بداية الحكاية
بدأ كل شيء في أكتوبر الماضي حين سمعت الخبر، وفاة إحدى رائدات صناعة الأفلام
التسجيلية في مصر، "عطيات الأبنودي". سمعت الخبر من الفيسبوك، كوني أقضي الكثير
من وقتي اليومي عليه. وجدت العديد من أصدقائي السينمائيين -خاصةً المنتمين منهم
للجيل السابق- يشاركون منشور لصورة فوتوغرافية قديمة بها سيدة تبدو في
الأربعينات، ومكتوب تحتها أنها قد رحلت عن عالمنا. لم أكن أعلم من هي هذه
المرأة التي كان الحزن عليها كبيرًا.
في تلك الفترة كنت قد قبلت للتو في ما أعتبره الخطوة الحقيقية الأولى لي في
تعلُّمي دراسة السينما وصناعة الأفلام: الدفعة الجديدة من مدرسة سينما
الچيزويت. لن أعد هاويًا أو مُشاهدًا للأفلام بغرض المتعة فقط الآن، عليّ
بالبحث والتنقيب إذا ما رغبت أن أصبح "فيلماكير" حقيقي.
رددتُ في نفسي آنذاك:
«كيف
أريد صناعة الأفلام هنا في مصر ولم أسمع اسم هذه المرأة من قبل؟ وكيف أكون
مهتمًا بالسينما والأفلام التسجيلية بالذات، ولم أرَ فيلمًا من أفلامها؟»
بعد حوالي شهرين وفي ذروة ليلة امتحانية، أتصفح رسائلي على الماسنجر، فإذا
بصديقتي الناقدة "وفاء السعيد" تطلب مني أن أكون واحدًا ممن سيكتبون في ملف خاص
عن سينما عطيات الأبنودي، سيصدر في مجلة "عالم الكتاب". فرحت كثيرًا حينها
وشعرتُ أني محظوظ للغاية. قالت لي أنها يمكنها مقابلتي لآخذ منها النسخ فائقة
الجودة لأفلام عطيات، لأن أفلامها -وللأسف- ليست موجودة على الإنترنت.
كانت معلوماتي عن السينما التسجيلية "المصرية" شحيحة للغاية، تتلخص في فيلمين
لـ"هاشم النحاس"، وبضعة أفلام حديثة الإنتاج، كفيلميّ "البنات دول" للمخرجة
"تهاني راشد"، و"في الليلُ يرقصن" لمخرجة فرنسية تدعى "إيزابيل لافاين". لذا
كان التعرُّف على سينما مخرجة كعطيّات، يُطلَق عليها "سفيرة السينما التسجيلية
المصرية" هو أمرًا هامًا وحماسيًا جدًا.
بعد حوالي يومين، جاء أول لقاء لي مع سينما عطيات. علمتُ أن معظم إنتاجاتها
أفلامًا قصيرة المدة بين خمسة عشر وثلاثون دقيقة، وأن أطول فيلم صنعته ربما لا
يتعدى الستون دقيقة. بعدما أخذت سبعة عشر فيلمًا من أفلامها، قررت أن أبدأ
بفيلم لم أعلم أنه سيعطيني كمًّا هائلًا من المشاعر رغم أنه فيلمًا بسيطًا
للغاية في صناعته. كان الفيلم يحمل عنوان "الغرفة رقم 8" عن الشاعر المصري
الكبير "أمل دنقل"، فيه يُعرَض لقاءً تسجيليًا مع الشاعر في أشهُر حياته
الأخيرة قبل أن يتوفى مُصابًا بالسرطان في عامه الثالث والأربعون، ودار هذا
اللقاء التصويري بغرفته بمعهد السرطان بالقاهرة، وهي الغرفة التي ظلَّ بها
الشاعر فترات حياته الأخيرة كما يقول الفيلم.
