقبال الجمهور لفيلمه وما تلقوه من رسائل عقب المشاهدة يقول: «الاستقبال كان جيدًا جدًا بعد العرض. في نقاش مع الجمهور، أوضحت أن ما يحدث في مصر لا يُقارن بغزة، لأنني لا أعرف أحدًا هنا فقد منزله بسبب قصف. لكل بلد ظروفه، لكنني أبحث في تأثير الأحداث على الإنسان البسيط في أي مكان».

 

####

 

حين تصبح الغربة حالة شعورية لا يمكن تفاديها

المخرج أمير فخر الدين لـ"إيلاف": المتنبي مفتاح لفهم شخصيات "يونان"

 أحمد العياد

إيلاف من برلينفي العزلة، حيث لا صوت إلا صوت الداخل، يولد السؤال: ماذا يحدث عندما تفقد المألوف؟ كيف يبدو العالم حين تنكسر صورة الوطن، ويصبح الحنين عبئًا لا مهرب منه؟

من هنا، من هذه المساحات الساكنة الصامتة انطلق فيلم (يونان)، الذي يروي حكاية منير، الكاتب العربي المنفي في جزيرة ألمانية نائية، والذي يحاول أن يعيد تعريف ذاته وسط غربته. عن الغربة، الوحدة، والبحث عن معنى في التيه.

وقبل إعلان جائزة الدب الذهبي الذي ينافس عليها الفيلم السوري (يونان) بين 19 فيلما في الدور الـ 75 من مهرجان برلين السينمائي كان لنا هذا الحوار مع المخرج وكاتب السيناريو الشاب .. أمير فخر الدين.

بداية، كيف ولدت فكرة الفيلم؟

السؤال الأول الذي راودني كان: كيف يمكن أن تُسرق أمك منك؟ ليس بالمعنى المباشر، بل بما تحمله الأم من رمزية: الوطن، الجذور، الأمان. فكرت في اللاجئين، وماذا يحدث للإنسان حين يفقد حتى الأشياء التي كان يظنها ثابتة؟ هذا التأمل فتح لي أفقًا أوسع عن الغربة، ليس فقط كمسافة، ولكن كحالة شعورية عميقة.

الغربة قدر أم خيار؟

ربما كلاهما، وربما لا هذا ولا ذاك. منير لم يُجبر على الرحيل، لكنه أيضًا لم يختر النفي. هناك لحظات في الحياة يتلاشى فيها الفرق بين الإرادة والاضطرار، فيجد الإنسان نفسه منجرفًا إلى العزلة دون أن يقرر ذلك بوضوح.

لكن الفيلم لا يتحدث عن الغربة فقط، بل عن الوحدة أيضًا داخل الأوطان ؟

لأن الوحدة ليست حكرًا على المهاجرين، حتى من يعيش بين أهله قد يشعر بغربة عميقة. الفيلم يحاول أن يلتقط هذه التفاصيل، أن يرينا كيف أن الصمت قد يكون أكثر ضجيجًا من أي شيء آخر، وكيف أن لحظة عابرة من اللطف قادرة على أن تنقذ إنسانًا من الغرق في داخله.

في وسط كل هذا الصمت، كان هناك صوت هانا شيغولا "فاليسكا" ، كيف أقنعتها بالمشاركة؟

لم يكن الأمر مجرد اختيار ممثلة للدور، كنت أبحث عن روح تشبه الشخصية. عندما كتبت الشخصية، امرأة ألمانية في الثمانينات كنت أبحث عن ممثلة تحمل في ملامحها تاريخًا، شاهدت مقابلات عديدة لهانا، وتأملت كيف تبدو الآن صحيا، وكيف تتحدث، كيف تفكر. كتبت لها رسالة بخط يدي، أرسلتها إلى باريس مع نسخة من فيلم الغريب. بعد يومين، جاء ردها: “أنا مغرمة بهذا الفيلم.” التقينا بعدها وتحدثنا وبدأنا الإستعداد للفيلم.

جورج خباز، حضوره كان مفاجئًا خاصة الدور يتطلب جرأة ولغة ألمانية ، كيف كان التعاون معه وإقناعه بالدور؟
لم يكن بحاجة إلى إقناع. جورج ليس مجرد ممثل، هو صانع، مفكر، لديه أسئلة وجودية تشبه أسئلة الفيلم التي تشغلني، هو قادم من المسرح، والمسرح ابن الصدق، لذلك كان وجوده إضافة حقيقية للفيلم
.

