جلسنا في مطلع 2019 للحديث عن عطيات الأبنودي وأفلامها، وعلاقة هذه الأفلام
بسياقات تاريخية وموضوعات حول السينما التسجيلية.
ما دفعنا لهذا الحديث ليس فقط تقديرنا لسينما عطيات الأبنودي، ولكن تطلعنا
لمنافشة علاقة الأفلام التسجيلية بسياقات إنتاجها وتوزيعها وعرضها من ناحية،
وعلاقتها بالواقع من ناحية ثانية. يجمعنا اهتمام بالأفلام المنحازة التي تعكس
اشتباك فعّال مع محيطها الاجتماعي، وعطيات تعطينا أمثلة مثيرة لهذه النوعية من
الأفلام في ظل تغيرات في أنماط الإنتاج، وفي ظل سعيها لوجود آليات إنتاج على
اتساق مع توجهاتها وانحيازاتها.
بدأنا حديثنا من لحظة مشاهدتنا لأفلامها للمرة الأولى ثم أخذنا الحديث داخل
وخارج الأفلام في لحظات مختلفة من التاريخ السياسي والسينمائي المصري. تناولنا
اختلاف أفلام عطيات وكذلك تشابهها مع أفلام جيلها، ونوع النظرة الاثنوغرافية
التي حملتها، وتقاطع أفلام الهواة والمؤسسة العامة للسينما، ورؤية عطيات
للسينما كأداة تحرر وطني وعن خفوت هذا المشروع في مقابل المشروع التنموي
للمجتمع المدني. هذا وتفاصيل أخرى ربما لا تفضي إلى استنتاج صريح ولكنها في
رأينا ما يعطي عطيات وأفلامها صلة بواقعنا الحالي.
نور: لنبدأ من علاقتنا بعطيات الأبنودي أو كما كان اسمها قبل الزواج من
الأبنودي عطيات عوض محمود خليل.
رفعت: شاهدت فيلم "حصان الطين" لأول مرة خلال ورشة "كراسات السيماتيك" منذ
حوالي خمس سنوات وهي ورشة نظمها سيماتك-مركز الفيلم البديل في القاهرة ما بين
2014 و2015. وشاهدته بجوار أفلام لعلي الغزولي وحسام علي، كجيل من
الوثائقيين/ات خريجي/ات معهد السينما أواخر الستينات وأوائل السبعينات. وما
أتذكره من لحظة التلقي الأولى تلك هو الانبهار، الانبهار من وجود أفلام وثائقية
مصرية من ذلك الوقت تملك تلك الحساسية السياسية تجاه واقعها المحيط كما تقدم
أيضًا محاولة جادة لترجمة تلك الحساسية جماليًا من خلال الوسيط السينمائي.
نور: ماذا تقصد بـ "حساسية سياسية" تجاه الواقع؟ وماذا يميز الفيلم الوثائقي عن
الروائي في هذا الأمر من وجهة نظرك؟
رفعت: ما شعرت به في تلك اللحظة هو الوعي الثقافي بالدور المسيس للفنان/ة في
تلك الأفلام، عن إحساسي بأنها أفلام تريد أن تلعب دورًا في نقل وتشكيل واقعها
ويملك منتجيها رأيًا وانحيازًا تجاه ذلك الواقع المحيط. لا أظن أن هناك
بالضرورة اختلاف جذري بين الأفلام الوثائقية والروائية فيما يخص تلك النقطة،
ولكن هناك التراث الذي تحمله الأفلام الوثائقية عن كونها تسجيل للواقع أكثر
منها تمثلات بصرية ودرامية ففكرة انحياز الفيلم الوثائقي وهي فكرة بالتأكيد
حملتها عطيات قد تأخذ تميزها في علاقتها مع هذا الموروث. مما جعلها أقرب إن
جاز التعبير في علاقتها مع الواقع.
نور: لا أتذكر تحديدا السنة لكن غالبا خلال أواخر 2015 أوائل 2016 بدأت النبش
في تاريخ السينما بعد التأميم في عهد جمال عبد الناصر. كان يشغلني كيف تغيرت
خريطة المؤسسات التي تدعم صناعة السينما من حيث الإنتاج، والتوزيع والمشاهدة.
