ملفات خاصة

 
 
 

"يلا باركور".. الذاكرة وحلم الشاطئ البعيد

القاهرة -رامي عبد الرازق*

برلين السينمائي

الدورة الخامسة والسبعون

   
 
 
 
 
 
 

من بين 9 أفلام عربية مشاركة هذا العام في الدورة الماسية لمهرجان برلين السينمائي (13-24 فبراير)، تقدم المخرجة الفلسطينية عريب زعيتر، تجربتها الوثائقية الطويلة "يلا باركور" بعدما اُفتتح الفيلم عالمياً في مهرجان نيويورك للأفلام الوثائقية نوفمبر الماضي، ثم عربياً في الدورة الخامسة لمهرجان البحر الأحمر السينمائي في ديسمبر

ويشهد قسم البانوراما في برلين 2025، عرضه الأوروبي الأول، وهو أحد أهم أقسام المهرجان بعد المسابقة الدولية.

الفيلم مدعوم من عدة جهات، منها مهرجان مالمو، ومؤسسة الدوحة للأفلام، بالإضافة إلى مؤسسة البحر الأحمر، حيث يعرض في برينالة 75، بجانب تجربة "يونان" المدعوم من صندوق البحر الأحمر وسوق البحر الأحمر في المسابقة الرسمية، وكذلك فيلمان مدعومان من صندوق البحر الأحمر ولودج البحر الأحمر، هما "المستعمرة" و"الشمس ترى كل شيء" ضمن أقسام "وجهات نظر" للأفلام الأولى، و"سوق الإنتاج المشترك".

رسالة طويلة إلى الأم

 ينتمي "يلا باركور" إلى ما يمكن أن نطلق عليه تسجيلية المعايشة، فالفيلم الذي يبدأ مع صوت المخرجة، وهي تجلس وسط صور أمها في حديث أشبه برسالة طويلة تبوح لها فيها عن هواجسها، فيما يخص الذاكرة والمدينة الجدلية البعيدة والحاضرة في خواطرها، يعود بنا إلى عامي 2015 و2016، أي قبل نحو عشر سنوات، عندما بدأت عريب في التواصل مع أحمد مطر، لاعب الباركور المراهق آنذاك، والذي امتدت علاقتهما لما يقرب عقد كامل، مانحة كل منهما زاوية للخوض في مغبات الأسئلة المعلقة في رقبة واقع محلي ودولي مرتبك وشائك وغير مفهوم، واقع يخص مدينة لا تشبه أي مدينة أخرى في العالم. غزة!.

تعتبر تسجيلية المعايشة واحدة من أكثر أنواع الفيلم الوثائقي المكتنزة بالوقت والأسئلة، يستمر فيها التصاق المخرج بموضوعه أو رؤيته للعالم من زاوية شخص أو حكاية، لمدة زمنية لا يعلم متى تنتهي، بعد شهر أو بعد سنين.

تشبه المعايشة لوحة -كتلك التي نرى عريب ترسمها على نافذة منزلها الأميركي حيث تقيم- يضاف لها لون أو رتوش أو خطوط جديدة كلما تراكمت الاحتكاكات، أو أفرز الواقع والحياة المزيد من الحكايات والمنحنيات الوجودية غير المتوقعة.

من بين هياكل السرد العديدة في التجارب السينمائية تسجيلية كانت أو روائية، ثمة هيكل يعتمد على أن يخوض صوت السرد في الحكي إلى شخص ما، لا يحكي للمتلقي الجالس خلف الشاشة، بل لشخص يجلس خلف ذاكرته، هذا الهيكل السردي تختاره زعيتر انطلاقاً من أزمتها الشخصية، أو كما تلوح بها في بداية الفيلم في الحديث عن لهجتها الفلسطينية، والتي كانت محط سخرية من أقارب أبويها في مدينة نابلس، لأنها لا تشبه لهجتهم الأصلية، بل لهجة مغتربة اكتسبتها من عيشتها الطويلة في الشتات المربك.

تقرر عريب أن تحكي لأمها المبتسمة في ألبومات الصور العائلية عن شخص لا تعرفه الأم، لكن يربط بينها وبينه عنصرين أساسيين، تستخلصهما عريب من صدفة عثورها على فيديوهات الشاب التي يصور فيها نفسه ومجموعته من لاعبي الباركور الشبان في المدينة المحاصرة، الذاكرة والشاطئ البعيد.

تختصر عريب في البداية كيفية عثورها عليه، عقب الافتتاحية التي تلخص فيها غربتها واغترابها، بتصويرها لأركان منزلها الأميركي والحديقة الثلجية التي يطل عليها -رمز لسؤال الغربة الباردة- تنتقل إلى مكالمتها الأولى معه عبر "سكايب"، وبداية تعارفهما الذي سوف يؤطر لها أسلوبية المعايشة الطويلة، التي سوف تصبح شكل تجربتها في خلط ما يخص أزمتها الشخصية أو سؤال الشتات اللاإرادي مع أسئلة الخروج والهرب التي تؤرق الشاب الصغير.

جغرافيا الحطام

على الفيديوهات القصيرة التي يصورها أحمد من غزة ويرسلها لعريب تبدأ علاقتهما الأثيرية الشفافة، نشاهد أحمد وهو يمارس الباركور متدرباً على شاطئ غزة الرملي، نفس الشاطئ الذي يحمل لعريب ذكرى ابتسامة أمها التي تتنسم حضورها، عبر استدعاء حكاية زفاف خالها هناك قبل سنوات.

تتقاطع مشاهد التدريب على القفز فوق الرمال مع ذكريات عريب القليلة عن المكان، الباركور هو رياضة القفز فوق الأسطح العالية وما بين المباني والأعمدة، هكذا يبدو أحمد في مستوى ما من المجاز في الفيلم هو نفسه عريب، أو قناعها السردي الذي ترتديه كي تحكي حكايتها هي الخاصة المتشابكة، والمشتبكة مع قصة أحمد رغم تناقضهما الظاهري.

