لم تقتبس المخرجة عطيات الأبنودي من الشعر موضوعًا
لأفلامها، لكن لغتها السينمائية والإيقاع البصري
لأفلامها يمتزجا مع سمات الشعر وخصائصه، لكن تُرى أين
هو الشعر في السينما التسجيلية لعطيات الأبنودي؟
من الصعوبة تحديد تعريف واحد جامع لمفهوم الشعر،
فتعريفات الشعر لا حصر لها، تختلف من شاعر إلى آخر
ومن ثقافة إلى أخرى، وتتطور أيضًا بمرور الأزمنة
وتعاقبات المدارس الأدبية. في تعريفه للشعر الذي
يُشبهه بالسينما يقول الشاعر ديلان توماس "كما تخرج
القصيدة تمامًا فإن كل صورة تخلق الصورة التي تعقبها
.. إذن فكما أن كل صورة في القصيدة تولد صورة أخرى،
أعتقد أن الصورة المرئية في الفيلم هي التي تولد
مثيلتها، تولدها وتتنسمها". هنا يربط توماس بين
الصورة الأدبية في الشعر والصورة المرئية في السينما
باعتبار كل منهما وحدة يتولد عنها وحدات أخرى مترابطة
تشكل المنتج الإبداعي الذي يريد المبدع (الشاعر/ صانع
الفيلم) أن يعبر عنه، وعليه فإن توالد الصور
ودلالاتها هو المشترك بين الوسيطين فتخلق حالة خاصة
لها إيقاع خاص.
تقول عطيات الأبنودي "في تجربتي الثانية أغنية توحة
الحزينة –مشروع تخرجي في معهد السينما- كنت أصوّر حرة
في الشارع، فقرر مدير الإنتاج أن يحضر اثنين من
العساكر لحمايتي في الشارع، رفضت بشدة، أنا سأحمي
شغلي، الناس يستفزهم وجود عسكري، رفضت أن أحتمي من
الناس بسلطة، أريد أن أصوّر رد فعل الناس، وفي إمكاني
شرح طبيعة عملي وهم سيفهمون"، ورود الأفعال الحرة تلك
تلخص لنا جوهر الذاتية التي تولد الشعر في سينما
عطيات. إذا أعدنا مشاهدة فيلم توحة الحزينة سنجد أننا
أمام ناس تعبر عن ذاتها في الشارع، لا لأنهم أمام
الكاميرا ولكنهم يمارسون طقوسهم المعتادة، وبعد دقائق
من المشاهدة ستنسى أنك تشاهد فيلم ولن تشعر بأن هؤلاء
الناس يوجد ما يقيدهم للتعبير عن أنفسهم لأن هناك
كاميرا، وهو ما سماه المخرج الإيطالي بيير باولو
بازوليني الذاتية غير المباشرة الحرة.
(Free
Indirect Subjectivity)
ويقصد بها ذاتية اللقطة (subjective
Shot)
وهذه هي القاعدة الرئيسة التي يثبت بها بازوليني
إمكانية وجود الشعر في السينما، ويقصد بالذاتية أن
يتخلى المخرج عن مفرداته ورؤيته ويوظف أدواته ليقدم
شخصياته بذاتية تامة، وهذا يشكل بالتدريج لغة سينمائية
متفردة وهي لغة الشعر.
"وهل يمت الذي (يحيى) كأن الحياة أبد؟"
أمل دنقل
في كتابه "كيف يحيا الإنسان" يُعرّف الكاتب لين يوتانج
الحياة بأنها قصيدة شعرية لها وزن وإيقاع وبداية
ونهاية، وعلى المرء منا ألا يكتفي بأنه يعيش القصيدة
فحسب، بل يستشعر جمالها، ويعجب بسيمفونيتها الرائقة
كأنها لحن طويل، أو نهر ينساب بهدوء ويجري في صمت إلى
الأبد. والحياة هي كل ما تملكه عطيات لتقدمه لنا، تلك
المرأة التي اختارت حياتها بنفسها وعرفت جيدًا معنى
الحياة، عرفت كيف تحيا، والمألوف والمعتاد لم يكن في
قاموسها فتشكلت بداخلها مفردات الحياة، وعندما حملت
الكاميرا لم تختر الحياة التقليدية، بل الأكثر تفردًا
والأكثر جمالاً، واختارت الناس والوجوه، العنصر الأصيل
الذي يشكّل سيمفونية الحياة، القصيدة التي لا تنتهي.
لقطة من فيلم إيقاع الحياة
في الثوانِ الأولى التي فتحنا فيها أعيننا على الحياة
لم تكن الأمور ممهدة، شاهدنا كل شيء حولنا دون ترتيب
أو تمهيد وكان علينا أن نستمر في النظر، أن نجول
بأعيننا هنا وهناك لنرى ما يدور حولنا، كبرنا وعرفنا
أنها الحياة، وبنفس المنطق نشاهد أفلام عطيات الأبنودي
التي اعتمدت لغتها السينمائية على مراقبة الحياة بعيون
للتو فُتحت على اتساعها لتراقب وتكتشف وتعرف. في
الدقائق الأولى من مشاهدة فيلم "إيقاع الحياة" لن
تحتاج أي تمهيد لما ستقبل على رؤيته، فقط حياة جديدة
لا نعرف عنها شيء في قرية تبعد عن مدينتنا بأميال، ولا
أحتاج حكاية بعينها فالصورة في ذاتها حكاية، قررت أنني
سأخوض التجربة، وعلى مدار الساعة نسيت كل شيء وغرقت
تمامًا في الحياة.