وكنت أبحث عن طرق التنظيم التي شكلت البيئة السينمائية بعد 1952 في ظل طموح
قومي لبناء مجتمع اشتراكي جديد ومجتمع يناضل من أجل التحرير وضد الاستعمارية
الجديدة. كنت منشغلة بشكل البنية التحتية، إن صح التعبير، التي ساهم جيل ما بعد
الثورة (الستينيات والسبعينيات) في تكوينها. هكذا قابلت عطيات وكتابها "السينما
الثالثة: هل تصبح السينما هي الفن الشعبي للقرن الحالي؟" وكانت واحدة من
المخرجات النساء القلائل التي تعرفت عليهن من هذه الفترة. لكن لم أقابلها شخصيا
للأسف، أنت قابلتها شخصيا، صحيح؟
رفعت: قابلتها في 2016 خلال بحث كنت أساعد فيه حول نوادي الأفلام وسياقات
المشاهدة البديلة في فترة الستينيات والسبعينيات في مصر. كانت مريضة وبالكاد
قادرة على الكلام وساعدت أسماء يحيى الطاهر وهي ابنتها بالتبني في ترجمة
كلماتها القليلة لنا. جاء لقاءنا مع عطيات لكونها إحدى المخرجات القلائل من تلك
الفترة التي أنتجت أفلام ابتعدت جماليًا عن السائد كما كان لديها علاقة مثيرة
للاهتمام مع الدولة كجهة إنتاج وأيضًا كجهة تعليمية للسينما من خلال المعهد
العالي للسينما. أتذكر أننا قابلنا أيضًا آخرين من الفاعلين سينمائيًا في ذلك
الوقت من ضمنهم الناقد الراحل أحمد يوسف.
نور: واحدة من الجوانب التي ميزتها في أفلام مثل "حصان الطين" (1971) وفيلم
تخرجها "أغنية توحة الحزينة" (1971) وفيلم "الساندويتش" (1975) هو رفض كاميرتها
إضفاء رومانسية على "الطبقة الفقيرة" في ظل هذا المد التقدمي نحو مصر جديدة،
أقصد الطبقة التي تستغل جسدها في العمل مثال الفلاحين والحمالين والصيادين
وعارضي الفرق الشعبية والسيرك الذين يجولون الشوارع. وفي كتاب "أيام السفر"
تحكي عطيات أن بعد العرض الأول لفيلم "حصان الطين" في جمعية الفيلم، وكان فيلم
من إنتاج جمعية الفيلم التي كانت تنتج ما سمي بأفلام الهواة وقتها، اتهم البعض
الفيلم وعطيات بالمساس بصورة مصر وتقديم صورة قبيحة عن المجتمع المصري الذي هو
بصدد النهوض وانتزاع هوية وطنية بعد الاستعمار.
رفعت: من الملفت أن يأتي هذا الاتهام، وهو الاتهام الذي استمر حتى وقتنا هذا
مع إنتاجات فنية مختلفة، من داخل التيار الوطني ذاته. كان هناك صورة لمصر يتم
تطويرها بالفعل عن مصر "الجديدة" من الممكن أن يكون فيلم مدكور ثابت "ثورة
المكن" (1967) مثال جيد عليها. كانت الصورة أن مصر يتم تحديثها وأنه نحن على
طريق نهضة صناعية وثقافية. وبالفعل شغل موضوع النهضة والتنوير العديد من
المثقفين المصريين في ذلك الوقت. المثير للاهتمام في أفلام عطيات هو أنها كانت
جزء من تلك النهضة المزعومة ومشروع التطوير الناصري، ولكنها أيضا كانت لحظة
مختلفة، أعني لحظة إنتاجها أفلامها الأولى، فهي لحظة ما بعد الهزيمة، كان هناك
مراجعة ثقافية للمشروع الناصري وتبعاته وكان ذلك يحدث أيضا في حالة حرب، هناك
جبهة قتال على الأراضي المصرية وجو عام من "لا صوت يعلو على صوت المعركة".