في أكثر من موضع، يتأرجح سؤال مجازي مهم: هل يمكن أن نتبادل الأماكن؟ تسأله عريب تارة، ويسأله أحمد تارة! هذا السؤال يعكس أزمة عريب الداخلية في الحكاية، ويؤطر مخاوف أحمد عن ماهية الحلم المنتظر، انطلاقاً من تدريباته على الباركور، هل الخروج من غزة هروب أم نجاة؟ وبالنظر إلى وجه عريب المنعكس على شاشة اللاب توب حين تشاهد فيديوهات أحمد يمكن أن نرى انعكاس السؤال عليها: هل أنا مغتربة أم هاربة؟.

تكرر عريب اللقطة كأنها لازمة بصرية -انعكاس صورتها على الفيديوهات- وتبدو في مستواها المجازي وكأنها تتماهى مع أحمد وفريقه، تسافر أثيريا إليهم، إلى غزة، حيث تراقب نشاطهم المفعم بأمل مستحيل.

تستعرض لنا فيديوهات أحمد ليس فقط عبر شاشة اللاب توب، بل بالانتقال المباشر إلى هناك، وما يفترض أنه ركام الحروب المتتالية على المدينة المحاصرة، يتحول إلى هياكل نابضة بالحياة والقفزات، حين تدب عليها أقدام الشباب، وكأنهم يعيدون تشكيل جغرافيا الحطام التي خلفتها قنابل السجان الدموي، أو على حد صوت عريب "هالشباب حولوا كل مكان في غزة لساحة لعب".

تتمكن عريب من الربط بين غزة والأم الغائبة المفتقدة، عبر تتابع اللقطات الذي ينتقل من مشاهد الفيديوهات المصورة إلى صور الأم، عيناها، ابتسامتها التي توحي بأن ما تحكي عنه عريب يصلها حيث هي، الابتسامة التي صارت جزءاً من بوصلة السرد بالنسبة لعريب، فكلما عرضت جانب من فيديوهات الشباب، انتقلت إلى الأم تسألها هل يروقها الأمر؟، وهل استطاع هؤلاء الشبان أن يبثوا النبض في عروق المدينة التي لا تخلو من دماء جديدة مهما أريق منها؟.

المدينة التي ستظل

يمكن اعتبار الفيلم في سياق ما بعد 7 أكتوبر وثيقة بصرية عن المدينة التي حاولوا أن يحطموها، المدينة التي كانت، وستظل تعود كما كانت في كل مرة.

تقف المخرجة أمام شاشة كبيرة تعرض لقطات من الدمار الجحيمي للمدينة التي لا تموت، تقف مثل شبح -مظلل- كأنها هناك وبعيدة في الوقت نفسه، وقفتها توحي بالعجز والرغبة في أن تفعل شيئاً أكثر من مجرد المشاهدة! فتعود إلى فيلمها، والمواد المصورة التي يمدها بها صديقها الشاب. كأن العمل على الفيلم يعيد ترميم المدينة، أو على الأقل يحول دون محوها بالكامل!.

يأتي سرد الفيلم بصوت عريب وهي تحكي مع طيف أمها ونحن نتابع هذا الحديث من طرف واحد، ولكن هناك صوت آخر مهم جداً وجزء أساسي من الحكاية، صوت أحمد مطر، الصوت الذي تتركه عريب يبوح بحيرته تاركاً الأسئلة تطفو فوق كل الأسطح التي يقفز بينها، أو فوق سطح البحر الذي نراه جزءاً من حيرته أو مجازاً لها.

عندما يتمكن أحمد من الحصول على دعوة للسفر إلى أوروبا من أجل أن يغادر كما فعل أصحابه من قبل، وبعد أن يظل ليوم كامل أمام المعبر منتظراً أن ينادوا على اسمه ولا يحدث، وبينما نرى السماء من خلف الأسلاك الشائكة وكأنها محبوسة هي الأخرى، عقب كل هذه المشاهد المتواترة تمنحنا عريب لقطة علوية للبحر، والشباب هائمون فيه، طافين من دون هدى ولا مرسى، حيث تكرس زاوية عين الإله العلوية مجاز المراقبة المحايدة أو التخلي الذي يشعر به أحمد وفريقه، فهم هائمون فوق بحر السؤال الصعب: متى نخرج؟ متى نعيش؟ وهل سنعود يوماً؟.

وتجيب عريب بالنيابة عنهم وهي تتحدث مع أمها "بعد ما تركنا فلسطين، وكل ما الوقت مر، كل ما ابتسامتك انطفت".

عام 2023

صحيح أن أحمد نجا من "القيامة"، هل حد تعبير عريب حين استطاع أخيراً عقب سنوات أن يخرج إلى أوروبا وتحديداً السويد، وحقق له الباركور وظيفة ومكان وسط قوائم اللاجئين الطويلة والبطيئة، إلا أن سؤال المغادرة لا يترك رأسها، سؤال الشتات والعودة المفتوح على مستقبل شديد الغموض، هذا المستقبل الذي تترك عريب لأبنائها أن يرسموه في النهاية بأنفسهم.

ينتقل الفيلم زمنياً من 2015 و2016 إلى 2023، ما قبل 7 أكتوبر، ليمنحنا ملخصاً عن الواقع الجديد لأحمد، والذي أصبح يشبه واقع عريب أو ماضيها عقب المغادرة.

كانت عريب طوال الفيلم تصور نفسها وهي ترسم على نافذة بيتها في واشنطن خطوطاً تشبه البحر ورمال غزة، حيث وقفت الأم تبتسم للمرة الأخيرة، تؤرقها الذاكرة والشاطئ البعيد، ثم في النهاية حين تشعر بالتعب أو لا نهائية سؤال الشتات والعودة، تمسح بهمة كل ما رسمته، لكنها في اللقطة الأخيرة نراها تترك أبنائها الصغار -مجاز المستقبل- يرسمون البحر من جديد، وربما طريق العودة التي قد تحدث ذات يوم

وعلى مشهد أطفالها وهم يرسمون فوق نافذة البيت الأميركي الجميل تنهي رحلة المعايشة الطويلة لأسئلتها، وأسئلة أحمد: هل الخروج نجاة أم هروب؟ وهل العودة شجاعة أم جنون؟ أسئلة استطاعت عريب أن تدمج فيها الخاص بالعام بالمشكوك في يقينه، ونقلت إلى المتلقي مراوغة الإجابات الصعبة والحائرة، فأحمد رغم النجاة من الموت، الذي طال جزءاً كبيراً من فريق التصوير الخاص بالفيلم، حين نراها تهدي لهم في النهاية عملهم الذي لم يشاهدوه، إلا أن جل ما ظل يفكر فيه هو أن يعود إلى أحضان أمه زائراً أو باكياً، تماماً كما تفتقد عريب أمها، ليس فقط منذ رحلت، ولكن من اللحظة التي غادروا فيها فلسطين إلى الشتات المؤرق بعيداً عن الشاطئ الجميل الذي ابتسمت عليه الأم ذات يوم

