خاص بـ«سينماتك»

 

سالو (بازوليني).. قراءة أخرى

بقلم: د. فراس الشاروط/ خاص بـ«سينماتك»

 
 
 

 

 
 
 

المستوى ذاته، في تأمليته، يقف (بازوليني) الذي يصر على انكار (إن تكون فلسفة خاصة به ) وكأنه يهزأ من انتشار ادعاء هذه المقولة، ولكن ادنى تأمل في رؤية (بازوليني) تكشف لنا إنه يمتلك فلسفته الخاصة التي سعت اكثر من أي اتجاه آخر إلى حل معضلة الذات والمحيط من زاوية فلسفية فبازوليني يسعى في رؤيته إلى الجمع بين نقيضين: الفلسفة الماركسية: التي تحرك وعيه وعقله ، والروحانية الصوفية: التي تغلف روحه وكأنه يسعى إلى المزج بين الدين والعلم في نقاط التقائهما بحسب الرؤية البازولينية التي تؤمن بوجود مثل هذه النقاط، على الرغم من نفي الطرفين لوجودها ومن هنا كان بازوليني وحده الفنان الذي” يكرمّه مركز كاثوليكي عن فلم وتحاكمه هيأة أخرى حول نفس الفلم بتهمة الالحاد والاباحبة” ، وهو أيضا الملحد الوحيد الذي اخرج فلماً عن المسيح لا مثيل له انسانياً، كما إن انشغاله بفكرة المسيح في اكثر من فيلم يوازي انشغال بونويل بالفكرة ذاتها ولها عندهما المصدر ذاته وهو البعد الروحاني العميق في فلسفيتهما  غير ان ما يميز بازوليني عن غيره هو اعلاؤه للأيروتيكي في فنه وهذا الاعلاء الذي لا يشابهه به احد، من حيث اسلوبية التناول وكمية الحضور وتكراره، يمثل عنصراً اصلاً في فلسفته الايروتيكية التي جمعت خلاصة رؤاه السياسية والاجتماعية فضلاً عن الروحية.

وتنبنى فلسفة الايروتيكا عند بازوليني على اعادة الاعتبار للجسد الانساني وإنقاذه إلى التشيء والتسليع الذي اغرقته فيه الحضارة المعاصرة ويتم هذا الانقاذ، عند بازوليني، بإتاحة الفرصة للحب ـ بوصفه جنساً ـ للحضور بكثافة في الحياة ودون أن يكون لهذا الحضور من مبرر سوى الحياة نفسها، ومن هنا يأتي تركيز بازوليني على تعرية الجسد وكشف جماليته من زاوية ذوقية خاصة، فهو يسعى دائماً إلى مخالفة العري السائد ورفضه غير أن بازوليني الشغوف بالعري والذي يرغب بصدمة متلقية والعنف في علاقته به، يغطي في فيلمه (اوديب ملكاً) عري الام، بل ويفقأ عين المتلقي عبر فقأه لعين اوديب وهذا ما يكشف الرواسب الخفية للثقافة الدينية/ الاجتماعية، حتى في وعي مناقض مثل وعي بازوليني.

 إن بازوليني” بوصفه صانع اساطير” يؤسس وعيه الفلسفي على ثنائية مستحيلة: الاسطوري/ العلمي، الغيبي/ الواقعي، الذاتي/ العام، وهو يدرك هذه الاستحالة التي تشي بالتناقص ظاهريا ولكنه يجد نقطة التقائها جميعاً في مفصل واحدٍ هو الايروتيكا، ولذا فأنه يحتفل بهذه المنحة في كل افلامه ومهما كان اتجاهها” لا لأنه يسعى إلى الواقعية او إلى تجسيد رؤاه الذاتية”  ، بل لأنه يؤمن تماماً أن هذه النقطة هي الوحيدة التي يستطيع أن يبني عليها لقاء الاضداد دون ان تكون اضداداً ،كما يستطيع من خلالها تأسيس ونقد رؤيته للعالم وصياغته الفكرية والفنية لهذه الرؤية ، بأسلوب مختلفٍ تماماً وبرؤية متفردة يقود بازوليني السياسي ـ  الايروتيكي إلى آخر الشوط في فيلمه (سالو) الذي يؤسس لفكرة  غاية في الخطورة هي أن تغطية السياسي بأدواته القمعية للجنسي لا يعني فقط أسلوباً في ممارسة السلطة وانتاج القيم الموازية لها بل هو في الوقت نفسه ممارسة جنسية منحرفة وتشويهية، تحقر الجسد عندما تجعله خالياً من محتواه الانساني وتسلبه حريته او تغر به بالمعنى الفلسفي للكلمة عن ذاته وعن محيطة، كما أن (سالو) يؤسس ضمناً لفكرة التكرار والدور التاريخي للسياسي ـ الايروتيكي، أي أن ما يحدث الان وغداً هو نفسه ما حدث أمس، مادامت القوانين التي تنظمه هي، وما دامت البنية التي تنتجه هي ذاتها وحصيلتها من القيم المشوهة لا تختلف عن حصيلة المراحل الاخرى.