نور: هزيمة 1967 مهمة لفهم الإنتاج الثقافي في مطلع السبعينيات خاصة أنه أسفر
عنها اتجاه عام من قبل الشباب في المجالات المختلفة لانتزاع زمام الأمور جراء
فشل الأجيال الأكبر وكانت بالفعل فترة بداية السبعينات فترة فيها درجة بطالة
عالية وركود اقتصادي وكانت الجامعات في مصر والعالم قد شهدت انتفاضة الطلبة في
1968 واحتجاجات ضد الحرب في فيتنام والمناداة بسينما "جديدة" أكثر شبابا وأكثر
قربا إلى الحاضر المصري كما جاء في بيان جماعة السينما الجديدة في 1968 وكلها
أحداث أثرت على الإنتاج الثقافي وقتها وأثرت على عطيات.
رفعت: إنها لحظة انكسار وتراجع النظام الذي هيمن على الحياة السياسية والثقافية
في مصر لمدة تقترب من الـ 15 عاماً وصل أوجها في 1965. كان قد بدأ يلوح في
الأفق قبل لحظة الهزيمة في 1967 ثم أكثر وضوحاً بعدها إنتاج فني مضاد للخطاب
الرسمي المهيمن. كان صنع الله ابراهيم قد كتب "تلك الرائحة" سنة 1966 وأعاد
يوسف إدريس نشر روايته المنتقدة لليسار المصري "البيضاء" سنة 1970، نفس السنة
التي أخرج فيها يوسف شاهين "الاختيار" من تأليف نجيب محفوظ تلاه بفيلم
"العصفور" سنة 1972. كما أن سنة 1971 ذاتها هي سنة عودة ثروت عكاشة وزير
الثقافة الأسبق ومصمّم هيكل مؤسسات الثقافة العامّة في مصر للوزارة.
نور: عطيات كانت منغمسة أيضا بشكل كبير في دائرة سينما الهواة في مطلع حياتها
كمخرجة. كتبت في "أيام السفر" عن حبها للسينما التسجيلية بعد أن اكتشفت أنها
سينما لها أبعاد أكبر من السينما التوعوية والتعليمية وتقول إنها أول من قدم
فيلم تسجيلي كفيلم تخرج في المعهد العالي للسينما وهو فيلم "أغنية توحة
الحزينة" (1971) واضطر مشرفها للتدخل للدفاع عنها نظرًا لرفض فكرة تقديم فيلم
تسجيلي كفيلم تخرج من قبل إدارة المعهد. ولكن رجوعا لموضوع انغماسها في دوائر
سينما الهواة ففيلم "حصان الطين" مولته جمعية الفيلم تحت اسم "سينما الهواة"
وكان دعم إنتاج أفلام يصنعها غير المحترفين من مهام الجمعية وقت تأسيسها، ثم
سافر الفيلم إلى مهرجان قليبية لسينما الهواة الذي كانت تنظمه الجامعة التونسية
للسينمائيين الهواة ثم سافر إلى باريس وسويسرا كله اعتمادا على هذه الشبكة من
المهرجانات لسينما الهواة. كانت هذه الشبكة لعرض وإنتاج الأفلام بعيدة عن إنتاج
مؤسسي خاص بالاستوديوهات الكبيرة وكانت دوائر سينما الهواة دوائر تحررية في
كثير من البلاد، سواء في بلاد مثل تونس تناضل في سبيل الاستقلال أو بلاد مثل
فرنسا بها طبقات على وعي بأهمية الاحتجاج ضد الحرب في فيتنام ونظام شارل دي
جول. وجود هذه الشبكة الدولية بالتوازي مع شبكات السينما التجارية وصعود صوت
السينما القومية مهم جدا في رأيي.
رفعت: كيف اختلفت سينما الهواة عن السينما القومية؟
نور: اعتقد في مصر لم نطور سينما هواة بالشكل الذي نشاهده في بلاد أخرى مثل
يوغسلافيا أو تونس أو غيرها من الدول حيث ساهمت حكومات ثورية في تأسيس جمعيات
في مناطق مختلفة لإنتاج الأفلام ومشاهدتها. في مصر احتكرت الدولة الخام وأدارت
المؤسسة العامة للسينما توزيع الموارد بشكل مركزي فلم تتح فرصة عمل أفلام خارج
المنظومة الرسمية إلا، ربما، في دوائر صغيرة مقتدرة يمكنها شراء الفيلم الخام
والكاميرات الصغيرة. فأعتقد أن في مصر الإنتاج السينمائي للهواة كان في حدود
ضيقة جدا ولم يستطع تطوير منظومة موازية لمنظومة الدولة سواء في الإنتاج أو
التوزيع.