يونان” المحطة الثانية في ثلاثية سينمائية منتظرة ؟

هو الجزء الثاني من ثلاثية بدأت بفيلم "الغريب"، وستنتهي بفيلم ثالث، سيكون أكثر تحررًا، أكثر جنونًا ربما.

أكثر حرية حتى من حيث الرتم والبطئ المعروفة أفلامك بها ؟

لا أريد أن أكرر نفسي، أريد أن أكسر التوقعات، أن أذهب إلى أماكن لم أذهب إليها من قبل، حتى في الكتابة.

ماذا عن العنوان؟ لماذا “يونان”؟

تيمّنًا بالنبي يونس، الذي عاش تجربة الغرق، لكنه نجا في بطن الحوت. في فيلمنا، الحوت ميت، وكأن النجاة لم تعد مضمونة. هناك فكرة أن الإنسان قد ينجو جسديًا، لكنه يظل غارقًا في داخله.

في الفيلم، هناك استحضار للمتنبي ببيت شعر في البداية ؟

أُغالِبُ فيكَ الشَوقَ وَالشَوقُ أَغلَبُ

وَأَعجَبُ مِن ذا الهَجرِ وَالوَصلُ أَعجَبُ

المتنبي ليس شاعرًا فقط، هو حالة ممتدة عبر الزمن. هناك أبيات شعرية يرددها بطل افيلم في الختام .." تنسى كأنك لم تكن"

هذا ليس مجرد اقتباس، بل مفتاح لفهم شخصيات الفيلم. كل منفي يشعر أحيانًا أن العالم سينساه. المتنبي كان جزءًا من تكويني منذ طفولتي بدأ والدي يحفظني أبياته منذ الرابعة واعتدت اردد أبيات الشعر امام الأصدقاء وافراد العائلة ولذا .. أردت أن يكون جزءًا من هذا الفيلم أيضًا.

 

####

 

«حليب ساخن».. أزمة الهوية والعلاج بالصدمة

حسام فهمي

تحضر المخرجة والكاتبة الإنجليزية ريبيكا لانيكيويكز ضمن المسابقة الرسمية لمهرجان برلين السينمائي في دورته رقم 75، بعملها الأول «حليب ساخن HOT MILK». جاء هذا الاختيار رغم وجود مسابقة جديدة مخصصة للأعمال الأولى في مهرجان هذا العام، ونقصد هنا مسابقة «وجهات نظر Perspectives».

يأتي الاهتمام بعمل «لانيكيويكز» كونها كاتبة مميزة، يكفيها تأليف الفيلم البديع «Ida» المتوج بالأوسكار للمخرج البولندي باڤل باڤليكوفسكي عام 2014، لكن هل يأتي عملها الأول كمخرجة على نفس المستوى؟

في الفيلم، نتتبع رحلة أم وابنتها إلى الساحل الإسباني بحثًا عن علاج لمرض غامض مصابة به الأم. هناك تحاول الابنة أيضًا البحث عن ذاتها، فهل تجد أيٌّ منهما ما تبحث عنه؟

خطّان سرديّان

يسير الفيلم في خطّين سرديّين؛ في الأول تحاول الأم إيجاد علاج في مستشفى جسدية نفسية، حيث يحاول الطبيب فكّ طلاسم ذكريات ومشاعر الأم أكثر من انشغاله بحالتها الجسدية. يبدو الطبيب مقتنعًا بأن العلاج سيأتي أولًا من خلال كشف مشاكل علاقتها بابنتها، وعلاقتها بزوجها السابق، وبأختها التي توفيت صغيرة، وكذلك أمها وأبيها الراحلين.

في الخط السردي الثاني، نرى كيف تحاول الابنة اكتشاف هويتها، إذ تقع في غرام فتاة جميلة تلتقيها على شاطئ البحر، ثم تذهب بعد ذلك بشكل مندفع تمامًا لزيارة والدها «اليوناني» الذي انفصل عن أمها منذ فترة طويلة، في محاولة للبحث عن إجابة لسؤال: كيف انتهت العلاقة؟ ولماذا لم يحافظ على علاقة قوية معها؟

يتقاطع الخطّان السرديّان، وتمتزج خلالهما الأحلام بالواقع، كما تمتزج الكادرات النهارية على شاطئ البحر بالكادرات الليلية المظلمة التي تجمع عادةً الابنة وصديقتها.