الفيلم ربما هو أبسط أفلام عطيات التي شاهدتها، فمدته خمس وعشرون دقيقة، منها
حوالي العشرون دقيقة في محاورة مع "دنقل" شخصيًا. أما الوقت الباقي ففيه مقدمة
مؤثرة لوالدة الشاعر تخبر أن ولدها كان "راجل" منذ صغره، وكان متفوقًا جدًا
بمدرسته، قارئًا لكل أنواع الكتب الدينية والشعرية بينما لم يكن قد دخل
الثانوية بعد، وأنّ الجميع كان متنبئًا بشخصية "شاعر" فيه. كان من الواضح أن
هذا الإنترفيو قد صوّر بعد وفاة الشاعر بسبب حالة الحزن والدموع التي كانت
تتسرب من عينيّ الأم. وتؤكد لنا المخرجة أن فيلمها مصنوع كنوع من الرثاء والحزن
على وفاة الشاعر حين تقرر بعد تتر البداية إظهار أم الشاعر بين الشجيرات وهي
متوجهة لقبره، حزينة على ولدها.
بعدها ننتقل للابن/الشاعر في اللقاء؛ يتحدث فيه دنقل عن بداية نشأته، وشخصية
الفنان، وتأثيره وتأثره بالمجتمع، واختلافه عن بقية الصبية في صغره. كما تحدث
عن فترة ذهابه إلى العاصمة ببداية الستينيات، ومحاولته -هو وعدد من شعراء
الصعيد والأقاليم- غزو القاهرة ثقافيًا.
وفي نهاية الفيلم يأتي ظهورًا لعدد من أقاربه وأفراد عائلته مجتمعين حوله
بالغرفة، منهم زوجته والشاعر "عبدالرحمن الأبنودي" (صديقه المقرّب، وزوج
المخرجة). وينتهي الفيلم على محاورة بين دنقل وطبيبه (أ.د/محمود الشريف) فيها
يسأل دنقل عدد من الأسئلة التي تؤرق حالته.
كنت مهيئًا للكتابة، لذا فكراسة ملاحظاتي كانت تحت يديّ، وفيها كتبت هذه
الكلمات في منتصف الفيلم:
«هناك
شعور حميمي غريب بشخصية دنقل! شعور بالأُلفة أن ما أشاهده شيئًا قديمًا
وحقيقيًا من الصميم.. أبتسم الآن بينما أكتب هذه الكلمات»
كان هذا الفيلم هو الفيلم الوحيد الذي شاهدته تلك الليلة، وقررت أن ألتهم بقيّة
أفلامها في وقتًا لاحقًا.
عطيات الهاجس، عطيات الأسطورة
عندما دخلت في عوالم أفلام عطيات الأبنودي، وشاهدت أشياءً لم أراها قبلًا عن
ماضي وتاريخ مصرنا: يوميات الفلاحات، وقصص شديدة العذوبة لشخصيات فتيات تريد أن
تثور وتصبح شيئًا ما بالحياة رغمًا عن الظروف المُقوّضة لحرياتها التي نشأت
بها، أصبح هناك ما يشبه الهاجس داخلي لمعرفة هذه المرأة. بتُّ أتخيل شكلها وهي
وراء الكاميرا تضبط العدسة، أو توجه المصور لالتقاط هذا الشيء أو ذاك. أصبحت
عطيات مُتخيَّلة في كل أفلامها، أعقد مع نفسي تصوّرات عن هذا الجزء المقتطع
الذي نما خلف تصوير مشاهد أفلامها. بالطبع كان هناك آلية ما تسير عليها عطيات
لتُخرج هذه التلقائية الملحوظة جدًا على شخصيات أفلامها حينما تحاورهم. هناك
حالة "معايشة" غريبة بأفلامها، أنتَ تعيش داخله وتفهم عالم هذا الفيلم بما
يشمله من كلا النواحي الاجتماعية والثقافية والفكرية للموضوع.