رفعت: أوافقك على عدم تطور وانتشار فكرة سينما الهواة في مصر بشكل كبير ولكن في
رأيي من المهم ربط إنتاجات الأفلام الوثائقية في تلك الفترة بوجود سياقات
مشاهدة جديدة. أخرجت عطيات أفلامها التسجيلية الأولى في بداية السبعينيات، وهي
الفترة التي شهدت حراكًا سينمائيًا كبيرًا في مصر، حيث نشأت جماعة السينما
الجديدة في 1968، نادي السينما بالقاهرة في أوائل السبعينيات، ثم جمعية السينما
التي أنتجت أكثر من فيلم خلال نفس الفترة. هذا الحراك أتاح للأفلام التسجيلية
فرصة للعرض شبه العام، فبجانب العروض الأسبوعية لتلك الأفلام كان نادي السينما
بالقاهرة ينظم مهرجان للأفلام التسجيلية والقصيرة، وكل هذا سبب ازدهار في
السينما التسجيلية في مصر خلال تلك الفترة. هذا بالإضافة إلى مشروع نوادي سينما
الثقافة الجماهيرية في 1969 والذي ضمّ 16 نادياً وتوسّع إلى 18 نادي فيما بعد،
صاحب المشروع مثل باقي المشاريع السينمائية وقتها مطبوعة تصدر بالتوازي مع
العروض وكان بها تقرير عن الأنشطة ومقالات نقديّة وتولى فتحي فرج رئاسة
تحريرها.
نور: أفلام عطيات مختلفة عن أفلام معاصريها مثل هاشم النحاس وعلى الغزولي
وخيري بشارة وداود عبد السيد لأسباب عديدة منها الانحياز لقضايا المرأة
والمساواة ولكن أيضا لأن هذا الانحياز السياسي ظهر بشكل مباشر في جماليات أفلام
عطيات. وهنا أتذكر نقطة كنا قد تناقشنا فيها من قبل وهي ارتباط عطيات بدوائر
ثقافية معينة، تلك التي ضمت عبد الرحمن الأبنودي وأمل دنقل وهيئة تحرير مجلة
جاليري 68 وهي مجموعة رأت علاقة مباشرة ما بين الإبداع الفكري والثقافي والنضال
السياسي من موقع كان في أغلب الوقت مناهض للسلطة. يكتب مثلا أحمد مرسي في تصدير
مجلة جاليري 68 عدد مايو 1968: "وعلى الرغم من أن مجلة ٦٨ ليست مجلة سياسية،
فهي تؤمن بأنها لو نجحت في الكشف عن حقيقة ما يختلج في جوانح الكتاب والشعراء
والفنانين من أبناء جيل اليوم، تكون قد أوفت بالعهد الذي قطعته على نفسها،
بالمشاركة في معركة التحرير والبناء". وفي فيلم "حديث الغرفة رقم 8" الذي صورته
عطيات مع أمل دنقل في غرفته في المستشفى عام 1990 يحكى دنقل عن موجات نزوح
الشباب المتطلع للعمل في المجال الثقافي من صعيد مصر إلى القاهرة وأنهم كانوا
يروا من موقعهم أهمية العمل من أجل إيجاد مكان في الدوائر الثقافية القاهرية
وزعزعة حدود الذائقة الثقافية المهيمنة. فهم سعوا بشكل ما إلى صياغة علاقة
واضحة ما بين نشاطهم الإبداعي وفعلهم السياسي، فعل سياسي تحرري. في رأيي تعطينا
عطيات في افلامها أمثلة تستخدم بشكل صريح أدوات السينما المشتبكة مع واقعها
المحيط (engaged
cinema)،
أفلامها تصيغ علاقة مباشرة ما بين الفعل الإبداعي والفعل السياسي.