الصدمة والغضب والأحلام

يعتمد سيناريو الفيلم على تصاعد الأحداث بشكلٍ متوازٍ في الخطّين السرديّين، فعلى جانب يبدو البحث عن علاج للأم بلا فائدة، وعلى جانب آخر تبدو علاقة الابنة بصديقتها الجديدة غير واضحة المعالم. مع هذا التصاعد يأتي الغضب، غضبٌ يتملك الابنة ويؤثر على كافة تصرفاتها في الفصل الثاني من الفيلم، ثم بشكل أكثر وضوحًا في الفصل الثالث.

هكذا يصبح أداء «إيما ماكاي» لدور الابنة متأرجحًا بين مشاعر عدوانية سلبية (Passive aggressive) ومشاعر عدوانية صريحة، تهدد ليس فقط بإيذاء نفسها، ولكن أيضًا بإيذاء كل من حولها.

باسم الأم والابنة

يصبح الفيلم حكاية متداخلة عن علاقة الأمهات ببناتهن عبر جيلين متعاقبين، وكيف تؤثر المشاعر السلبية، الصدمات، التعليقات الجافة والقاسية، والعنف النفسي قبل الجسدي على تطور شخصيات البنات في المستقبل.

يعتمد الفيلم، رغم ذلك، على عدة التواءات في الحبكة، إذ يبدو اجتماع شخصياته معًا صدفة غريبة تفقد الفيلم الكثير من قوته، وتبدو وكأنها مصنوعة لإثبات وجهة نظر لا تنتمي ببساطة إلى عالم الفيلم. تتشارك شخصيات الفيلم الثلاث في النهاية نمطًا سلوكيًا وتاريخًا يبدو متطابقًا، وتتعامل كلٌّ منهن مع هذا النمط بطريقة مختلفة.

الأم، التي تؤدي دورها «فيونا شو»، تُظهر مشاعر الغضب والذنب في صورة أعراض جسدية، إذ تعاني من ألم مزمن ولا تستطيع الوقوف أو المشي. الابنة «إيما ماكاي» تُظهر غضبها بشكل عدواني خطير، بينما تحول الصديقة «ڤيكي كريبس» مشاعر الذنب إلى رغبة في دخول علاقات حب متعددة مع شركاء متعددين.

الأمراض النفسية الجسدية

تتزاحم الثيمات داخل الفيلم، لكن يبقى أكثرها أصالة هو التعامل مع المرض النفسي الجسدي الذي تعاني منه الأم. يمنح الفيلم الفرصة لنا كمشاهدين، كما يمنح الفرصة لأبطاله، لمحاولة فهم طبيعة هذا المرض: ماذا يعني ألا تكون قادرة على المشي وتفقد القدرة على الإحساس دون أن يكون هناك سبب عضوي واضح لذلك؟

يتم بناء الحيرة هنا على مهل، من خلال جلسات مع الطبيب، ومحاولات مع العلاج الطبيعي، وتحاليل، ومساومات، ومواجهات، حيرة ثم غضب. يبدو الفيلم متميزًا في بنائه للمتاهة السردية التي تؤدي في النهاية إلى الانفجار.

عمل أول خشن الأطراف

يبدو عمل ريبيكا لانيكيويكز الأول مثيرًا للاهتمام، فهو دراما نفسية تتداخل فيها أسئلة الهوية الشخصية والهوية الجنسية مع صدمات الطفولة وحيرة الأمراض النفسية الجسدية. يحمل العمل لغة بصرية تمتزج فيها الأحلام بالواقع، وتعتمد على الكادرات القريبة والصور الحسية، لكنه يبقى عملًا خشن الأطراف نتيجة تكرار الصدف والفجوات المنطقية والزمنية في الحبكة.

ينتهي الفيلم بلجوء أحد أبطاله إلى الصدمة كوسيلة لعلاج كل مشاكله، وهو أمر قد يحدث في الواقع لمن يمرون بهذه الأزمات، لكن النهاية تبدو وكأنها تحاول أن تنقل هذا العلاج إلى المشاهد، تصدمه، وتتركه في حيرة.

النهايات المفتوحة مثيرة للاهتمام، لكن ليست كل نهاية مفتوحة نهاية جيدة، خصوصًا إذا كان الهدف منها فقط هو صدمة المشاهد.