لذلك، كانت عطيات -بالنسبة لي- أشبه بالأسطورة التي تعرفها من خلال قصص الآخرين
عنها. كانت عطيات -حتى هذه اللحظة- نادرًا ما تظهر بالأفلام، فقط أكون محظوظًا
حينما تقتصر الشخصية المُحاورة على الإجابة، فتظهر عطيات بصوتها موجهةً سؤالًا
آخر، أو مزيد من التوضيح.
كنت أتساءل عن نوع المعايشة التي خاضتها عطيات مع تلك الشخصيات لتظهر بهذه
الصورة العجيبة.
الكاميرا سلاحي، قوم يا فلاحي
المشاهد الحوارية في أفلامها -وإن قَصُرَت- من أقوى النقاط، هناك طابع خاص في
تلك الحوارات. الناس الذين تحاورهم عطيات لا يقتصرون على إجابة أسئلة طرحتها
عليهم المخرجة مثلًا، بل هم أقرب للفضفضة أمام الكاميرا، كانت عطيات موجودة
دائمًا.
من العجيب رؤية هذا التفاعل، بدا لي أن عطيات فاهمةً جيدًا لدور هذه الآلة التي
تستخدمها المُسماة الكاميرا، التي توثق بها جزء من حيوات الأشخاص التي أمامها.
الصورة هُنا بمثابة البرهان بأن حياة هؤلاء الناس كانت موجودة فعلًا يومًا ما،
وأعتقد أن عطيات كانت تضع مثل هذه الأفكار في اعتبارها وهي تصوّر أفلامها؛ أنّ
هذه الكاميرا بمثابة سلاح يجب أن أحمله جيدًا، وأتعلم كيفية عمله حتى أسجّل
الحقيقة التي من المهم أن يعلمها الجميع. لذا فمن الطبيعي ملاحظة أن أغلبية
مواضيع أفلامها عن أشياء مغلوطة أو مساءة الفِهم تحاول عطيات وضع الصورة
الصحيحة لها سواءً على لسان الأشخاص ذاتهم المضرورين، أو عن طريق قوة الصورة.
يتضح ذلك بالتحديد في أفلام كـ"بطلات مصريات"، و"أحلام بنات"، و"نساء مسؤولات".
تشعر بأن شخصيات أفلامها التي تحاورهم يرتاحون نفسيًا لإخراج همومَهُم
وحكاياتهم، وحكيها لعطيات. هناك مثلًا فيلمًا بعنوان "راوية" يسلط الضوء على
شخصية الفتاة الريفية راوية التي تعمل بالفخار، وهي فتاة حالمة وطَموحة لأقصى
حد. تبدو في العشرين من عمرها، وتسكن في قرية "تونس" بالفيوم، ومن الواضح عليها
أنها "فنانة" بعملها. تحكي راوية عن احتقارها من أبيها الذي تعمّد محاولة
إحراقها يومًا ماضيًا لمجرد وقوفها أمام رأيه؛ كان الأب يريد بيع مجوهرات
خطوبتها والاستنفاع بالمال له شخصيًا، مبررًا أن راوية فتاة، والفتيات لا
يستطِعن التحدث عن شيء وليس لهم آراء، وهو الأب رجل البيت وله الكلمة اللي
هتتقال، وأشياء كهذه. إلى أن حدثت الواقعة التي خرجت منها الفتاة سليمة -بعد
إنقاذها من الجيران- إلا من بعض الحروق الظاهرة على وجهها. تركت راويـة المنزل
المجثم على نفسِها، وذهبت إلى مدرسة لتعليم الفخار.
يُفتَتح الفيلم بالكلمات الآتية:
"أنا معاكي إن احنا، يعني، كويس أوي إننا نشتغل في مصر ونعمّر مصر، ومصر تكون
كويسة يعني. أنا أمنيتي إن مليون واحد هنا يتعلم فخار ويشتغل فخار، والبلد دي
تبقى كويسة أوي. بس بحس إني عايزه أسافر "وحدي"، عشان أعتمد على نفسي، يعني بحس
كده عشان عايزه أمشي وحديّا كده وأعتمد على نفسي: أشوف أنا بأعمل إيه، إزاي
هأسدّ وحديّا في الغُربة، إزاي هأعمل أكل، يعني.. بأتخيّل حاجات في مخي، وجوايا
حاجات كده نفسي أحققها".