رفعت: أريد أن أوضح أن في رأيي أفلام عطيات مختلفة على الرغم من التقائهما في
تشابهات مع أفلام جيلها. أوجه الاختلاف في ظني مرتبطة بحساسية تجاه الموقع،
بمعنى موقع صانعة الأفلام القادمة من طبقة متوسطة للتعبير عن الطبقة العاملة
المصرية. أدت تلك الحساسية في رأيي لما وصفته أنصاف ماشطة في مقالها
"عطيات الأبنودي أو نبض الواقع في قلب الفيلم الإثنوغرافي والنضالي
والمؤسساتي" من إعادة خلق نسخة جديدة من النظرة الإثنوغرافية التي طالما
استحوذت على الأفلام الوثائقية. (نشر المقال موقع أرخبيل الصور في ديسمبر
2018.)
نور: ذكرني ذلك بتعليق عطيات على أفلام جان روش عندما شاهدتها أثناء دراستها في
لندن، كما جاء في كتاب "أيام السفر." كتبت عقب مشاهدة أفلامه: "لم تستهويني
كثيرا أفلام جان روش، منذ اللحظة أصبحت أفرق بين الأفلام التي تجعل الإنسان
يعبر عن نفسه، والأفلام التي يتفرج فيها صانع الفيلم على الناس وردود فعلهم
إزاء تواجد الكاميرا. وهذا ما يصنعه الباحث في علم الأجناس، وأعتقد أن الفرق
هنا يكمن بين مخرج أفلام والأنثروبولوجي ومخرج الفيلم التسجيلي، لم أكن أعرف
كيف أفرق بين الاثنين قبل مشاهدة أفلام جان روش. ولذلك انحزت منذ عملى في
السينما التسجيلية إلى هذا النوع من الأفلام التي يعبر الناس فيها عن أنفسهم
ولا يتدخل المخرج إلا في إعادة ترتيب وقائع الحياة بشكل درامي حتى تصل فكرته."
من ناحية هناك تأكيد على النقطة التي ذكرتها سابقا بخصوص وعى عطيات بموقعها خلف
الكاميرا وما يعطيه ذلك الموقع من سلطة في علاقتها بالأشخاص أمام الكاميرا.
وبالفعل سعيت عطيات إلى أن يعبر الناس ويتحدثون أمام الكاميرا. ولكن موضوع
"النظرة الإثنوغرافية" معقد لأني لا أعتقد أن مجرد جعل الأشخاص يتحدثون عن
أنفسهم يحصن ضد سلطة المخرجة من حبك رؤية الواقع في النهاية من منظورها هي وليس
من منظور هؤلاء الماثلين والماثلات أمام الكاميرا. فلابد لها من ترك زمام
الأمور أكثر لكي نستطيع فعليا أن نقول أن الأفراد أمام الكاميرا كانوا مشاركين
فعليين في تأليف الفيلم ورؤيته للواقع.
رفعت: في ظني أن عطيات لا تتخلص من النظرة الاثنوغرافية ولكن تجعلها أكثر
حساسية، على الأقل في أفلامها الثلاث الأولى. ولو عندي قراءة لتلك النقطة
المثيرة للاهتمام التي أثارها مقال أنصاف فهو أن ما يظهر في أفلام عطيات هو
الوعي والانحياز، بمعنى أن لديها كمخرجة سلطة التحكم في السرد ولكن اختياراتها
مضاءة بوعي للصراع الطبقي والنسوي في مصر وتمثلاته السينمائية، كما هو متخطي
أيضًا لمفهوم الحيادية - العين المجردة - الذي نراه في تراث الأفلام الوثائقية،
أن هذا الجمع بين الوعي والانحياز هو ما يفكك تلك النظرة الاثنوغرافية في رأيي.