* ناقد فني

 

الشرق نيوز السعودية في

20.02.2025

 
 
 
 
 

«آخر يوم».. هكذا يمكن أن تحكي فيلمًا دون حكاية

رامي عبد الرازق

أربع دقائق فقط هي مدة الفيلم المصري القصير «آخر يوم» من كتابة وتصوير ومونتاج وإنتاج وإخراج محمود إبراهيم – الدارس بالمعهد العالي للسينما بالإسكندرية – والذي يشارك هذا العام في قسم «Form Expanded»، المعني بالتجارب المختلفة وغير التقليدية خلال فعاليات الدورة الماسية لمهرجان برلين (13-23 فبراير).

أربع دقائق زاخرة ومشحونة ومكثفة، رغم خلوها من الدراما التقليدية أو أشكال الحبكة الواضحة. فعادةً ما يبحث المتلقي عن الحكاية فيما يُقدَّم، سواء كان روائيًا أو تسجيليًا أو حتى عابرًا للأنواع. تشغل الحكاية المتلقي عمَّا وراء الحكاية نفسها، رغم أن الحكاية وسيلة لطرح فرضية أو فكرة أو شعور أو هاجس أو سؤال. ومن هنا تأتي محاولات بعض صناع الأفلام تمرير رؤيتهم أو أفكارهم – أي ما وراء الحكاية – دون اللجوء إلى الحكاية، رغم غوايتها المستحقة وبراحها القادر على العرض والتأويل. الحكاية جسر وليست هدفًا، يمكن الاستغناء عنها أو الاكتفاء بعناصر منها دون كامل حضورها المبهج والمنتظر.

يبدأ «آخر يوم» بلوحة سوداء مكتوب عليها عنصران أساسيان من عناصر الحكايات: (كفر الدوار 2023)؛ المكان والزمان. لا حكاية بدون مكان، حتى لو كان متخيلًا! ولا سردية بدون زمن، لأن السرد هو حركة الفعل في الوقت، أيًّا كان اتجاهه أو نوعه: ماضٍ، حاضر، مستقبل، أو حتى زمن اعتباري كالأحلام والهواجس.

لقطة علوية بعيدة لسطح منزل عليه مقعد خشبي شاغر، كأن أحدهم كان هنا ونهض. المقعد الشاغر فوق سطح البناية يمنحنا شعورًا بالمضي، بالرحيل، فشخص ما لا شك أحضر هذا المقعد إلى هنا وجلس عليه، ربما ليتأمل السماء أو المدينة ثم نهض وتركه وحيدًا!

ترسِّخ لدينا هذه اللقطة، التي لا تستمر سوى ثوانٍ، شعورًا بالشجن، يبدأ في التراكم تدريجيًا عندما نتابع عملية (عزال) يقوم بها شابان من خلال حركة مستمرة قائمة على نقل الأثاث المكدس من شقة تبدو كأنها شقة عائلية، ومن ثم إخراجه من الحيز الحميمي إلى الخارج الذي لا نراه.

ننتقل هنا إذن من فضاء عام إلى حيز خاص، من كفر الدوار – عاصمة محافظة البحيرة في مصر – إلى شقة ما بالمدينة، لا نعرف عنها معلومات كثيرة ولا يهمنا ذلك، فهو مكان يتم إخلاؤه بالكامل، نظرًا لطبيعة الشكل المكدس عليه الأثاث. أما الزمن، فليس عام 2023 فقط، ولكنه الماضي الكامل والخاص بهذه الأسرة – التي ربما تكون أسرة الشابين – فهما يتعاملان مع الأثاث باحترام وعناية. الأثاث هنا هو مستوى آخر من مستويات الزمن، فمستوى الأثاث وطبيعته يشرحان الكثير عن ماضي الأشخاص الذين عاشوا في المكان. الأثاث هو حكي ساكن لا يجوز تجاهله، والمجاز الذي يمثله واضح، فهذان الشابان يقومان بتفكيك الماضي ونقله استعدادًا لمغادرة المكان.

إلى هنا، ربما تكون اللحظة مفعمة بالشجن نظرًا لما يمثله العزال من حالة نوستالجيا تخص الذكريات المُعاشة في المكان وأرواح ساكنيه – أو مغادريه – ولكن يأتي شريط الصوت الخاص بالفيلم ليلقي ظلالًا أكثر قتامة من مجرد شجن المغادرة.

يطرح شريط الصوت جدلية ملفتة:

«هل هذه المغادرة قسرية أم طواعية؟»

ينقل لنا شريط الصوت، منذ اللقطات الأولى، حالة توتر مكتومة من خلال صوت مذيعة الأخبار، التي تتحدث عن تفاهمات ما بين الحكومة وأهالي أحد شوارع القاهرة الذي تتم توسعته على حساب البنايات الكائنة فيه، وكيف أن بعض الأهالي سوف يتقاضون أموالًا مقابل شققهم، والبعض الآخر سوف يحصل على سكن بديل!

تبدأ هنا ظلال الشك تلوح بين تفاصيل عملية النقل الدؤوبة التي يمارسها الشابان، والتي يتم تصويرها عبر زوايا حرة، وحركة كاميرا مستمرة – على ما يبدو أنها كاميرا موبايل – بشكل يبدو ارتجاليًا أو أقرب إلى حركة كاميرا الأخبار الشهيرة، والتي لا تلتزم بسياقات بصرية منمقة أو كادرات مرسومة بتكوين جمالي ودقيق.