إنهم حقًا لا ينظرون إلى الكاميرا!
أحد الأشياء التي لاحظتها والتي كانت مفاجئة نوعًا ما عليّ، أن الناس بالأفلام
التي صورتها عطيات لا يُبحلقون في عين الكاميرا كما تعوّدت عيني على ملاحظته في
التقارير التلفزيونية، والبرامج وما شابه التي تنزل وتترصد للناس في الواقع. في
بداية الأمر ظننتُ أن السبب هو صغر حجم الكاميرا، فمن المعروف -أو من المنطقي-
أن كلما كبرت حجم الكاميرا، زاد الانتباه إليها، وزادت أعداد الأعين التي
تتمعّنها. ولكن -وللمفاجئة- ما اكتشفته كان شيئًا مختلفًا كليًا؛ ففيلمًا مثل
"قطار النوبة" (الذي يصور سفر النوبيين عبر الوادي في عيد الأضحى من كل عام، من
قُراهم بأقصى الجنوب، إلى الأسكندرية أقصى الشمال) وجدت فيه ما يثبت أن لمسألة
عدم اهتمام الناس بالكاميرا في محيطهم، ما يتعدى مجرد الشكليات، إلى أشياءًا
عميقة تحت السطح: كدرجة معرفة هذا الجيل ووعيهُ لدور الكاميرا وخطورتها،
وإمكانية أن يكون هذا هو السبب أو لُبّ الموضوع فعلًا.
هذا الفيلم البديع الذي تدور معظم مشاهده في محطات القطار وسط حشود الناس اللي
رايحة واللي جايّة، فيه مثلًا مشهدًا قطاريًا لمجموعة من النوبيين يحتفلون
بزواج إحدى فتياتهم، يهللون ويصفقون، مجموعة تبلغ قرابة الخمسة عشر شخصًا، ولا
أحد فيهم مهتم بالكاميرا، بل جميعهم مندمجون في الغناء.. تخيّل ذلك!
عندما فكّرت أن الكاميرا قد لا تكون ملحوظة بشدة، تمكنتُ -وأخيرًا- من رؤية ما
بيديّ المُصوّر في انعكاس زجاج القطار بإحدى اللقطات الخاطفة لأبًا يودّع ابنته
من خارج القطار قبل انطلاقه. الكاميرا كبيرة الحجم للغاية! بل يمكن أن تكون
أكبر من أي كاميرا موجودة في السوق الآن. كاميرا ضخمة ولا أعين من كل جانب
حولها، كيف ذلك؟!
فكّرت -مرة جديدة- أن لعلّ الكاميرا كبيرة الحجم تُبعد انتباهات الناس عنها من
شدة رسميّتها (فِهمًا أنها لدواعي صحافية أو ما شابه)، أما الكاميرات الصغيرة
فهي أقرب للمُتلصصة المتطفلة على حيواتهم، وهذه من تستحق الانزعاج برؤيتها في
مكانًا كمحطة القطار، مثلًا!
تناقشت بعد مُشاهدتي لهذا الفيلم مع أحد أصدقائي على هاتف البيت، واجهته بعدة
أسئلة دوّنتها، لعل نقاشنا يفتح أبوابًا وتفسيرات محتملة جديدة.
- تفتكر الناس كانوا زمان مش خايفين من الكاميرا عكس دلوقتي عشان مكانوش لسه
مدركين لأهمية وخطورة، والدور اللي ممكن الكاميرا تلعبه؟ ولا الموضوع مرتبط
أكتر بإن الناس في مصر بقت مبتحبش تكون في حالها؟ -
رُهاب الكاميرا
سينما عطيات جعلتني أفكّر وأبحث لما الناس في وقتنا الحالي عندها "فوبيا" أو
"رُهاب" من الكاميرا؟ لأن الأمر لم يكن حاصلًا زمان..
