كانت هذه زيارتي الثانية لـ«باريس». سبقتها زيارة أولى، في العام (
1998)
نفسه، إلى العاصمة الفرنسية، ومنها إلى «كان» ومهرجانها السينمائي الأشهر
والأكثر تقديرًا في العالم.
وهناك، في «كان»، شاركتُ في مؤتمر صحفي للإعلان عن بينالي السينما العربية،
البينالي الذي ينظمه معهد العالم العربي في «باريس»، وملأتُ استمارة تسجيل
لتغطية البينالي، وكانت «رميةً من غير رام»، قلتُ، يومها: «لنرَ.»
نجحتُ، مع العودة إلى مسقط، بعدها، في الترتيب لرحلة باريس ونفقاتها. وبالتنسيق
مع السفارة الفرنسية؛ رتبتُ لحوار صحفي مع السيد كاميه كابانا، رئيس معهد
العالم العربي في باريس.
حالت مواعيد كابانا وترتيبات رحلتي السابقة إلى مدينة «كان» دون إجراء الحوار،
وكان قد أرسل لي نسخة الطبعة الأولى من الأعمال الشعرية الكاملة لأرثر رامبو،
بترجمة كاظم جهاد، بعدما علم عن اهتمامي برامبو وترجماته في زيارته، هو،
السابقة إلى مسقط، ممثلًا ثقافيًّا للرئيس الفرنسي، جاك شيراك، وقتها.
لم ألتق كابانا، في المرة الثانية، كان الدكتور ناصر الأنصاري قد تولى إدارة
معهد العالم العربي أيامها، وصادفت العزيزتين ماجدة واصف وسلوى النعيمي في
المعهد، وكانتا عيني الجديدة إلى «باريس» التي استمتعت بها، بعد «باريس» الرحلة
الرسمية السابقة مع مدام فياب، من وزارة الخارجية الفرنسية، الرحلة التي لم
أغادر خلالها محيط الـشانزليزيه إلا قليلًا.
في ساحة معهد العالم العربي كانت شاشة عرض كبيرة، في الهواء الطلق، تعرض فيلم
«ناصر»، للمخرج السوري أنور قوادري (من بطولة خالد الصاوي وهشام سليم). على
البوابة كان النجم أحمد زكي قادما نحو مبنى المعهد، بينما عرضت الشاشة مشهد
إعلان تأميم قناة السويس العالمية، شركة مساهمة مصرية، فعلق، ضاحكا: «هذا
المشهد لم يتعد الـ5 دقائق هنا. نحن "عملناه" فيلما كاملا.» كان يتحدث عن فيلمه
مع المخرج محمد فاضل، «ناصر 56»، وقال هشام سليم إن قوادري مخرج واعد.
مع توجهي إلى المبنى الرئيس في المعهد صادفتُ ليلى علوي، وصاحت في دهشة: «أنتَ،
مرة ثانية!»، فضحكتُ، وقلت: «ثالثة.»، وكنا التقينا مرتين قبلها، إحداها في
مسقط، في عام سابق، مع افتتاح مسرح «المدينة»، بحديقة «القُرْم» الطبيعية،
والثانية في «كان»، قبل شهرين، في «درس في السينما» قدمه المخرج الكبير يوسف
شاهين على شاطئ الـ«كوت دازور»، ضمن فعاليات تكريمه في الدورة الحادية والخمسين
من مهرجان «كان».
كانت عطيات الأبنودي تتحدث مع ليلى علوي، لحظتها، فالتفتت متسائلة، وقدمتني
ليلى إليها بلطف، وشعرت بسعادة أنها تذكرتني، وسألتُ عطيات عن أسماء، ابنة يحيى
الطاهر عبد الله، وكنت أعرف أنها تولت تربيتها، فقالت: «أسماء في لندن، تدرس
المسرح.»، وتابعَت: «سأذهب إليها بعد البينالي.»
قلتُ: «لا أشعر بكثير من الحب تجاه لندن، ولكن باريس....!»، فقالت: «أنت لم
تزرها، لكي تقرر.»، ووافقتُها.
عرض المعهد فيلم «الملك غازي» للمخرج العراقي محمد شكري جميل، فحرصت على حضوره،
صحبة نقاد عراقيين، حدثوني عن فيلم «هستيريا»، لكاتبه محمد حلمي هلال، ومخرجه
عادل أديب، من بطولة أحمد زكي وعبلة كامل وعلاء مرسي، وقالوا: «سينما مختلفة،
وحساسية جديدة.» فحرصت على مشاهدته، وسألت سلوى النعيمي، فعرفتني بعادل أديب.
أخبرني أن هناك عرضًا خاصًا للفيلم في اليوم التالي، واتفقنا على حضوره.
في الصباح كان قاسم دشتي، وهو صحفي كويتي أهداني عبوة من البن المخصوص الذي
أحضره معه من الكويت، يعرب عن تحفظاته تجاه فيلم «الملك غازي» الذي أشار في أحد
المشاهد إلى الكويت بوصفها المحافظة الـ19، وقال إن الفيلم يصب في آلة صدّام
الدعائية تجاه الكويت. قلتُ إنني لم ألتفت للحمولة السياسية في الفيلم، وأخبرته
عن لقاء سابق مع هناء محمد بطلة الفيلم، منذ سنوات.