يلعب الصوت كأداة سردية تعكس فهمًا عميقًا لطبيعته الأصلية، فألوان الصوت هي أحد أهم أدوات الصورة السينمائية في مفهومها الأشمل، وإمكانياتها السردية والإيهامية لا تقل قوة وأصالة عن إمكانيات اللقطات المصورة. واختصار الصوت في الحوار أو الموسيقى هو من أخطاء صناعة الأفلام أو تلقيها دون وعي بقدراته الخارقة. يقول المخرج الفرنسي روبير بريسون:

«إن العين محدودة، والأذن أعمق منها بكثير. فحين ترى قطارًا، فأنت ترى قطارًا فقط، ولكن صفير قاطرة واحدة في الأذن يستدعي إلى الذهن محطات بأكملها

ويبدو أن المخرج الشاب يدرك عمق المجال الذي يخلقه الصوت، مقترنًا بصورة ناقلة ومجازية في نفس الوقت، فصوت مذيعة الأخبار ينتقل من الحديث عن الأهالي المطرودين من بيوتهم لحساب توسعة الشارع، إلى مراسل الإذاعة في القدس، الذي يتحدث عن تهجير ما يزيد عن 1100 فلسطيني من شارع في أحد الأحياء القديمة بالمدينة المحتلة!

هل هناك توازٍ؟

أجل! فلا يوجد انتقال عشوائي في مثل هذه السياقات.

هل هناك شيء ما مقصود؟

بالطبع.

المجاز واضح، خصوصًا عندما يجلس الشابان ليستريحا قليلًا، محدقين في العالم الخارجي، الذي يبدو أن معاناتهما لا تعنيه! أو ربما العكس؛ فما يشعران أنهما يعانيانه في تلك اللحظة، ثمة من يعانيه مثلهما من قوات “احتلال” المدينة المقدسة.

ولا يتوقف توظيف شريط الصوت عند نقطة التقابل أو التوازي، بل يستخدم المخرج مؤثرًا صوتيًا لصفير مقلق وقاسٍ يسيطر على المشهد، كأن ثمة صداعًا رهيبًا يحيط بكل هذا ويؤطره، ويبدو وكأنه لن ينتهي!

هذا الصفير يذيب الخبرين في بعضهما، ويدمجهما في لقطات العزال المستمر، ويتحول إلى جسر مونتاجي جيد حين تنتقل الصورة إلى بناية يحيطها أناس كثيرون، ثم فجأة يتم تفجيرها لتنهار دفعة واحدة، فلا نعود نعرف أين تقع هذه البناية! في القدس أم كفر الدوار!

هكذا يرسم الفيلم، بمكر إبداعي واضح، توازيًا بين ما يحدث في مكانين مختلفين وسياقين مختلفين، لكن النتيجة واحدة! هناك «يوم أخير» تعيشه البنايات التي تحمل زمنًا وذكريات ومتعلقات روحية وشعورية تخص بشرًا لم يكونوا يريدون مغادرتها، لا من أجل توسعة ولا انصياعًا لاحتلال!

ويكفي أن نعود مع مشهد البناية المدمرة في النهاية إلى الشاشة السوداء التي بدأ بها الفيلم، والتاريخ المكتوب عليها 2023! وهو تاريخ سيظل محفورًا في ذاكرة جغرافيا المكان، فبمجرد أن نراه مكتوبًا، نستدعي مشاهد بنايات كاملة تفقد أرواحها الطيبة.

تجربة إبراهيم ملفتة وحساسة وتعكس محاولة جادة لصياغة مغامرة فيلمية ذات صوت مختلف.

 

موقع "فاصلة" السعودي في

20.02.2025

 
 
 
 
 

من «الست» إلى «بوب ديلان» كيف نروى الحكاية؟

طارق الشناوي

حرصت على مشاهدة الفيلم الأمريكى (مجهول تمامًا) الذى عرض داخل تظاهرة (العروض الخاصة)، متناولًا حياة المطرب الأمريكى الأسطورى (بوب ديلان)، 83 عاما الحاصل قبل نحو 9 سنوات على جائزة (نوبل)، وسط اعتراضات متعددة حاول فيها البعض التقليل من إنجازه، هو نفسه تساءل: ما علاقتى بالأدب؟، وبعد تردد وافق، إلا انه لم يتسلمها بنفسه قائلا إن لديه ارتباطات أخرى.

إنها واحدة من مواقفه التى تبدو ظاهريا متناقضة، إلا أنها ستصبح عنوانا له، فهو يفعل فقط ما هو مقتنع به.

أغانى ديلان بسيطة فى مفرداتها إلا أنها فى نفس الوقت عميقة، وتلك البساطة هى التى تحمل سرها وسحرها وألقها، الفنان الكبير لا يزال يبدع ممارسًا كل طقوس حياته من خلال رؤيته الخاصة، الشريط يتناول عقد الستينيات، بداية تألقه ونضاله لإثبات نفسه ويقدم الشخصية بضعفها قبل قوتها، فهو ليس فيلما عن حياة كاملة من الميلاد حتى الرحيل ولكن لمحة موحية عن البدايات.

تذكرت وأنا أشاهد (مجهول تمامًا)، الكاتب الكبير محمود عوض وعنوان أحد كتبه الشهيرة (أم كلثوم التى لا يعرفها أحد)، الآن لدينا فيلم نترقبه بشغف (الست) بطولة منى زكى وتأليف أحمد مراد وإخراج مروان حامد. معلوماتى أن هناك إطلالة أخرى أكثر جرأة، لن تذكر بالقطع كل الحقيقة، إلا أننى أتوقع انهم لن يقدموا عملا فنيا خجولًا، يتناول فقط الأسطورة ولكن أيضا سنرى الإنسان، وهو ما قدمه دون أى حسابات أو حساسيات المخرج جيمس مانجولد، يكفى أنه استطاع أن يفرض نفسه بمفرداته وشخصيته فى عز تماهى المواطن الأمريكى وشباب العالم كله مع الأسطورة (الفيس بريسلى) إلا أنه كان يراهن فقط على بصمة (ديلان).

لم تكن المرة الأولى التى يلهم فيها ديلان مخرجين لتقديم حياته، ما حرص عليه المخرج مانجولد أن تظل الأغنية هى البطل، نتابع فيلما موسيقيا غنائيًا، تلك اللمحة هامة جدا لأنها تفرض سياقًا محددًا فى تتابع السيناريو البطل ليس الحبكة الدرامية، الموسيقى هى البطل، المطرب العالمى حالة متكاملة، على عكس ما يجرى عندنا، لدينا مؤلف وملحن وموزع وعازف ومطرب، كل منهم يعمل بمعزل عن الآخر، إلا فيما ندر، وفى النهاية يتوجه الجميع صوب المطرب، الأغنية فى العالم الغربى بناء متكامل، ربما كان المثل الأقرب لها على الصعيد العربى زياد رحبانى فهو يقدم حالة غنائية واحدة.