"الدنيا كورة، والكورة فيها ناس قاعدة تتفرج على
ناس... حزين يا قلبي... حزين يا قلبي ولا سعيد، والبيت
قريب ولا بعيد... ولا الهنا ليه يا زمان ناس... والهم
ليه ناس، وناس بتتفرج على ناس... والدنيا كورة"
عبدالرحمن الأبنودي
رغم أنها الصوت الرواي في فيلم "القاهرة 1000 القاهرة
2000" إلا أن عطيات الأبنودي اختارت أن تبدأ سرد حكاية
القاهرة بصوت القاهرة، ارتفع شدو الآذان يمزجه نغم
هادئ لجرس الكنسية وصوت الراديو الصباحي وضجيج
السيارات والمارة وصوت القطار والباعة الجائلين، وعلى
خلفية الموسيقى الشرقية انطلقت بصوتها كأنها تجلس بين
يدي شهريار تروي له حكاية القاهرة التي –بحسب روايتها-
منذ ألف عام مضى تمت من العمر ثلاثون.
نستمع إلى صوتها وهي تسرد الأقاويل وتحكي التاريخ،
تخبرنا أن كوكب المريخ المسمى بقاهر الفلك كان في
طريقه إلى الصعود للسماء، فسميت المدينة التي أنشأها
جوهر الصقلي بالقاهرة، تستمر في استدعاء صور القاهرة
في الماضي وأعيننا محدقة في شاشة العرض، نرى القاهرة
الحديثة التي تصورها لنا خلسة من الشوارع والميادين.
بالتدريج يختفي صوتها لأن الماضي في لحظة لامعة يمتزج
بحاضر الفيلم فلا نلحظ هذا الاختفاء، وعيوننا ماتزال
مشدوهة بالمدينة الحديثة التي نراها، نحفظها جيدًا
ونسير في شوارعها كل نهار وعشية، ونعرف أيضًا هذه
الوجوه الحزينة والضاحكة، لكننا نتابع الحياة التي
تصورها بلهفة كأننا أغراب جئنا من بعيد لنقف أمام
صندوق الدنيا. تجيد عطيات القبض على الزمن، تتحكم فيه
وتحتجزه في جعبتها ثم تطلقه لتروِ لنا الحكايات السرية
عن رحلاتها الطويلة في شوارع وحارات وقرى ونجوع نعرفها
ولا نعرفها.
من فيلم أحلام البنات
اصبر يا وابور شوية مستعجل ليه
واخد وليفي بعيد ورايح فين
يا سايق الوابور استنى متمشيش
على مهلك وخدنا معاك احنا الاتنين
يمر القطار مسرعًا وصوت احتكاك الحديد بالقضبان يرتجف
له القائم والنائم، بداخل القطار شباب وأطفال وعجائز
وأُسر مهاجرة إلى بيوتها، وعلى جانبي الطريق حقول
خضراء تمتد على مرمى البصر، وبشر لا يمهلنا الزمن برهة
لنراهم عن قرب لأن القطار سريعًا يمر. اختارت عطيات أن
تهبط من القطار وتقف هناك، عند أبنود، تلك القرية
الصغيرة التي لا يلاحظها أحد على الطريق المتجه إلى
الأقصر، وربما نسيها الحبر عند رسم الخريطة، لكنها
بهدوء حملت الكاميرا وتجولت في غيطان أبنود وبيوتها
لتصور لنا ساندوتش". في واحد من أمتع وأعذب الأفلام
التسجيلية القصيرة نتابع رحلة صناعة رغيف العيش من
الدقيق في يد النساء إلى رغيف في يد واحد من أطفال
أبنود، يحلب المعزة ليحلي الرغيف باللبن، والمعزة
تلتقط منه فتات الرغيف في لحظة بديعة تختزل فيها
الصورة دورة الحياة في هذه القرية الصغيرة، أبنود.
لم تكن أبنود هي المحطة الوحيدة التي توقفت عندها
عطيات، بل أخذتنا معها في رحلات سحرية أخرى إلى برج
البرلس، قرية شندورة بالسويس، الأقالته بغرب الأقصر،
منشية ناصر بالقاهرة، قرية تونس بالفيوم.. وغيرهم،
وركبنا القطار الذي يقل النوبيين المقيمين في
الأسكندرية في رحلة رجوعهم إلى بلادهم في احتفالات عيد
الأضحى، تبدو رحلة عادية لكنها كالكرنفال مليئة
بالتفاصيل الشيقة والحكايات والأغنيات وحقائب السفر
والوجوه المسافرة من بلاد الله إلى بلاد الله.
لم ترصد عطيات الأبنودي الواقع فحسب بقدر ما أعطته نسق
فني وإيقاع تحول معه العادي إلى مقطوعة فنية لها وجهة
نظر ورؤية خاصة، وعندما تصمت تكسب الصورة صوتًا يعبر
عنها كأنها تبث في الحياة حياة، وهو نفس الأمر في
القصيدة التي توهب الجماد صوتًا. في قصيدة "زهور" يقول
أمل دنقل:
تَتَحدثُ لي الزَهراتُ الجميلهْ
أن أَعيُنَها اتَّسَعَتْ دهشةً
لحظةَ القَطْف
لحظةَ القَصْف
لا الزهور تتحدث، ولا هي تملك عيونا، لكنه التقطها من
سكونها وبث الحياة فيها وأنطقها؛ هذا ما يفعله الشعر،
هذا ما يفعله الفن. |