بلغ الموضوع ذروته بعدما شاهدت فيلم عطيات "القاهرة 1000 القاهرة 2000" باليوم
التالي. يا إلهي يا له من فيلم!.. في هذا العمل التسجيلي المذهل الذي يبدأ -على
أنغام طبولٍ شرقية- بصوت "عطيات" تسرد علينا حال القاهرة عام 1000 من الميلاد
بعد إنشائها بثلاثون عامًا فقط، ثم تنتقل من خلال نقطة حديث عن انتشار الرقص
والغناء في المقاهي والأسواق آنذاك، إلى قاهريتنا الجديدة مطلع الألفية حيث
فتاة جميلة في منتصف العشرينات تقوم بالرقص بكافيه وسط مجموعة من الشباب على
أنغام أغنية "عبد القادر" للشاب خالد.
المهم، أحد مشاهد الفيلم كان داخل سوق بيع ملابس وخضراوات، وكان مشهدًا جميلًا
للغاية لسبب بسيط: قلة وجود الأشخاص المتحذلقون الذين يدبُّون أعينهم داخل
الكاميرا كأنهم يبحثون عن شيءٍ ما داخلها. جاءت المشاهد بتلقائية وعفوية كبيرة،
كأن الكاميرا ليست موجودة بالمكان. قُلت في نفسي حينها لابُد أن للأمر علاقة
بالحياة اليومية -الروتينية- لهؤلاء الأشخاص الآن، واختلاف هذه القيم والمعايير
(واختلاف أسلوب حيواتهم المعيشية أصلًا) قبل عشرون عام.
في فيديو مشهور شاهدته قبل بضعة سنين على اليوتيوب أثناء فترة الثورة
والاحتجاجات الشعبية التي تلتها، كان به مجموعة من الأصدقاء يصوّرون الزحام
الشديد لمترو القاهرة. وكانت التعليقات "أنتَ بتصور إيه؟"، "بتعمل إيه؟" من كل
جانب على الشخص الحامل للكاميرا، إلى أن -وعلى نهاية الفيديو- نفذ صبره وقال
"أصور اللي أنا عايزه وأنا حرّ"، حينها انفجر أحد الأشخاص الذي يبدو على صوته
أنه كبيرًا نسبيًا بالسن، قائلًا أنه "ليس من المفترض تصوير مصر بهذا الشكل"
(بمعنى أن الصورة البرّاقة الجميلة عن مصر هي ما يجب -وفقط- على الكاميرا
التقاطهُ) متهمًا الشاب بتصوير مقاطع لإرسالها للأخوان! رغم بساطة هذا الموقف
إلا أنه يعبر كيف يتراءى للبعض فكرة تصوير حيواتهم. و"بتصور ليه؟" هذه، رغم
إمكانية وجود عدد هائل من الإجابات لها، إلا أن أول فكرة تأتي على ذهن الشخص هي
كيفية الاستنفاع بهذه المقاطع.
شخصيًا، أرى أنه من المستحيل الآن تصوير فيلمًا مثل فيلم عطيات هذا في ضواحي
القاهرة، وفي قلب الأسواق والمولات والشوارع. والمشكلة هُنا لن تكون مقتصرة على
أن الناس لن يكونوا في حالهم ممتنعين عن الانتباه المبالَغ للكاميرا، لكن أيضًا
في أن الدولة ذاتها ربما تعتبر هذا الفعل هو فعل إجرامي! وأن هؤلاء الأشخاص لا
يملكون "تصاريح تصوير" وغيرها من إدعاءات.. هذه هي مصرنا الحالية التي تختلف عن
تلك قبل عشرون عام.