سألتني عطيات إن كنت أعرف باريس جيدًا، فقلت إنها زيارتي الثانية، ولكنني لن
أتوه، فطلبت أن أصحبها إلى صيدلية قريبة لكي تشتري خيوطًا للأسنان، وهي تنصحني
باستخدامها مع الفرشاة التي لا تكفي وحدها دائمًا، واشتريتُ أنا علكة نيكوتين
كبديل للتدخين على الطائرة.
عندما عدنا إلى المعهد كان عادل أديب قد وصل، فتحدثنا، ثلاثتنا، عن أمل دنقل
وعن عبد الرحمن الأبنودي وعن يحيى الطاهر عبد الله. انضم إلينا الكاتب الصحفي
محمود الكردوسي بعدها، وكان رئيسًا لتحرير مجلة «الفن السابع» التي أسسها
ومولها النجم محمود حميدة.
سألت عطيات عن فيلمها «حديث الغرفة رقم 8» فأعطتني أرقامها في مصر، وقالت:
«كلمني، ونرتب لإرساله إليك»، وتحدثت عن الجهد الذي استغرقه فيلمها الجديد
«أيام الديمقراطية» الذي يشارك في البينالي، واتفقنا على مشاهدته في اليوم
التالي.
في المساء شاهدتُ «هستيريا»، ثم عرضوا فيلم «اضحك الصورة تطلع حلوة»، بحضور
أحمد زكي وليلى علوي، نجمي الفيلم، ووحيد حامد، مؤلفه.
ومع نهاية العرض اقترحت ماجدة واصف تأجيل مناقشة الفيلم إلى الصباح التالي،
فأبديت تحفظي، قلت: «لن يتجمع الجمهور مرة ثانية»، فقال أحمد زكي إن الجمهور
سوف يحضر.
تعشينا في مطعم إيراني قريب من «محطة أوسترليتز
Gare d'Austerlitz»،
وقالت عطيات إنني محق، لا أحد يكون في باريس ويضيع فرصة السهر من أجل ندوة
صباحية، وأخبرتها أنني سوف أسهر وأحضر.
في الصباح، لم يحضر سوى أربعة، كما توقعت، وضمت الندوة ليلى علوي وأحمد زكي
ووحيد حامد، وكانت الأجواء متوترة للغاية، غير أننا أنهينا الندوة سريعا،
وتناولنا الغداء معا في شرفة مطعم قريب.
وفي المساء حضرنا عرض «أيام الديمقراطية» الذي حظي بإشادة نقدية كبيرة، وانحصرت
المنافسة على جائزة الفيلم التسجيلي للبينالي بينه وبين فيلم سوري، كما علمت
بعدها.
قالت عطيات إنها لن تحضر حفل ختام البينالي، بسبب مواعيد الحجز، وصحبها قاسم
دشتي في الرحلة إلى لندن، بينما بقينا، عادل أديب وأنا، لحضور حفل الختام الذي
شهد فوز عادل بجائزة لجنة التحكيم عن إخراجه لـ«هستيريا»، ونال أحمد زكي جائزة
أحسن ممثل عن مشاركته بفيلمي «هستيريا»، و«إضحك الصورة تطلع حلوة»!
ليلتها، سهرنا على ضفة «السين»، عادل وأنا، وانضم أحمد زكي إلينا لبعض الوقت،
في طريقه إلى حفل خاص في السفارة المصرية.
وفي الصباح كنت في طريقي إلى «لابوكير» التي حدثتني سلوى النعيمي عنها، قالت:
«هناك سوق للملابس، والمصريون يسمونها "أبو قير"».
لم أراسل عطيات الأبنودي، بعدها، فقد وصلتني نسخة عالية الجودة من «حديث الغرفة
رقم 8»، غير أنني في مؤتمر «تفاعل الثقافات الإفريقية في عصر العولمة» الذي
نظمه المجلس الأعلى للثقافة، في عام 2010، التقيت بالدكتورة أسماء يحيى الطاهر
عبد الله، التي تذكرت معي رحلة عطيات إليها من باريس في 1998، وأخبرتني أنها
–أسماء- قد أنهت الدكتوراه، وتقوم بالتدريس في جامعة حلوان، وأنها تفرغت
للدراسات المسرحية على حساب التمثيل. وحدثتني عن «ماما عطيات»، وعن أعمالها
الجديدة، مع وعد بإرسال تحياتي، والترتيب للقاء في أقرب وقت.
قامت ثورة يناير 2011 بعد اللقاء بشهور قليلة، وتقاطعت بنا السبل، غير أنني
ظللت أنتظر لقاء حاولنا ترتيبه أنا وعطيات الأبنودي، وشاءت الظروف أن يتأجل حتى
موعد قادم، حتما، مع بزوغ النهار القادم. |