خيط رفيع بين أن تتقمص وأن تقلد، الممثل الذكى يتقمص، وهذا هو بالضبط ما قدمه النجم تيموتى شالايميه، التقليد هو آفة أداء الشخصيات، خاصة تلك التى على قيد الحياة، وهو مثلا ما رأيناه فى أداء نور الشريف فى (حدوتة مصرية) ليوسف شاهين، فلم يصبح صورة باهتة من يوسف شاهين.

السيناريو ليس مجرد سيرة حياة فنان، ولكنه يسبح فى عدة محاور أساسية، أولها الظرف التاريخى الذى يطل علينا بمفردات الشاشة.

الفيلم مرشح للأوسكار، تعلن مطلع الشهر القادم، وغالبا سيتوج (مجهول تمامًا) وعن استحقاق بأكثر من فرع وعلى رأسها الموسيقى.

الشريط ملهم، كيف تصنع الإبداع الذى يقفز فوق حاجزى الزمان والمكان، رغم أنه مقيد نظريًا بهما؟، إلا أنه بقدر ما يلتزم بكل تلك التفاصيل، بقدر ما يمنحك رؤية عامة عن صراع الإنسان فى أن يكون فقط نفسه.

(ديلان) بدأ مشواره قبل أن يبلغ العشرين متمردًا، ولا يزال وهو يقترب من الخامسة والثمانين متمردًا!!.

 

####

 

هيثم دبور يحتفل بعرض «ضي» في مهرجان برلين: «

قصة عيلة لا تملك سوى أحلامها»

كتب: علوي أبو العلا

احتفل الكاتب والسينارست هيثم دبور بعرض فيلم «سيرة أهل الضي» ضمن مسابقة أجيال بمهرجان برلين السينمائي الدولي بحضور المخرج كريم الشناوي.

هيثم دبور يتحدث عن جمهور فيلم ضي

وقال الكاتب هيثم دبور إن الجمهور داخل القاعة كان مبهر أثناء مشاهدة الفيلم، مشيرًا إلى أن فيلم «ضي» كان رحلة طويلة وعبر عن امتنانة لكل من أمن بالعمل رغم الصعوبة التي تعرض لها.

دبور يحتفل بعرض فيلم ضي في برلين

واضاف «دبور» عبر «فيسبوك»: «العرض الأول لفيلم ضي (سيرة أهل الضي) في مهرجان برلين ضمن مسابقة أجيال، قاعة مكتملة وجمهور مبهر، رحلة طويلة ممتن لكل واحد آمن بيها وصدقها رغم صعوبتها.. واللي كنت أتمنى إن كلهم يكونوا موجودين انهارده، دايما بقول ضي فيلم بيحكي قصة عيلة لا تملك سوى أحلامها.. زي صناع العمل بالظبط».

 

المصري اليوم في

20.02.2025

 
 
 
 
 

احتفاء كبير من صناع السينما العالمية بالدورة الـ 75 برلين السينمائي

لميس محمد

حظى مهرجان برلين السينمائي الدولى في دورته الـ 75 باهتمام لا يصدق من جانب الجمهور، الذى توافد إلى دور السينما لمشاهدة أفضل ما أنتجته السينما العالمية وتشجيع النجوم على السجادة الحمراء.

وقدم العديد من المخرجين والممثلين من جميع أنحاء العالم أعمالهم خلال النصف الأول من المهرجان، ومنهم تيلدا سوينتون، إدوارد بيرجر، توم تيكوير، نيكوليت كريبتز، لارس إيدينجر، تالا الدين، تيموثي شالاميت، إيما ماكي، فيونا شو، فيكي كريبس، إيرا ساكس، بن ويشاو، ريبيكا هول، ريتشارد لينكليتر، إيثان هوك، مارجريت كوالي، ترين ديرهولم، إيدو فلوك، مالا إمدي، برهان كورباني، بونج جون هو، روبرت باتينسون، نعومي آكي، ستيفن يون، توني كوليت، جاكوب إلوردي، جوستين كورزيل، لوسيل هادزيهاليلوفيتش، ماريون كوتيار، أوغست دييل، ميشيل جوندري، نينا هوس، ميشيل فرانكو، جيسيكا شاستين، روبرت فريند، فيفيان كو، وين تشي، ليو هاوكون، كلوي سيفيني، سام رايلي، جوليا جينتش، ليوني بينيش وغيرهم.

وأشارت مديرة المهرجان تريشيا توتل قائلة: "في الدورة الـ 75 من مهرجان برلين السينمائي، كان من دواعي سروري أن أرى الجمهور المحترف يحتضن العديد من الأفلام التي تظهر تنوع هذا الشكل الفني، وشهد النصف الأول من المهرجان ظهورًا ساحرًا على السجادة الحمراء، بجانب دور السينما ممتلئة، حيث أنه لدينا أكثر من 1000 عرض في المهرجان، وفي هذه العروض نتعرف على العديد من وجهات النظر المختلفة حول الأفلام وكذلك حول العالم. يمكن للسينما أن تقدم مثل هذه الملذات المتنوعة - اللعب والعجب والحلم، ولكن أيضًا التأمل والتذكر والمقاومة، وقد قدم مهرجان هذا العام فرصة حيوية ومرحب بها للاكتشاف والتواصل. نحن نتطلع بشدة إلى الأيام القليلة الأخيرة من هذه النسخة السنوية".

كما ينعكس الاهتمام غير العادي من جانب الجمهور على مهرجان برلين السينمائى الدولى في زيادة الطلب على التذاكر حتى صباح أمس 19 فبراير الجارى، تم بيع 285000 تذكرة ، وهو ما يزيد بنحو 14000 تذكرة عن نفس الفترة من العام الماضي.

 

اليوم السابع المصرية في

20.02.2025

 
 
 
 
 

مهرجان برلين: بونغ جون هو يحاسب الإمبريالية بالسخرية

هوفيك حبشيان - المصدربرلين - النهار

هو شاب عادي، لكن وظيفته ليست عادية، إذ يتعين عليه أن يموت ليبقى على قيد الحياة.