خصوصية التسجيليّات، وحالة المُعايشة قبل التصوير
وهذا يُحيلنا لطبيعة مفهوم "الفيلم التسجيلي" وخصوصيته؛ حيث هو عبارة عن شريط
سينمائي تُشاهد فيه جزء من حياة مجموعة من البشر، وربما هؤلاء البشر لا يودّون
على العالَم معرفة كامل حياتهم، بل أجزاء محددة منها، لهدف ولمعنىً معين. فصانع
الفيلم يقوم -بطريقةٍ ما- باقتحام هذه الحيوات أمامه، وعليه تعلم أن يكون
اقتحامًا لطيفًا مثمرًا، لا انتهاكًا وفرض رؤيته على الناس الذين يصورهم.
ربما من هنا نفهم قليلًا ماذا يعني أن يقوم مخرج الفيلم التسجيلي بالعيش مع
الشخصيات التي يصورها، فقد قرأت أن المخرج قد يعيش مع شخصيات فيلمه لأشهُر
طويلة حتى يألفوه، وحتى يصل في علاقته معهم إلى مرحلة عدم الاكتراث بالكاميرا،
فهم سيتحدثون لهذا الشخص لا إلى الكاميرا.
ربما من هذه النقطة بالتحديد يمكننا فِهم مقدار خصوصية وذاتية الدور الذي يلعبه
صانع الفيلم في فيلمه، فظني الآن هو أنه كما أن الأفلام الروائية تتميّز بصفات
ورؤية مخرجينها، فالأفلام التسجيلية هي أيضًا يمكن أن تتميّز بروح صاحبها؛ لأن
ما سيقوم به المخرج من حالة معايشة مع هذه الشخصيات، والتفاصيل الصغيرة الذي
سيتَّبعها، هي ما ستؤدي للنتائج. وهذا لأننا نتعامل مع "مشاعر" هُنا: أنتَ لن
تصور روبوتات مجرّدة من المشاعر، بل هم بشر يعانون، وداخلهم حكاياتٍ عجيبة يجب
معرفة الكيفية الصحيحة لإخراجها.
لماذا الأفلام التسجيلية تحتاج مُخرجات نساء؟
وبالحديث عن المشاعر، نتحدث عن المرأة! ويقال أن المرأة تفكّر بالقلب قبل
العقل، وأنها مخلوقة مليئة بالمشاعر. كيف يفيد هذا في صناعة الأفلام التسجيلية؟
إنّك ببساطة من المستحيل عليك تخيل أفلامًا كالتي صوّرتها عطيات أنها من صناعة
رجل؛ لأن أفلامها بجانب كونها جميلة وكل شيء، هي بها نوع مختلف من المشاعر، نوع
يغلبه الحنين والحميمية والرومانسية، والحب للوطن.
فإن كنا نتحدث عن مدى أهمية ودور المشاعر في التعامل مع الشخصيات المُصوَّرة
بالفيلم، فهي هنا قد تكون النقطة المحورية؛ لأن بُناءً على هذه المشاعر
-العلاقة بين مَن خلف الكاميرا، ومن أمامها- يتولد "الشكل" الذي سيُحكى من
خلاله الموضوع.
هذا شيء، الشيء الثاني هو أنّك من المستحيل -أيضًا- تصور شخص آخر غير
عطيات/المرأة أن تذهب إلى تجمعات حقوق النساء بالسنغال، وتصور النساء هناك.
تذهب إلى محل مجوهرات بـ"أثيوبيا" وتصور أصدقائها يجرّبون الحُلى المختلفة،
وتقوم بمحادثة لطيفة مع عاملة المحل هناك حين تسألها "هل انتهيتم؟"، لترد عطيات
"يا إلهي! بالتأكيد لم ننتهي، أنتي جميلة جدًا!!".. مثل هذه الأشياء لا يمكن
لرجل تصويرها.
ضع على هذا، كل المشاهد التي كانت لتكون أصعب وأطول في عملية التصوير إن لم يكن
وراء الكاميرا -أو حامل الكاميرا- امرأة لا رجل: أليس الفيلم التسجيلي حساسّ
ومعنيّ بتصويرٌ فيه نوع من الشاعرية للأشياء في الواقع؟ أحب أن أتصور أن الفيلم
التسجيلي كالحمامة أو القِطة التي ستتركك إن لم تعاملها بلطف.
