المخرج البرازيلي الواقعي الفانتازي
غابرييل ماسكارو لـ"إيلاف": السينما أداة للتحرر وكسر
القيود
أحمد
العياد
إيلاف من برلين: على
مدار سنوات، استطاع غابرييل ماسكارو أن يترك بصمته في السينما البرازيلية
والعالمية بأسلوبه الفريد الذي يمزج بين الواقع والفانتازيا، وبين النقد
الاجتماعي والصورة السينمائية الشاعرية.
في فيلمه الجديد
"O Último Azul" (The Blue Trail)،
الذي عُرض في الدورة الـ75 من مهرجان برلين السينمائي الدولي، يأخذنا
ماسكارو في رحلة تأملية عميقة داخل غابات الأمازون، حيث تواجه امرأة
سبعينية قرارًا مصيريًا بالانتقال إلى مستعمرة لكبار السن. لكنها ترفض هذا
المصير، وتقرر أن تبحث عن حريتها الخاصة، بعيدًا عن القيود المفروضة عليها.
في حوار مع "إيلاف" يكشف ماسكارو عن تفاصيل بناء الشخصيات،
الصعوبات التي واجهها أثناء التصوير في الأمازون، وكيف يرى السينما كأداة
لطرح قضايا سياسية وإنسانية.
*ما
الذي دفعك لاختيار قصة امرأة مسنّة تبحث عن الحرية؟
-
لطالما كنت مهتمًا بالشخصيات التي تعيش على الهامش، الشخصيات التي لا
يمنحها المجتمع فرصة لإعادة اكتشاف نفسها. في أغلب الأفلام، نرى كبار السن
يعيشون حياة هادئة، يعتنون بأحفادهم أو يقضون وقتهم في أنشطة تقليدية،
لكنني أردت أن أكسر هذا التصور النمطي. لماذا لا يمكن لشخص مسنّ أن يخوض
مغامرة، أو يواجه النظام، أو يقرر بدء حياة جديدة؟، الفيلم يبدأ وكأن
النظام يمنح بطلته "فرصة جيدة" من خلال إرسالها إلى مستعمرة سكنية لكبار
السن، حيث يمكنها العيش براحة في سنواتها الأخيرة. لكن الحقيقة مختلفة
تمامًا، فهذه "الراحة" ليست سوى حرمان من الحرية. بدلًا من أن تستسلم، تقرر
الهروب، وتبدأ في البحث عن معنى جديد لحياتها. كانت هذه الفكرة الأساسية
التي بنيت عليها القصة: الحرية لا يجب أن تكون حكرًا على الشباب فقط.
*استخدمت
جواز السفر كرمز لقيود السفر، لكنك أظهرت كيف يمكن كسر هذه القواعد. كيف
طوّرت هذا العنصر في القصة؟
-
في كل الأنظمة القمعية، هناك دائمًا ثغرات، وأشخاص مستعدون للتعاون معك
سرًا. حتى في أكثر الأنظمة صرامة، ستجد من يساعدك على تجاوز الحدود. في
الفيلم، جواز السفر يمثل القوانين الجامدة التي تمنع الناس من التنقل
بحرية. لكن البطلة تجد شخصًا يساعدها على اختراق النظام، مثلما تساعدها
الألعاب النارية على معرفة متى يمكنها التحرك ومتى يجب أن تنتظر، الألعاب
النارية لم تكن مجرد وسيلة للهروب الفعلي، بل كانت تعبيرًا عن كيف أن هناك
دائمًا لحظات مناسبة للتمرد وكسر القواعد. النظام يفرض علينا قيودًا، لكن
الذكاء والمرونة يجعلان من الممكن إيجاد طريق للخروج.
*كيف
تقارن بين فيلمك الحالي وفيلمك السابق؟ وما التغييرات التي طرأت على أسلوبك
في السرد والإخراج؟
-
حاولت في هذا الفيلم تقديم رؤية مختلفة عن الفيلم السابق، حيث ركزت أكثر
على بناء العلاقة بين الشخصيات بشكل غير مباشر بدلاً من اللجوء إلى المشاهد
الحميمة التقليدية. في الفيلم السابق، كانت العلاقة واضحة من خلال المشاهد
الحسية، خاصة مع وجود شخصية المرأة الحامل، لكن هذه المرة أردت أن أجعل
التفاعل بين الشخصيات أكثر غموضًا، بحيث يكتشفه المشاهد تدريجيًا.
أيضًا، كان التحدي في هذا الفيلم هو البحث عن بعد فانتازي،
خاصة أن الأحداث تدور على مركب، مما فرض نهجًا بصريًا ومفاهيميًا مختلفًا.