في فيلمه الثامن، وبعد غياب ستّ سنوات، يعود المخرج الكوري الجنوبي بونغ جون هو، بمشروع سينمائي جديد يحمل عنوان "ميكي 17"، مواصلاً ومكرسّاً أسلوبه الذي يجمع بين السخرية الحادة والنقد الاجتماعي والسياسي اللاذع، مع نزعة إلى إعادة تشكيل الأنماط السينمائية التقليدية

بعد النجاح الدولي لفيلمه المُسَعَّف "طفيلي" (نال أيضاً "أوسكار" أفضل فيلم)، الذي تناول فيه الفوارق الطبقية، ينتقل بونغ إلى مستوى أعمق من نقد المنظومة العالمية، وهذه المرة بإمكانات أضخم وممثّلين صفّ أول (من بينهم روبرت باتينسون وتوني كوليت ومارك روفالو)، مستكشفاً بعثة مستقبلية تهيمن عليها الولايات المتحدة

هذا كله في إطار خيالي تلتقي فيه الفكاهة بالرومنسية والتشويق. لكن، رغم انتقاله إلى درجة أعلى من الطموحات الإنتاجية، لم يقدّم فيلماً بدرجة التمايز نفسها، يتيح له توسيع رؤيته السينمائية.

تحملنا أحداث الفيلم الذي شاهدناه في مهرجان برلين (13 - 23 شباط/ فبراير) إلى بعد نحو ربع قرن من الآن، واقتبسها بونغ جون هو، ذو الـ55 عاماً، من رواية "ميكي 7" للكاتب إدوارد أشتون، التي صدرت عام 2022 ولاقت إشادة كبيرة باعتبارها احدى أبرز روايات الخيال العلمي الحديثة، لقدرتها على المزج بين الجدية والفكاهة في إطار سردي معقّد ومبتكر. بمجرد صدور الرواية، شعر بونغ جون هو برغبة ملحّة في تحويلها إلى فيلم سينمائي، نظراً لتناولها موضوعات وجودية بلمسة من السخرية الذكية تعبّر عن توجهاته الفنية والفكرية.

ميكي بارنز (روبرت باتينسون)، شاب يعمل لمصلحة شركة استعمار فضائي في مهمة لاستكشاف كوكب جديد. هو شاب عادي، لكن وظيفته ليست عادية، إذ يتعين عليه أن يموت ليبقى على قيد الحياة. يُعرف ميكي في هذا العالم الخيالي بـ"المستنفد": شخص يُعاد استنساخه كلما مات، ليواصل أداء مهمته الخطرة

يموت ميكي في كلّ مرة يتطلبها الموقف، سواء بسبب حوادث أو مواجهات غير متوقعة في الفضاء. وعندما يحدث ذلك، يُعاد جسمه إلى الحياة عبر جهاز يشبه جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي، ليستمر في تنفيذ المهام المطلوبة منه. انها دورة لا تنتهي من الموت والبعث.

تتعمّق الحكاية مع طرح تساؤلات فلسفية حول الهوية والوجود، وما يعنيه أن تكون إنساناً في عالم تتحكّم فيه التكنولوجيا والشركات الكبرى. بينما يواصل ميكي دورته المستمرة بين الحياة والموت، يبدأ في التساؤل عن معنى وجوده، ممّا يشرّع الباب أمام تأملات عميقة حول الحرية والاختيار

من خلال مزيج لمّاح ومشدود العصب من الخيال العلمي والفكاهة السوداء والدراما التشويقية، يقدّم بونغ جون هو رؤية سينمائية جريئة عن مستقبل يبدو فيه الإنسان مجرد أداة للاستغلال ضمن منظومة لا تعترف بالفردانية، معززاً مكانته كمخرج قادر على تحويل الخيال مرآة تعكس تناقضات الحياة المعاصرة.

الرأسمالية والمشاريع التوسيعية والهوس بالتكنولوجيا وغيرها من المسائل التي تسيطر على عقل مخرج من طينة بونغ جون هو، تجد موطئ قدم لها في الفيلم، وتحضر بنبرة ساخرة وحس فكاهي تخريبي. يلعب مارك روفالو دور قائد البعثة، وهو شخصية متسلّطة ذات ميول ديكتاتورية

وعلى الرغم من نفي المخرج لأي تشابه مقصود، فإن سلوك هذه الشخصية ذكّر بعضه بـ…دونالد ترامب!

يستحضر الفيلم نقداً لأميركا من منظور خارجي، حيث يُسخر من النزعة الإمبريالية والاهتمام المفرط بالتكنولوجيا. بونغ جون هو يتطرق إلى هذه المسائل بعين فاحصة تتنقّل بمهارة بين الطرافة والرؤية الفلسفية، مما يمنح الفيلم بُعداً يتجاوز كونه مجرد مغامرة خيال علمي

من الناحية الفنية، هناك في الفيلم تصميم بصري مذهل وإخراج دقيق يعكس قدرة المخرج على خلق عوالم خيالية مقنعة. النص متماسك والأداءات التمثيلية، خصوصاً من روبرت باتينسون، تضيف بُعداً عاطفياً على الشخصيات.

رغم كلّ هذه العناصر القوية، يعاني الفيلم من رتابة وتكرار في العديد من اللحظات، ممّا قد يجعل بعض المشاهدين يشعرون بالانفصال عن الأحداث

أما الختام فبنهاية مثيرة ومفتوحة للتأويل، ممّا يعزز طابعه الفلسفي ويترك للمشاهد حرية التفكير في مغزاه. من خلال فيلم يغازل المدارس السينمائية المختلفة (ينتهي كـ“بلوكباستر ”هوليوودي)، نجد أنفسنا أمام تساؤلات حول معنى الحياة والموت والخلود ومصير البشرية في عالم يتغير بوتيرة مرعبة.

 

النهار اللبنانية في

20.02.2025

 
 
 
 
 

جورج خباز يواجه الكبيرة هانا شيغولا في مهرجان برلين

"المستعمرة" فيلم مصري شبابي يغامر في البحث عن لغة أخرى

هوفيك حبشيان 

ملخص

مجموعة صغيرة منتقاة بعناية من الأفلام العربية تُعرض هذا العام في مهرجان برلين السينمائي (13 – 23 فبراير/ شباط). هذه الأعمال تأتي من تونس والسودان ومصر وغيرها، مع أن من الصعوبة ربط بعضها بدولة منشأ واحدة وبهوية واضحة، بسبب الإنتاج المشترك.