نور: دعنا نفكر في الأفلام التي أنجزتها في فترة الألفينيات مثل "إثيوبيا بعيون
مصرية" (2004) و"قطار النوبة" (2002) فهنا الأفراد أمام الكاميرا لا يتحدثون
أمامها وإنما يظهر صوت عطيات في شكل
voice over
يعطي لنا قراءة مصاحبة بينما تمر صور الأفراد وصور الطبيعة أمام أعين
المشاهدين. فيلم "قطار النوبة" من إنتاج المركز القومي للسينما وفيلم "إثيوبيا
بعيون مصرية" ساهم في إنتاجه جماعة تحوتي للدراسات المصرية بالتعاون مع قطاع
مياه النيل بوزارة الموارد المائية والري. فيلم "القاهرة 1000، القاهرة 2000"
أنتجته قنوات النيل المتخصصة سنة 2000 بمناسبة دخول الألفية وهو يصور مدينة
القاهرة في حاضرها وماضيها.هذه الأفلام تعمل من داخل قضايا مؤسساتية مثل قضية
إعادة توطين أهالي النوبة أو علاقة مصر بأثيوبيا من حيث الموارد المائية أو
مكانة القاهرة كعاصمة لمصر في مدخل الألفية. الأفلام يغلب عليها البعد تقريري
من حيث إدراج معلومات وحقائق علمية من خلال قراءة مصاحبة، ويغلب عليها نظرة
سياحية، "الفرجه" على الناس من مسافة ومشاهدة ردود أفعالهم تجاه الكاميرا ربما
ما رفضته في البداية كما ذكرت بخصوص تعليقها على روش.
رفعت: من الممكن ربط التغيير في أفلام عطيات بالتغيير في الفرص الإنتاجية
المتاحة للأفلام الوثائقية في مصر وكذلك فرص العرض والتلقي ونوعه. في
التسعينيات والألفينيات تأتي أغلب مواضيع أفلامها من ما تطرحه مؤسسات تنموية
حكومية وغير حكومية كمراكز اهتمامها. باختصار أصبحت تكليفات الأفلام تغطي
مواضيع تهتم بها تلك المؤسسات. كما انحسرت أيضًا سياقات المشاهدة مثل نوادي
السينما وما إلى ذلك التي كانت موجودة في السبعينيات المصرية، وتغير معها
الوسيط ذاته الذي استخدمته عطيات، فاستخدمت كاميرات الفيديو بدلًا من الخام ما
يدل على تغير سياق التلقي للتلفزيون حصريًا. نستطيع من خلال تتبع تلك الأفلام
أن نرى كيف انحسر دور الدولة، وأي من المؤسسات تدخلت لملء هذا الفراغ وتأثير
ذلك على الموضوعات التي تم تناولها في الأفلام الوثائقية المنتجة في ذلك الوقت
وعلى طرق تناولها. تشير أفلامها التي تلت أفلامها في السبعينيات إلى تطور ذلك
النموذج الإنتاجي شبه المستقل تمامًا إلى نموذج يمكن وصفه بـ«التنموي» في صنع
واستهلاك الأفلام الوثائقية. من الممكن أن نضيف أيضًا أن النشاط السياسي الوطني
التحرري كان قد خفت بدوره في مقابل خطاب تنموي تنتجه مؤسسات المجتمع المدني وهي
المساحة التي استوعبت أغلب الفاعلين/ات السياسيين/ات القادمين من جيل الستينيات
والسبعينيات خلال فترة التسعينيات في مصر، وعطيات ليست استثناء لذلك.
نور: صحيح وإنشائها شركتها الخاصة "أبنود فيلم" للإنتاج دليل على تلك التغيرات
التي ذكرتها. إضافة لذلك فإن التسعينيات شهدت أيضا صعود الشبكات الإجبارية
الدولية وما سمي بـ"صناعة إعلام عالمية" مما وسع سوق الأفلام التسجيلية التي
تأخذ النموذج "التنموي" في إنتاجها أو اهتمامات موضوعاتها. فيلم "نساء في
السنغال" (1994) ربما مثال جيد هنا لأنه من إنتاج
Women's Feature Service
وهي شريكة إعلامية أسستها اليونسكو سنة 1978 بهدف دعم وتسليط الضوء على قضايا
المرأة في العالم من حيث التمكين الاقتصادي وتطوير الخدمات الصحية المقدمة
للنساء وتفعيل الحراك بغرض تحسين ظروف النساء في المجتمعات النامية. وفيلم
"مفكرة الهجرة" (1993) الذى أخرجته بالتعاون مع حسين شريف مثال آخر، وهو فيلم
عن وضع المهاجرين السودانيين في مصر. هو من إنتاج المنظمة السودانية لحقوق
الإنسان والقراءة المصاحبة والمقابلات التي يحتوى عليها الفيلم كلها تنطق
باللغة الإنجليزية مما يشير إلى توجه هذا الفيلم التسجيلي إلى شبكات إعلامية
دولية.
