في مهرجان برلين: فيلم “يونان” للمخرج السوري أمير فخر
الدين
أمير العمري- برلين
أتصور أن اختيار أي ممثل لدور معين، يجب أن يكون متناسبا في
شكله وملامحه الخارجية مع الشخصية التي يؤديها حتى يكون مقنعا ويوصل
للمشاهدين التأثير المطلوب، إلا لو كان الاختيار مقصودا منه تحقيق تأثير
عكسي، فعندما يختار المخرج ممثلا بدينا ثم يجعله يبدو مهملا في ثيابه
ومظهره بحيث يظهر في صورة كائن همجي حتى في سلوكه وطريقته في الكلام، ويسند
إليه شخصية مثقف ثوري يفتي في قضية الثورة على السلطة الرجعية مثلا، فلابد
أنه يقصد التعريض والسخرية من هذا المثقف والنيل منه.
في رأيي الخاص، نتيجة استقبالي الشخصي لفيلم المخرج السوري
الأصل أمير فخر الدين، المولود في أوكرانيا والمقيم حاليا في ألمانيا، أن
اختياره الممثل اللبناني خليل خباز للقيام بالدور الرئيسي في فيلمه “يونان”
Yunan
وهو عنوان لم أجد له معنى واضحا في الفيلم، فهو الاسم التوراتي للنبي يونس
في “سفر يونان”، وتذكر الأسطورة الدينية أنه عصى الله في البداية فغضب الله
عليه فجعل الحوت يبتلعه ليقضى ثلاثة أيام في بطن الحوت قبل أن يتوب إلى
الله ليلفظه الحوت ويعود إلى الحياة.. ولكن ما مغزى القصة التوراتية
واختيار الاسم التوراتي هنا؟ لا أظن أن أحدا سينجح في العثور على أي صلة مع
موضوع الفيلم وشخصيته الرئيسية. وهذا النوع من الغموض المقصود يسود الفيلمَ
كله وذلك لإضفاء قدر من الشعرية وتجاوز رواية قصة، مع التركيز على تصوير
“حالة” وجودية.
الغموض إذن هو السمة الأساسية في الفيلم الذي عرض بمسابقة
مهرجان برلين السينمائي الـ75، ولاشك أنه ينطلق من فكرة نظرية طموحة، إلا
أنه لا ينجح في تجسيد تلك الفكرة، فينتهي كما بدأ، أي دون تعميق للشخصية أو
تطوير للموضوع لحالتها والأهم، نقل الإحساس بأزمة بطله المفترضةـ فالغموض
الذي يطغى على الموضوع يقلل كثيرا من قيمة الفيلم والقدرة على استقباله.
وتختلف النظرة إلى الفيلم بطبيعة الحال، حسب ثقافة المتلقي ونظرته الخاصة
للسينما الحديثة وخبراته المتراكمة في التعامل مع هذا النوع من الأفلام.
اختار المخرج فخر الدين، ممثلا ضخم الجسد هو اللبناني جورج
خباز، وأسند إليه دور كاتب من العالم العربي يدعى “منير”، يبدو في الحقيقة
كالمصارع، فهو يسير في بطء، يتأرجح يمينا ويسارا بفعل وزنه المفرط، بحيث
يشبه ثورا يتحين لحظة أن ينطح فريسته، كما سيجعله المخرج (وهو نفسه كاتب
السيناريو) يمارس المصارعة بالفعل فيما بعد!
يفترض إذن أن يكون “منير” كاتبا روائيا مرهف الحس، يعاني من
وطأة الشعور بالغربة في المهجر منذ سنوات بعيدة، ولكن الافتراضات دائما ما
تأتي بعكس ما ترمي إليه. وهي سمة من سمات الكثير من الأفلام التي عرضت في
دورة مهرجان برلين ومنها على سبيل المثال فيلم “المستعمرة” المصري الذي سبق
أن تناولته بالنقد والتحليل.