لعل العديد من السينمائيين العرب باتوا يعيشون خارج بلدانهم وينجزون أفلامهم انطلاقاً منه، وهذه حال المخرج أمير فخر الدين (من أصل فلسطيني سوري)، فوالداه من هضبة الجولان، لكنه ولد ونشأ في كييف، قبل أن ينتقل للعيش في ألمانيا. 

فيلمه "يونان" يأتي في إطار ثلاثية سينمائية في عنوان "وطن"، كان باشر بها مع "الغريب" قبل أربعة أعوام (شارك في مهرجان البندقية)، وهو يعود اليوم بالجزء الثاني في انتظار اتمام الثالث. يحملنا الفيلم إلى إحدى الجزر الألمانية التي تختفي أجزاء منها بفعل المد والجزر، الظاهرة التي حولها فخر الدين إلى استعارة عن المنفى والنزوح والاقتلاع، وكل هذه المسائل التي تقيم في وجدان فنان مهموم لا يزال في مقتبل تجربته، فهو لا يتجاوز الرابعة والثلاثين من العمر. إنها دورة الحياة المتواصلة، بظهورها وغيابها المستمرين، وما تحمل معها من فلسفة وجودية. 

الممثّل اللبناني جورج خباز يلعب في الفيلم دور كاتب من أحد بلدان الشرق الأوسط (بلد غير محدد في النص)، يبدو أنه يعاني من عقم كتابي نتيجة الإرهاق الشديد، فينتقل بناءً على توصية من طبيبه للعيش، فترة من الزمن على الجزيرة، بحثاً عن الراحة. ولعل هذا المكان يساعده في الكتابة، خصوصاً أنه مطارد بأشباح راع، كانت أمه المصابة بتشتت الذاكرة، قد روت له قصته، وها هو يحاول بلا جدوى، تحويلها إلى رواية.

على هذه الجزيرة، يتسكّع ويتأمّل ويتعرف إلى بعض أهلها، وعلى رأسهم سيدة ثمانينية تلعب دورها الممثلة الألمانية الأسطورة هانا شيغولا التي اقترن اسمها باسم المخرج الراحل راينر فرنر فاسبيندر. شيغولا تلعب دور صاحبة نُزل تفتح أبوابه أمام الكاتب، وتكون العلاقة بينهما معقدة في البداية، قبل أن تتطور لحظة بعد لحظة، لتصبح شيئاً أشبه بلقاء ثقافات وحضارات، واختزال للأماكن والأزمنة. 

الفيلم شاعري إلى أبعد حد، مشبع بحركات كاميرا بطيئة وتصوير بديع للطبيعة عندما تنتفض، حتى لتصبح هي بطلة الفيلم الأبرز. وإذا كانت جذور بعض المشاهد تضرب في سينما شعرية كسينما تاركوفسكي، فبعضها الآخر يجد ضالته في أفلام التركي نوري بيلغي جيلان. وسواء فكّر فخر الدين في هذه المراجع أو لا، عند كتابة السيناريو، فهذه انطباعات عامة قد لا تكون بالضرورة منطلقات المخرج الذي يقدّم على رغم كل شيء، عملاً أصيلاً مشغولاً (ربما أكثر ممّا ينبغي) بأسئلة الانتماء والهوية والزمن. وهذا كله من خلال إمعان شديد في البيئة والمكان والعناصر الطبيعية. الهواء والماء والأعشاب البرية لها كلمة في كل ما يحدث وهذه دعوة صريحة من الفيلم للعودة إلى الطبيعة والإنصات إلى همساتها. 

في الملف الصحافي الخاص بالفيلم، يصرح أمير فخر الدين: "لطالما انجذبتُ إلى التوتر الحساس بين العزلة والاتصال، وإلى الطريقة التي يتواصل فيها الناس بعضهم مع بعض، خصوصاً عندما يشعرون بعدم وجود قيود. هذا ليس فيلماً يعتمد على التصريحات الكبيرة، بل الهمسات الرقيقة. تتكشف الأحداث في اللحظات الصغيرة التي بالكاد يمكن ملاحظتها. كيف يمكن نظرة أو لفتة أو مباردة لطيفة أن تحمل ثقل شيء أكبر. مدفوعاً بهذه الأفكار، عملتُ على تشكيل إيقاع الفيلم ليعكس تجربة المنفى: الدوامة والعودة، التحرك في دوائر بدلاً من التقدم إلى الأمام. كان من البديهي أن أبقى في حال من عدم اليقين فألاحظ التحولات الصغيرة والدقيقة. تحمل المسافة بين الكلمات، بين الضوء والظل، شوقاً هادئاً، شيئاً غير منطوق ولكنه حي". 

"مستعمرة" المصري محمد رشاد

واذا كان "يونان" أحد أهم أفلام مسابقة الـ"برليناله"، فيصعب قول الكلام نفسه عن "المستعمرة" لمحمد رشاد، الفيلم المصري المعروض في قسم "برسبكتيف" الذي استُحدث هذا العام لضم الأفلام الأولى. فهذا العمل يحمل علامات عدم نضج كثيرة وينطوي على بعض الزيف الحرفي. ينتمي الفيلم إلى هذا النمط من السينما المصرية التي تحاكي إحدى مدارس السينما الأوروبية، ولا بأس في ذلك، باستثناء أن نقل هذا النمط الممعن في البطء والتأمل، إلى مصر، يخرجه عن بيئته الطبيعية فيبدو مفتعلاً. فلا هكذا يتصرف المصريون ولا هكذا يتحدثون، ولا هكذا ينظرون بعضهم إلى بعض. هذا كله في فيلم يدّعي الواقعية الاجتماعية.

الفيلم مستوحى من قصة حقيقية، ويدور حول شقيقين، حسام وهو صاحب السوابق الكثيرة (23 سنة) الذي يلعب دوره أدهم شكر، وشقيقه مارو ذو الـ12 سنة (زياد إسلام)، الذي يريد ترك المدرسة ليمشي على خطى شقيقه الأكبر. إنهما يتحدران من قعر المجتمع الاسكندراني. بعد وفاة والدهما في حادثة خلال عمله في مصنع الحديد، تعرض الإدارة على حسام أخذ محل والده، كنوع من تعويض عن الخسارة، وهذا يعني أنه يتعين عليهما التخلي عن الإجراءات القانونية. لكن، يوماً بعد يوم، يصبح سؤال ما إذا مات فعلاً بحادثة، أكثر إلحاحاً في بال الشقيقين. 