 

####

 

«لو كان لدي أرجل لركلتك».. حين يصبح الانهيار طقسًا يوميًا

فراس الماضي

في لحظات الإنهاك القصوى، عندما يتحوّل الروتين اليومي إلى طاحونة لا تترك مجالًا لالتقاط الأنفاس، يصبح الإنسان كائنًا هشًا، يُمسك بأطراف وجوده خوفًا من السقوط، لكن عينه في الوقت ذاته معلّقة على تلك الهاوية التي يشعر أنها تقترب منه ببطء. فيلم «لو كان لديّ أرجل لركلتك If I Had Legs I’d Kick You» للمخرجة الأمريكية ماري برونستين هو تأمل في تلك اللحظة تحديدًا: لحظة التوازن على حافة الانهيار، حين لا يكون السؤال «كيف أنجو؟»، بل «إلى متى يمكنني أن أواصل قبل أن أسقط؟». فيلم عن الاستنزاف بجميع اشكاله الخانقة، رحلة داخل عقل امرأة تتآكل ببطء، وفي الوقت ذاته أيضًا هو عن سخرية القدر، عن لحظة تصطدم فيها الكوميديا السوداء بجدران الألم، فلا نعرف: هل نضحك؟ أم نبكي؟ أم نفعل كـ«ليندا»، نصرخ في الوسادة، ثم نمسح دموعنا، ونفتح الباب بوجهٍ مبتسم؟ 

منذ اللقطة الافتتاحية، تُعلن برونستين عن نهجها البصري، إذ تختار أن تبدأ الفيلم بلقطةٍ قريبةٍ على وجه ليندا (روز بيرن)، وجهٌ مُحاصَر، كأنه محبوسٌ داخل الإطار. العيون زائغة، الابتسامة مترددة. إنه وجهٌ لا يحتاج إلى كلمات ليروي قصته. الوجه وحده هو الرواية: قصة امرأة على وشك الانهيار، لكنها تبتسم. امرأة ترغب في أن تصرخ، لكنها تقول «أنا بخير».

ليندا، ليست بطلة ملحمية، بل شخصية تُشبه كثيرين. كائن بشري مطلوب منه أن يمنح الآخرين القوة، بينما يتداعى هو من الداخل. في كل صباح، ترتدي «ليندا» قناع الصلابة، لكنها تعرف – ونحن نعرف معها – أن هذا القناع هش، وأن التشققات تحته تتسع، تتقن فن الاستماع، لكنها عاجزة عن إسماع صوتها. ابنتها مريضة، تحتاج إلى عناية دائمة. زوجها غائب، يغيب حضوره في الفيلم كما يغيب عن حياتها.

 ابنتها تصفها في أحد المشاهد بأنها «مطّاطة، مثل المعجون»، جملة تبدو عابرة لكنها تلخص جوهر شخصيتها. «ليندا» هي تلك المرأة التي تُشدّ من كل اتجاه، تُطوّع، تُضغط، لكنها لا تُكسر، ليس لأنها قوية، بل لأنها فقدت صلابتها، وتحولت إلى مادة مرنة تساير الضغط… حتى يتآكل كل شيء.

يتجرأ الفيلم على طرح أكثر الموضوعات حساسية: ماذا لو أن الأمومة ليست ذلك الملاذ المقدس الذي تمنح فيه المرأة ذاتها بالكامل بحب غير مشروط؟ ماذا لو كانت الأمومة، في بعض الأحيان، عبئًا ثقيلًا، وعلاقة مشبعة بالتوتر والإنهاك والشعور بالذنب؟ ابنة «ليندا» مريضة، تحتاج إلى رعاية طبية مستمرة. ليست «الطفلة المثالية» التي تملأ البيت ضحكًا وأملًا. هي مصدر قلق، مطالب، حاجة لا تنتهي. حب “ليندا” لابنتها موجود، لكنه مشوب بالتعب. هناك لحظات نراها فيها تحدق في ابنتها ليس بحنان، بل بعينٍ خالية، كأنها تسأل نفسها: «إلى متى؟».

وفي أحد المشاهد الأكثر إيلامًا، تعترف لطبيبها النفسي (كونان أوبراين) بأنها أحيانًا لا تشعر بشيء تجاه ابنتها. إنه اعتراف لا يُقال، لكنه الحقيقة التي تعرفها كثير من الأمهات. برونستين تزيل القناع عن الصورة المثالية للأمومة، لتكشف الجانب الآخر: أن تكوني أمًا، يعني أحيانًا أن تكوني منهكة، أن تحبي رغمًا عنك، أن تشعري بالذنب لأنك تمنيت – ولو للحظة – أن تكوني بلا مسؤوليات. برونستين لا تحاكم شخصياتها، ولا تدينها. هي فقط تكشف حقيقتها. الأمومة هنا ليست فعلًا مقدسًا، بل هي تجربة بشرية، بكل ما تحمله من لحظات حب، ولحظات تعب، ولحظات عجز.