هناك نوع من التحرر في الطرح، وقد تعمقت أكثر في تقديم شخصيات قوية
ومتقاربة، مع التركيز على لحظات مثل مشهد رقص السيدتين معًا، والذي يحمل
بعدًا رمزيًا للتحرر والتواصل. كان هدفي تجنب التكرار والتوجه نحو تجربة
سينمائية أكثر تجديدًا.
*الشخصية
الرئيسية تمتلك روحًا قوية ومميزة. كيف عملت على تطويرها؟
-
حاولت بناء الشخصية من مجموعة من التجارب الحياتية، بحيث تبدو وكأنها نتاج
لكل ما مرت به في حياتها. في البداية، هي مستسلمة للأمر الواقع، لكنها
تلتقي بأشخاص يساعدونها على إدراك أن بإمكانها اختيار طريق آخر، هناك رمزية
في الأشخاص الذين تقابلهم خلال رحلتها، فالرجل الذي يساعدها في ركوب القارب
يمثل الأمل في المستقبل، الطبيب الذي يعرض عليها حفاضات البالغين يجسد
المحاولة لفرض صورة الضعف عليها، لكنها ترفضها تمامًا، المرأة الأخرى التي
تساعدها على الهروب هي الشراكة الحقيقية، حيث لا يكون أحدهما أقوى من
الآخر، بل يكملان بعضهما البعض، بالنسبة لي، الفيلم يتحدث عن أن كل شخص
يستحق فرصة ليحلم، بغض النظر عن العمر أو الظروف.
*كيف
كانت تجربة التصوير في الأمازون؟
-
أنا لست من الأمازون، لكن لدي علاقة خاصة بهذه المنطقة. على مدار سنوات،
عملت في تدريس صناعة الأفلام للسكان الأصليين، واكتسبت فهمًا عميقًا
للثقافة والحياة هناك. أثناء التحضير للفيلم، كنت أبحث عن مكان يحمل رمزية
قوية، ووجدت كازينو صغيرًا في منتصف النهر. شعرت أن هذه الصورة تختصر جوهر
القصة: الرغبة في الهروب من القدر المرسوم مسبقًا، التصوير في الأمازون لم
يكن سهلًا، لأننا كنا نعمل في بيئة مفتوحة بالكامل على الطبيعة، حيث لا
يمكن التحكم في الطقس أو الأوضاع المحيطة. لكن هذه الصعوبة كانت جزءًا من
روح الفيلم.
*هل
الفيلم يحمل رسالة سياسية؟
-
بالتأكيد، حتى لو لم يكن ذلك بطريقة مباشرة. الفيلم يناقش التهجير القسري
للمسنّين من المجتمع، وهو أمر يحدث في أماكن عديدة حول العالم. في
البرازيل، هناك ميل لإبعاد كبار السن عن الحياة العامة، وإجبارهم على العيش
في أماكن مخصصة بعيدًا عن المجتمع. هذا جزء من رؤية رأسمالية قاسية ترى في
المسنين عبئًا بدلًا من اعتبارهم جزءًا مهمًا من المجتمع.
هناك أيضًا بُعد آخر يمكن إسقاطه على قضايا مثل التهجير
الذي يحدث في فلسطين أو في مناطق أخرى من العالم، حيث يتم إجبار السكان على
مغادرة منازلهم. حتى لو لم يكن المشاهد يعيش هذه التجربة بشكل مباشر، يمكن
للفيلم أن يجعله يدرك معاناة الآخرين من زاوية مختلفة.
*كيف
ترى السينما البرازيلية اليوم؟
-
أعتقد أننا نشهد لحظة ذهبية. هذه أول مرة منذ سنوات نرى الأفلام البرازيلية
موجودة في مهرجان كان، فينيسيا، وبرلين في نفس العام. هذا يدل على أن
السينما البرازيلية لم تعد تقتصر على السوق المحلي، بل أصبحت جزءًا من
المشهد السينمائي العالمي، هناك اهتمام جديد بالقصص المحلية، لكن بطريقة
عالمية، بحيث تعكس قضايا إنسانية يمكن للجميع الارتباط بها. أعتقد أن هذه
بداية مرحلة جديدة ومثيرة للسينما في البرازيل.
*كيف
تم تمويل الفيلم؟
-
تم تمويل الفيلم من خلال مزيج من الدعم الحكومي، شركات مستقلة، وتمويل
دولي. الميزانية كانت حوالي مليون دولار، وتم توزيعها بحكمة شديدة. الفيلم
لم يكن إنتاجًا محليًا بالكامل، بل كان مشروعًا دوليًا، حيث عمل معنا
مصورون من المكسيك، وموسيقيون من تشيلي، مما أضاف بعدًا ثقافيًا متنوعًا
للعمل. |