هذا أول فيلم روائي طويل لمحمد رشاد الذي سبق أن قدّم بضعة أفلام قصيرة ووثائقية، وقد استغرق تصويره خمس سنوات، ومكّنته ظروف الإنتاج من فرض رؤيته في اختيار ممثّلين غير معروفين، وإشراك عمّال حقيقيين ضمن الشخصيات الثانوية للمزيد من الواقعية. وحرص على التصوير في مواقع حقيقية، كي تتطابق الحقيقة مع ما يتخيله عنها، انطلاقاً من قناعته بأن الأجواء الاصطناعية توفّر مادة غاية في الثراء. 

لكنّ الكائنين الفاقدين المرجعية واللذين نتعرف إليهما، لا يمكن التعاطف معهما بسهولة، على رغم كل المحاولات في تقريبهما إلى المشاهد. في حين أن قصة الانتقام التي ينجران إليها، لا تأتي بالتأثير الذي كان من الممكن أن يحدث، لو قام المخرج بخيارات غير تلك التي قام بها. أرى في "المستعمرة" مادة لعمل وثائقي أكثر منه روائي، ذلك أن المكان وسطوته الإيحائية أقوى وأكثر حضوراً في المخيلة من أي شيء آخر يمكن أن يُروى. هذا المكان أعنف من الشخصيات الباردة التي تسحقها بيئتها باستمرار، من دون أي قدرة وأي رغبة على مواجهتها.

 

الـ The Independent  في

20.02.2025

 
 
 
 
 

لمحمد رشاد بمهرجان برلين السينمائي

عرض عالمي أول ناجح للفيلم المصري المستعمرة

البلاد/ مسافات

في الدورة الخامسة والسبعين من مهرجان برلين السينمائي الدولي (13-25 فبراير) شهد الفيلم المصري المستعمرة للمخرج محمد رشاد عرضًا ناجحًا أمس الثلاثاء 18 فبراير، حيث نال إعجاب الجمهور والنقاد على حد سواء، بحضور رئيس مهرجان القاهرة السينمائي الدولي حسين فهمي، وسفير مصر بألمانيا الدكتور محمد البدري، والوزيرة المفوضة السيدة يمنى عثمان، ومجموعة من صناع الأفلام من مختلف أنحاء العالم.

وعقب العرض مباشرةً، دارت ندوة نقاشية مع المخرج، الذي استقبل احتفاء الجمهور وتفاعل مع أسئلتهم حول قصة الفيلم وأماكن التصوير التي تركت انطباعًا جيدًا لدى كل من شاهد الفيلم.

مستوحى من أحداث حقيقية، تتمحور أحداث الفيلم حول شقيقين - حسام (23 سنة) ومارو (12 سنة)- يعيشان في مجتمع مهمش في الإسكندرية، حيث عُرضت عليهما وظائف من قبل المصنع المحلي بعد وفاة والدهما في حادث عمل كتعويض عن خسارتهما بدلًا من رفع دعوى قضائية. وبينما يتوليان عملهما الجديد، يبدأ لديهما التساؤل عما إذا كانت وفاة والدهما عرضية حقًا.

بدافع من قصة شاركها معه شاب توفيّ والده في موقع بناء وضغطت الشركة على الأسرة للتنازل عن حقوقها مقابل عرض وظيفة بها، وجد رشاد - وهو من مواليد الإسكندرية وعمل والده في مصانع النسيج لأكثر من أربعة عقود - القصة فرصة قيمة لإلقاء الضوء على قضايا السلامة السائدة في بعض المصانع والممارسات غير القانونية التي تستخدمها الإدارة أحيانًا.

استغرق العمل على فيلم المستعمرة خمس سنوات، كما أوضح المخرج محمد رشاد الذي قال "خلال رحلة الفيلم، تمكنت من تحقيق طموحاتي، مثل اختيار ممثلين غير معروفين تمامًا وإشراك عمال حقيقيين في أدوار ومجموعات مهمة. كما صورت في مواقع حقيقية، والتقطت مشاهد في الإسكندرية تتطابق بشكل وثيق مع ما تخيلته، إلى جانب الأجواء الصناعية التي أجدها غنية فنيًا"، وأضاف "عرض الفيلم في مهرجان مهم كهذا والمنافسة في مسابقة جديدة يشير إلى أننا كمجموعة حققنا رؤيتنا".

الفيلم من بطولة المواهب الناشئة أدهم شكر وزياد إسلام وهاجر عمر ومحمد عبد الهادي وعماد غنيم. مدير التصوير محمود لطفي، ومونتاج هبة عثمان، التي تشمل أعمالها الفيلم السوداني الشهير وداعًا جوليا. تتولى MAD Distribution مهام توزيع الفيلم في العالم العربي، بينما تتولى MAD World مبيعات الفيلم في باقي أنحاء العالم.

الفيلم إنتاج مشترك بين مصر وفرنسا وألمانيا والمملكة العربية السعودية وقطر، من إنتاج هالة لطفي من شركة حصالة (القاهرة) وإنتاج مشترك مع إتيان دو ريكود من شركة كاراكتير للإنتاج (باريس)، وقسمت السيد من شركة سيرا فيلمز جي إم بي إتش (برلين)، وART (جدة). 

عاد فيلم المستعمرة إلى برلين بعد حصوله على تمويل من صندوق برلين السينمائي العالمي في عام 2022، وبالإضافة إليه، تلقى المشروع دعمًا من مجموعة من هيئات التمويل الدولية المرموقة بما في ذلك مبادرة السيناريو والتطوير لصندوق هوبرت بالس التابع لمهرجان برلين السينمائي الدولي، إلى جانب مبادرة دعم الأقليات للإنتاج المشترك لـ هوبرت بالس بلس، ومعهد الدوحة السينمائي، والصندوق العربي للفنون والثقافة، وصندوق تنمية البحر الأحمر، وصندوق صورة الفرانكوفونية، وصندوق سيني جونة التابع لمهرجان الجونة السينمائي.

 

البلاد البحرينية في

20.02.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004