ففي اعتقادي أن هنا في مجتمعنا المصري، حين ترى شابًا يحمل كاميرا ويصور أشياء
في الشارع هو شيء، وحين تفعل ذلك فتاةً هو شيء آخر. أفكار الصراع الجندري
منعكسة بشكل واضح على عملية صناعة الأفلام، لأن المخرج التسجيلي مشاكله كلها
متعلقة بتصوير الواقع والمجتمع.
لذا، فهُنا ما يشبه الاستنتاج الشخصي مُفاده أن الفنون كافة عامةً
(والسينما/السينما التسجيلية خاصةً) من الهام جدًا تواجد النساء والفتيات بها،
إن لم يكن الأفضل ذلك.
في النهاية...
حين أعود لأتذكر التجربة كلها التي خضتها مع سينما عطيات، أجد أن هناك أشياء
كثيرة تحرّكت فيّ، منها أشياء كنت مقتنع بها تغيّرت، وأخرى أشياء جديدة تعلمتها
واكتشفتها جعلتني أعيد التفكير بأفكار أفلام أريد تنفيذها.. كانت مُشاهدات
رائعة ومتعة عظيمة عليّ.
رحلة مليئة بالمشاعر، منها الجيد معظم الوقت، ومنها ما أحزنني لعدم انتشار تلك
الأفلام، وعدم تمكن أي شخص من مُشاهدتها. قدّرت السينما والتراث، وتيقّنت أن
الأفلام التسجيلية هي كنز حقيقي كان يجب صنع الآلاف الأفلام منها لنحفظ تاريخنا
المليء بالذكريات الجميلة.
أثناء مُشاهدتي لفيلم "القاهرة 1000/2000" شعرت في لحظةٍ ما أني أريد القفز
داخل الشاشة لأعيش قبل عشرين سنةً من الآن في قاهريتنا. صحيح لن يكون هناك
فيسبوك ولا مواقع لتحميل الأفلام ولا العديد من الأشياء التي تمثل يومياتي، لكن
الـ"حياة" ذاتها ستوجَد.
تعودت عيني على مُشاهدة مثل هذه التسجيليات لبلاد خارج مصر والوطن العربي، لم
أظن أني سأتمكّن يومًا ما من مُشاهدة حياة فلاحة مصرية تحكي لنا حكاية عائلتها
هي وأولادها الثلاثة عشر (فيلم الأحلام الممكنة). لذا، فكان الأمر كما لو أنني
سافرت عبر الزمن في مطلع القرن الماضي في بداية نشأة فن السينما، والانبهار
ظاهر على وجهي من رؤيتي ما يمكن وضعهُ من الواقع/الحياة على الشريط السينمائي!
لا أعتقد إن كان هناك وسيلة أفضل للتعرف على "عطيات الأبنودي" من مشاهدة
أفلامها. عطيات كانت تُضفي أجواء حميمية جدًا في أفلامها، وكأنها تكتب رسالة حب
لوطنها بينما هي مغتربة خارجه. والناس بأفلامها أيضًا كانوا يرونها كذلك:
السيدة التي تعتبر بمثابة المُصلِحة أو المنقذة أمامهم التي ستغيّر حياتهم
للأفضل، كانوا واثقين فيها وفي نيّتها، وقد فتحوا أبوابهم لها.
وكما يقول الشاعر "عبدالرحمن الأبنودي" بصوته القديم المُطمئِن، الذي يروي
علينا أكثر أفلامها التي أحببتها (فيلم "التقدم للعمق")، هذه الكلمات الرائعة
والمؤثرة:
"وفي داخل كل واحد مننا فنان. المهم، إزاي نحرره، ونخليه ينطلق، يعبَّر،
يحكيلنا عن اللي بيحسه، ويسجّلنا علاقته بالحياة". |