إننا نرى منير في البداية، في شقته بمدينة هامبورج، شاردا،
يعجز عن ممارسة الجنس مع صديقته الألمانية، تصيبه نوبات من الشعور بضيق
التنفس، وعندما يستشير الطبيب لا يجد الطبيب سببا عضويا لحالته، بل هي
غالبا حالة نفسية ناتجة عن شعور قاس بالغربة، وينصحه الطبيب بأن يأخذ عطلة،
و”يستنشق الهواء” (كذا)، إلا أن منير الذي يرسل المال إلى شقيقته في الوطن،
ويتخلى عن صديقته، يهجر هامبورج ويتجه إلى إحدى جزر “هالينغ” الألمانية
الواقعة قبالة الساحل الشمالي، وهي جزيرة منعزلة نائية، يستقل أولا القطار
ثم قاربا أو عبّارة، يحمل في حقيبته الصغيرة مسدسا، والواضح أنه يريد أن
ينهي حياته هناك، في تلك الجزيرة النائية. لكنه سوف يفشل في تحقيق هذه
الرغبة، أو ربما ستجذبه الطبيعة المتألقة هناك ليستعيد الرغبة في مواصلة
العيش. وكلها بالطبع محض استنتاجات أو افتراضات واهية، فالفيلم يخفي أكثر
كثيرا مما يظهر، ويترك الكثير لمشاعر المتفرج وقدرته على التماهي مع تلك
الشخصية التي لا نعرف لها تاريخا باستثناء أنها شخصية تتماهى مع الصحراء،
مع شخصية راعي غنم من عهود ماضية، يتبدى له في قصة موازية تظهر كثيرا، كانت
تقصها والدة منير عليه في طفولته واستقرت في ذاكرته.
يتصور أي مشاهد للفيلم أن منير، الكاتب الذي يعاني من
الاكتئاب، من الطبيعي أنه يعزف عن تناول الطعام، ولابد أن يصبح نحيلا،
شاحبا، لكن المخرج يسند الدور إلى جورج خباز الذي يعاني من زيادة كبيرة في
الوزن، وعلامات صحة وقوة لا تخطؤها العين. وهكذا يبدو كما لو أن “منير”
يزداد وزنه كلما ازدادت معاناته، وهو اختيار يفسد الكثير من قدرة الفيلم
على الإقناع، ناهيك عن الاستمتاع، لكن يبدو أن الملامح العربية التقليدية
البارزة عند هذا الممثل كانت وراء ذلك الاختيار الخطأ، الذي ربما يتسق مع
الصورة النمطية عن “العربي” – البدوي الصحراوي، في الغرب!
تبدو فكرة الرحيل إلى مكان بعيد لإنهاء الحياة في منطقة
نائية وسط الحيوانات، قريبة من فكرة فيلم المخرج اليوناني ثيو أنجلوبولوس
“حارس النحل”
The Beekeeper
مع الفارق الكبير بين العملين، وكذلك فرق الموهبة والخيال والمهارة في
التعبير بل وكثافة الموضوع، ودرجة النجاح في صياغة سياق شعري.
في الوقت نفسه، أساء المخرج الاختيار أيضا عندما أسند الى
الممثل الفلسطيني علي سليمان دور راعي الغنم الشاحب، العاجز عن الكلام،
كفيف البصر، وكان من الأفضل كثيرا أن يعكس الاختيار، فيسند دور الكاتب الى
علي سليمان، ودور راعي الغنم الى جورج خباز. ولكن هل هناك علاقة واضحة
مقنعة بين القصة التي يستدعيها البطل من ذاكرة أمه المصابة بداء الخرف، أي
قصة الراعي الذي ليس له عينان ولا أذنان ولا فم- كما تقول له، وبين شخصية
الكاتب المكتئب بفعل الغربة الطويلة الذي يرغب في الانتحار في أرض بعيدة
وإن اختلفت تماما في طبيعتها الخضراء عن الصحراء القاحلة؟
منير لن ينتحر، وسيتفرع الفيلم إلى فروع أخرى بعيدة عن
الخيط الأساسي بغرض تكثيف “الحالة” الذهنية والنفسية في سياق يحاكي أسلوب
السرد الشعري، من دون أن ينجح، فلا يكفي أن تبدأ الفيلم ببيت من أشعار
المتنبي، أو أن تجعل الكاميرا بين آونة وأخرى، تمسح الجدران في حركة بطيئة،
أو تتوقف في لقطات طويلة، تتأمل جمال الطبيعة في تلك المنطقة النائية التي
يتصادف أيضا أن يضربها طوفان لا يحدث سوى كل مائة سنة، يتسبب في إغراق
الأراضي والمنازل ماعدا تلك المنازل المشيدة فوق ربى ترابية، وكلها تفاصيل
تتمتع بجمالها الشكلي المستقل بعيدا عن السياق.