لكن الفيلم، رغم قتامة موضوعاته، ليس فيلمًا سوداويًا بالمطلق. إنه فيلم يعرف كيف يستخرج السخرية من قلب البؤس. الضحك هنا هو لحظة سخرية يطلقها الإنسان في وجه الحياة. مشهد «ليندا» وهي تصرخ في الوسادة بعد تلقيها خبرًا سيئًا، ثم تفتح الباب لمرضاها بابتسامة مزيفة، هو ذروة هذه المفارقة. نصرخ وحدنا، ثم نمسح دموعنا، ونقول للعالم: «كل شيء على ما يرام». مشهد آخر مع الهامستر في السيارة، حيث تتحول رحلة بريئة مع ابنتها إلى فوضى كاملة، هو أحد أجمل مشاهد الفيلم. الضحك هنا ليس على الموقف، بل على عبثية الحياة، والاستسلام لهذا الجنون.

«لو كان لديّ أرجل لركلتك» هو فيلم عن الإنسان الحديث. عن أولئك الذين يستيقظون كل صباح، يضعون قناع الصلابة، ويمضون. عن أولئك الذين يعلمون أن الثقوب لن تُسد، وأن الماء لن يتوقف، لكنهم يبتسمون مع ذلك. عن الهشاشة، لكنه أيضًا عن المقاومة، تلك المقاومة الهادئة التي لا تحتفل بها الأفلام. مقاومة الذين لا ينتصرون، لكنهم لم يسقطوا بعد.

 

####

 

«طفل الأم».. أمومة بلا صرخة مولود!

هوفيك حبشيان

يضمن «طفل الأم Mother’s Baby» للمخرجة النمساوية يوهانا مودير، المشارك في مسابقة الدورة الخامسة والسبعين من مهرجان برلين السينمائي (13 – 23 فبراير) تجربة سينمائية مثيرة ومشوقة ومحيرة، تمتد لما يقارب الساعتين، وتحدث قطيعة مع الكثير من أفلام هذه النسخة التي تعتمد على الإطالة والتكرار. تقترح «مودير» أطروحة مضادة: مشاهد مكثّفة، فعّالة، تذهب إلى الهدف مباشرةً، ولا حاجة للكلام إلا عندما تجد اللغة البصرية نفسها أمام طريق مسدود. وبصراحة، بعد نحو أسبوع من «التعفّن» في الصالات، أمام أفلام متعبة تصل أحيانًا إلى حد الإزعاج، جاء الفيلم بمثابة هواء منعش على الـ«برليناله».

من دون خطوة ناقصة أو لحظة ملل أو لقطة لا نعرف مكانها من الإعراب، ترينا المخرجة إتقانها اللعب على أوتار التوتّر النفسي، وذلك من خلال عمل سينمائي يظلّ مشدودًا حتى اللحظة الأخيرة، بأسلوب يوازن بين الغموض والإثارة، مع التشديد على أن هدفها ليس عرض عضلات بل سرد قصّة.

الحبكة بسيطة: يوليا (ماري لونبرغر)، قائدة أوركسترا ناجحة وصلت وهي في الأربعين إلى ذروة عملها المهني والفنّي، لكن ينقصها شيء واحد: الأمومة. تريد طفلًا يملأ حياتها. بعد محاولات إنجاب فاشلة، تلجأ مع زوجها إلى مركز متخصّص في علاج الخصوبة، حيث تخضع لإجراءات دقيقة لتحقيق حلمها. عندما تضع مولودها تحت إشراف الطبيب المسؤول عن المركز، تتلقّى على الفور خبرًا صادمًا: طفلها يعاني من نقص في الأوكسيجين، فيُؤخذ منها قبل أن يُعاد إليها بعد ساعات. ماذا حصل خلال تلك الساعات؟ ليست الأم هي الوحيدة التي ستطرح على نفسها هذا السؤال، بل المُشاهد أيضًا… وبشدة!