رفعت: قامت أغلب أفلام عطيات في التسعينات على اهتمام بقضايا المرأة، هل لديكِ
تصور للسياق الذي أنتج ذلك بجانب الالتزام والتوجه الشخصي الواضح لعطيات ذاتها
بهذا الشأن منذ أفلامها الأولى؟
نور: كان لتوجه سوزان مبارك في التسعينيات إلى تدشين عدد من المؤسسات والجمعيات
للنهوض بالمرأة المصرية ولتنظيم الأسرة مردود في زيادة الموارد الموجه لهذه
القضايا ولذلك ربما زادت فرص عرض وإنتاج الأفلام التسجيلية التي تأخذ وضع
المرأة موضوعها. وفي الوقت نفسه التسعينيات شهدت تغيير في البنية الإقتصادية
للبلد. عندما أنظر الأن إلى أفلام مثل "نساء مسؤولات" (1994) أو "أيام
الديمقراطية" (1996) أو "راوية" (1995) أو "أحلام البنات" (1995) بالتأكيد أري
صراع النساء في مصر للوصول إلى مبتغاهن من الحريات ومن حياة بها أفق أوسع
كأفراد فاعلين في المجتمع ولكن أرى أيضا التغيرات الهيكلية التي كانت تحدث
وقتها مثل التغيرات في قوانين الأحوال الشخصية وتنظيم العمل أو العلاقة ما بين
الريف والمدن أو تغير مراكز القوى وصعود فكرة الهجرة بهدف الانتفاع الاقتصادي
وظهور رؤوس أموال جديدة. هي أفلام في رأيي تعبر عن قراءة للتغير الاقتصادي أيضا
كجزء لا يتجزأ من قضايا المرأة.
رفعت: على اختلاف تلك الأفلام يجمعها مع أفلام عطيات المبكرة اهتمام قوي
بالسياق الاقتصادي والاجتماعي ونقد مؤسسي.
نور: نعم.. مازلت أفكر في نقطة اختلاف أفلام عطيات عن باقي الأفلام التي
أنتجتها المؤسسة العامة في السبعينيات من خلال وحدتها التسجيلية، فقد أنتجت
عطيات أفلام من داخل مؤسسات مثل المركز القومي للسينما والهيئة العامة للسينما،
لكن ربما أفصحت عطيات في أفلامها الأولى خلال فترة السبعينيات عن وعي مغاير
لدور السينما في حركات التحرير وكيف للسينما أن تلعب دورًا في النضال وهذا يظهر
ربما فقط في السبعينات قبل تراجع المشروع الناصري. استوقفني تأكيدها في كتابها
"السينما الثالثة" على الفرق ما بين الفن الجماهيري والفن الشعبي وهذا جاء من
خلال ترجمة مقال خوليو جارسيا إسبينوسا "نحو سينما غير متقنه". فتكتب عطيات
تعليقا على إسبينوسا: "هذا الأخير (الفن الشعبي) إيداع أقل فئات المجتمع
تعليمًا، وعلى الرغم من هذا نجد هؤلاء غير المثقفين، نجحوا في أن يحافظوا بعمق
على سمات الثقافة الفنية الشعبية، فمثلا الفن الشعبي في الحكي أو الغناء لا
يوجد فيه خط محدد لمعرفة دور المؤديين، ودور المتفرجين في عملية الإبداع… وعلى
الفن الحديث أن يذوب لكي يصبح تراث الجميع في المجتمع، فنحن لا نستطيع أن نطور
أحاسيس الجماهير، ما دام هذا الانقسام بين ثقافتين: الثقافة الشعبية، وثقافة
الصفوة، ودون أن يتحقق للجماهير امتلاك أدوات الإنتاج الفني". اعتقد المؤسسة
العامة في كونها مؤسسة مركزية سلطوية كانت تبنى "الثقافة الجماهيرية".