أما الحدث الأهم وربما الوحيد في الفيلم فهو أن منير يلتقي
بامرأة كبيرة السن كثيرا، صاحبة فندق أو مأوى وحيد على أطراف البلدة، هي
“فاليسكا”، التي تقوم بدورها الممثلة الألمانية المخضرمة هانا شيجولا، لكن
فاليسكا لا يمكنها أن تمنحه غرفة فجميع الغرف كما تقول، شاغرة (لا أحد يعرف
من الذي يريد أن يأتي إلى هذا المكان للإقامة في فندق بائس من هذا النوع
وماذا يفعل هناك في جزيرة لا يقطنها أكثر من مائة شخص أوأكثر قليلا!)..
ولكن بعد إلحاح واستعطاف من جانبه، يرق قلب فاليسكا، فتمنحه مكانا للإقامة
في منزل شبه مهدم في البلدة نفسها.
وتدريجيا تصبح فاليسكا الوجه الإنساني لشخصية “الآخر”
الأوروبي، أي الوجه غير العنصري الذي يرحب ويحتضن القادم الجديد حتى لو
كانت ملامحه غريبة، بل وتصبح بمثابة أم له، ترعاه وتقدم له النصح ولو في
كلمات لا معنى لها كما عندما تقول له مثلا أنه يجب أن يقلل من كمية الهواء
الذي يستنشقه لكي يتغلب على ضيق التنفس!
أما ابنها “كارل” فيبدو في صورة مغايرة، فهو يتوجس من هذا
الغريب، ولا يتبادل معه أي حديث، على الأقل في البداية، إلا أنه سيصبح فيما
بعد أكثر لطفا ورقة عندما يدعوه للالتحاق به ورفاقه الذي يشربون ويفرطون في
احتساء الخمر في الحانة.
سنرى أيضا مشهدا طويلا لا يضيف شيئا سوى المزيد من الثقل في
الإيقاع المترهل للفيلم (الذي يتجاوز ساعتين) عندما يصر منير على منازلة
كارل في المصارعة، مرة ومرتين وثلاثة، وفي كل مرة يهزمه كارل ويسقطه أرضا،
فما المقصود؟ هل يسعى منير للموت على يدي كارل؟ هل يريد أن يثبت لنفسه أنه
مازال يتمتع بالقدرة على الاستمرار في العيش بعد أن وجد في تلك الجزيرة
صورا مدهشة للحياة، للخضرة، للمياه، للطبيعة الفاتنة، وهي صور تتناقض مع
صورة الصحراء الجافة التي تتبدى في المشاهد المتخيلة لراعي الغنم وزوجته
الجميلة التي تخدمه في صمت؟
يعود الفيلم مرات عدة، إلى قصة راعي الأغنام وزوجته، تقريبا
بنفس تفاصيل الصورة وزوايا الكاميرا، ونفس الكلمات التي نسمعها على لسان
والدة منير التي يتخاطب معها تارة عبر السكايب، أو يستدعي القصة التي كانت
ترويها له في الحلم تارة أخرى.
فيلم “يونان” من تلك الأفلام التي تهجر الشكل القصصي
الدرامي، والسرد الخطي، تكتسي أكثر بالغموض والمسحة الخارجية الشعرية، وهو
شكل يجذب هواة هذه التجارب السينمائية، إلا أن الفيلم بكل ما يشوبه من غموض
بدءا من عنوانه نفسه، ثم إغفال الكثير من الأسباب والإشارات التي قد تسلط
بعض الضوء على سبب معاناة منير في الغربة بعد أن عاش في المهجر طويلا.