Mother's Baby

منذ اللحظة الأولى، ستشعر يوليا بأن هناك شيئًا ليس على ما يرام. حدس الأم؟ ربما. في أي حال، سننجر معها في اعتقادها وتوجّسها. عوضًا عن الفرحة المنتظرة، يتسلّل إليها إحساس مرعب بأن الطفل الذي أُعيد إليها ليس طفلها. تتعاظم هذه الشكوك يومًا بعد يوم، لتتحوّل إلى هاجس يقلب حياتها رأسًا على عقب ويحوّلها إلى كابوس. لماذا لم يبكِ الطفل عند الولادة؟ هل ولد ميتًا؟ ما الذي جرى خلال الساعات التي فصلته عنها؟ هل استُبدل من دون علمها؟ تساؤلات مرعبة تتشابك في ذهن يوليا، وتنتقل تدريجًا إلينا، ممّا يجعلنا نعيش حالة من القلق المتصاعد، في انتظار كشف الحقيقة. هذا كله يمتص قدرتها على الشعور بالفرح. كيف يمكن الأم أن تشك في طفلها؟ هل هو مجرد اضطراب نفسي عابر، أم أن هناك سرًا أكبر يُخفيه الجميع عنها؟

هذه المنطقة الرمادية بين الواقع والهلوسة تجعل المُشاهد في حال من الترقّب الدائم، حيث يصبح كلّ تفصيل صغير دليلًا محتملًا على وجود خدعة ما. ومع كلّ مشهد، تتعقّد القصّة أكثر فأكثر، وتتصاعد مشاعر البطلة حتى تصل إلى نقطة الانفجار.

يتميّز «طفل الأم» بأسلوب بصري خاص بسينما شمال أوروبا، حيث لا دفء داخل الصورة، بل ألوان جليدية سرعان ما تمتد إلى الشخصيات، وتصوغ روابطها العميقة. هذه الأجواء تسيطر على كلّ شيء، مع اختيار واعٍ للإضاءة والألوان التي تعكس الروابط بين الشخصيات. يتعمّد الفيلم بناء التوتّر النفسي بشكل تدريجي، ممّا يزيد شعورنا بالضياع والارتباك. لافتة أيضاً الطريقة التي تتعامل بها المخرجة مع تصاعد هذا التوتّر، حيث ينساب الإحساس بالخوف تدريجًا من دون الحاجة إلى صدمات مفاجئة أو مشاهد صاخبة. الصورة تلعب دورًا في إبراز هذه الحالة، إذ تعتمد مودير على ديكورات محايدة تجسّد الاغتراب العاطفي الذي تعيشه البطلة. حتى الموسيقى التصويرية تتجنّب المبالغة، مكتفيةً بخلق نبض خفيّ يزيد الشعور بالقلق.

معلومة على الهامش: تجنّبت «مودير» تصوير السيارات، انطلاقًا من قناعتها بأن تأتي إلى الفيلم بلمسة قبح بصري. هذا دليل إضافي على أنها صاحبة رؤية، لا مجرد صانعة صور.

اللافت أيضًا أن العمل لا يقدّم إجابات حاسمة، بل يترك للمُشاهد حرية التأويل، ليبقى السؤال الأكبر معلّقاً حتى النهاية: هل الطفل حقيقي أم أن يوليا تعيش في فخ الأوهام؟

يلقي «طفل الأم» نظرة مختلفة على الأمومة، بعيدًا من الصورة المثالية التي كرّستها الأفلام التقليدية. هذا ما تقوله مودير في مقابلاتها، وهو قول يمكن ربطه بسهولة مع الفيلم عند المشاهدة. من خلال الإضاءة على التغييرات النفسية التي قد تعانيها المرأة بعد الولادة، ننخرط في تجربة إنسانية قد تكون أكثر تعقيدًا ممّا يُروى عادةً. يكفي ان الولادة تحصل من دون الصرخة التي نسمعها عادةً مع خروج الطفل.

هذا التناول الصادق للمسألة ليس غريبًا عن المخرجة التي استوحت بعض تفاصيل الفيلم من تجربتها الشخصية كأم. في النهاية، هذا ليس مجرد فيلم إثارة، بل رحلة نفسية غامضة تحفّز المُشاهد على التساؤل: إلى أي مدى يمكن الواقع أن يكون وهمًا؟ فمثلما قد يرتقي الإنجاب إلى ذروة تحقيق الذات عند الأم، من الممكن أن يغدو سجنًا نفسيًا محكمًا، خصوصًا عندما لا تكون مشاعر الحبّ والتواصل مع الطفل أمرًا بديهيًا.

 

موقع "فاصلة" السعودي في

21.02.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004