رفعت: هناك وجه تشابه مبدئي في رأيي في كيف أخذ هذا الجيل الأفلام الوثائقية من
تراثها الخطابي التوعوي إلى منطقة أكثر اعتمادًا على الصور والمونتاج والصوت.
وهو ما كان واضح في أفلامهم/ن من حيث اعتماد السرد على الصور أكثر من اللغة
المنطوقة، أظن أنه عندما تتحدث عطيات أو هاشم النحاس عن "شاعرية الصورة" فهم
يحيلون إلى قدرة الصور على إخراج الأفلام الوثائقية من جمود الخطابة والمقال
إلى عالم بصري وسمعي أوسع وأكثر تعددية في إحالاته.
نور: لكن هذا يعود بنا إلى "النظرة الإثنوغرافية" وما قد يحتويه توجه "شاعرية
الصورة" من تفريغ لقدرة من هم أمام الكاميرا على التأثير والمساهمة الفعالة في
تشكيل رؤية الواقع من خلال الفيلم التسجيلي. فيبدو لي أن الشاعرية هنا قد تؤدي
إلى كاميرا يصبح كل ما هو ماثل أمامها شاعري يظهر ويختفي ويأخذ معناه من خلال
نظرة المخرجة له. سلطة المؤلف ربما هي ما يزعجني هنا وخاصة أن المخرجين في
حالتنا سواء عطيات أو هاشم النحاس كانوا الطبقة المتوسطة المتعلمة المهيمنة على
المجال العام حتى بدأت تركيبة المجتمع المصري في التغير في التسعينيات.
وكاميراتهم متوجهة بشكل أساسي تجاه الطبقة العاملة ومن هم أقل تأثيرا في المجال
العام وقتها أو تجاه بيئات نائية بعيدة عن البنية البيئية للمدن التي كان هؤلاء
المخرجين والمخرجات يعيشون فيها بالتالي علاقتهم مع التجربة الحسية لهذه
البيئات تجربة السياح.
رفعت: من المفيد النظر إلى ما نشير إليه كـ"نظرة إثنوغرافية" ليس فقط من واقع
علاقة الكاميرا بما أمامها ولكن أيضا علاقة الفيلم مع المتلقي/ة، فجزء من
التخلص من النصوص المقروءة هو إعطاء مساحة أكثر حرية للتلقي مع المادة
المصورة.
نور: حضرت محاضرة في سبتمبر 2018 في المعهد الهولندي-الفلمنكي بالقاهرة قدمتها
الباحثة ستيفاني فان دي بيير عن شاعرية الصورة في السينما التسجيلية لعطيات، هل
تتذكر أي نقاط من هذه المحاضرة؟
رفعت: ما أذكره من تلك المحاضرة هو اهتمام الباحثة بتحليل الأفلام نفسها بعيدًا
عن سياقها وهو ما جعلني أفكر عن سبب اهتمام الباحثين والباحثات ومنهم نحن
بعطيات الأبنودي دونًا عن العديد من الآخرين ممن أنتجوا أفلام وثائقية مثيرة
للاهتمام. هل للموضوع علاقة بقدرتنا على إدراج أفلامها الأولى ضمن إطار "الأفان
جارد" أو "السينما المناضلة" أو كونها من أوائل المخرجات للأفلام الوثائقية في
مصر؟ هذا ما تركتني المحاضرة أفكر فيه.
نور: دفعنا قولبة سرد الأفلام التسجيلية في شكل قصصي إلى التساؤل عن آليات
السرد الأخرى التي يطرحها الفيلم التسجيلي لتوسيع وتنويع أنواع العلاقات مع
الواقع، ومن هنا يأتي اهتمامنا بأفلام عطيات ومثيلاتها من ممارسات للسينما
التسجيلية التي تستخدم أدوات ولغة السينما المنحازة سياسيا. ويظل ساري ومهم في
رأينا السؤال الذي طرحته عطيات على نفسها وصاغ أدواتها السردية بالتبعية عن دور
السينما التسجيلي في وقتنا المعاصر.
*أحمد رفعت كاتب ومحرر ومبرمج أفلام.
*نور تعمل كاتبة ومحررة نصوص حول السينما وتعيش في القاهرة.
|