فخر الدين يهمل عن عمد، الحبكة، المسار القصصي، تسليط أضواء
على دوافع الشخصيات وواقعها ومأزقها: نحن مثلا لا نعرف من أين جاء منير،
ولماذا هو في المنفى أصلا بينما أمه وأخته مازالتا تعيشان في الوطن، وهذا
الوطن غير محدد، كما لا نعرف لماذا اختارت “فاليسكا” العيش مع ابنها في هذه
الجزيرة النائية، أو معنى وجود فندق صغير لزوار لا وجود لهم.. وغير ذلك،
وهذا الغموض جزء أساسي من الأسلوب، فليس المقصود رواية قصة بل التعبير عن
حالة ذهنية، ولكن النتيجة ليست مؤثرة كما كانت مثلا في حالة “حارس النحل”
لأنجلوبولوس، أو “نوستالجيا” لتاركوفسكي.
إن إهمال السرد القصصي وإضفاء الغموض على الشخصيات في
علاقتها بالمكان على الرغم من الاهتمام البصري الكبير بتفاصيل المكان، لا
يكفي وحده لتحقيق الطابع الشعري رغم أن فخر الدين ومصوره الكندي رولاند
بلانت يشحنان الفيلم بلقطات بديعة منعزلة للبيئة الطبيعية: الحيوانات
وأسراب الطيور، المياه التي تغمر الأرض في مشاهد الطوفان، البيوت التي تطل
من بعيد وقد أصبحت جزرا صغيرة طافية فوق الماء.
يحاول فخر الدين أن يجعل بطله يتماهى مع الطبيعة ويشعر بها،
ويجعلها تغيره وتغير نظرته للعالم. لكنه سيتجه قرب النهاية إلى إدخال مشهد
مفتعل كثيرا (وتقليدي ومتوقع) عندما يجعل فاليسكا تقوم بتشغيل أسطوانة
لأغنية عربية راقصة، ثم تجذب منير ويندمج الاثنان في رقصة طويلة مشتركة على
نغمات وإيقاعات الموسيقى العربية، لينتهي الفيلم منتصرا للحياة على الموت.
لا يجب أن تسأل عما يمكن أن يكون دافع فاليسكا إلى أن تصبح
كما رأينا، الأم البديلة على المستوى النفسي للرجل الغريب، فهي رمز أكثر
منها شخصية من لحم ودمـ فالرمزية تغلب على الفيلم: تعاقب مرور القطارات من
النافذة التي ظهر في خلفية اللقطة خلال محاولة منير ممارسة الجنس مع صديقته
في غرفته بهامبورج في البداية، إشارة إلى مرور الزمن، تطلع منير إلى
الحيوانات بحيويتها وتألقها مما يشي بقوة التشبث بالحياة رغم الطوفان الذي
أصاب الجزيرة، حيوية السكان الذين يحتفلون بالحياة وبالرقص والمصارعة
والشراب والغناء رغم الطوفان، تطلع الحيوانات لمنير بنظرات متوجسة باعتباره
غريبا عن المكان، ورمزية العلاقة بين فاليسكا ومنير، التي تشير إلى حتمية
التقارب في الحس الإنساني المشترك الذي لا يفرق بين الأعراق والألوان، لكن
الزمن السينمائي الذي كان يمكن أن يصبح أكثر انضباطا، لا يحقق للفيلم
الطموح الذي أراده له مخرجه، فالشعر يظل على السطح، مباشرا، مفروضا على
الصورة.
يجب أن نذكر أن “يونان” هو الفيلم الثاني من ثلاثية “الوطن”
التي بدأها أمير فخر الدين بفيلم “الغريب” (2021) الذي مثل فلسطين في
الأوسكار، ويعتزم إكمالها بفيلم “نوستالجيا: حكاية في فصولها الأولى”، وقد
اشتركت في إنتاج “يونان” جهات متعددة من الأردن وألمانيا وفلسطين وكندا
وفرنسا وإيطاليا. |