غير أن هذه الرؤية التي تكتسب ضرباً من الحتمية، ليست حتمية تماماً، بحكم البنى السائدة فقط، بل بحكم النفس المسكونة بالشر اصالةً، وهنا يمارس (بازوليني) واحداً من اساليبه الخاصة المعبرة عن فرادة وعيه الخلاق وهي حوارية العلمي والغيبي في وعيه، إذ إنه يقيم حواراً مليئاً بالحركية والجدل كما هو مليء بالحياة بين وعيه السياسي، ذي الصبغة الماركسية ووعيه الروحي ذي الصبغة الصوفية، دون أن يقع فريسة لهيمنة احدهما لأنه” جعل من طرفي الحوار أداة في صياغته الخاصة المتفردة لرؤيته”.

أن بنية (سالو) الظاهرية تبدو وكأنها صرخة ضد فاشية موسوليني، مستعيناً بماركيز دي ساد في أيام سدوم، فالفلم بدءاً من العنوان ومروراً بأجوائه التاريخية وانتهاء بنتائجه الدرامية  لا يخرج عن مكانه وزمانه ظاهرياً ولكنه في الحقيقة يحقق أهدافه تحت هذا الظل القائم وتلك المسحة المكانية ـ الزمانية الصارمة. فهو يؤسس رؤيةً فيها الكثير من المثيولوجيا عندما يستعير دوائر (دانتي) في (الكوميديا الالهية) لتكون هيكلاً بنائياً لفيلمة، ويستعير آلية (أيام سدوم المئة والعشرون) لتكون مبنى حكائياً ويستعير ظروف جمهورية موسوليني الفاشية التي أقامها في (سالو) بعد فراره بمعونة الالمان ولكنه في استعاراته الواضحة كلها من هذه المصادر، يخلق كعاعدته، اسطورته الخاصة إذ لا شبه إلا ظاهرياً بين المستعير والمستعار منه، فسالو،  رؤيةً واداءً  ”لا تنتمي إلا إلى رؤية بازوليني الخلاقة حول الجنس والسلطة” تلك الرؤية التي لمح لها في معظم أفلامة، التي حظي فيها الجنس بوصفه تعبيراً انسانياً وعلامةً على الحرية، بكثير من العناية والاهتمام.

فالعلاقة الجنسية في سالو” هي رمز لأمرٍ آخر، رمز لامتلاك اشخاص معينين لأشخاص آخرين، أي لما  سماه ماركس بالتسليع - الجسد وقد مسخ إلى سلعة- السلطة لم تتغير بدلاً من أن تتعامل السلطة الان  بالأجسام وعلى طريقة هتلر القاسية فإنها تتعامل بتلك الاجسام لكن بطريقة أخرى وفي كل من الاحوال تفلح السلطة في تشوية الجسم البشري وفي تسليعه وفي مسخه إلى مجرد بضاعة للأستهلاك”.

 
 
 
 
 
 
 
 

أن أحداث فيلم (سالو) عصية على التأطير لأن الرؤية التي خلقتها عصية على التأطير هي الاخرى، فعلى الرغم من غياب الجنس، الذي ألفناه في أفلام بازوليني الاخرى، لاسيما الثلاثية (دي كاميرون، كانتربري ، ألف ليلة وليلة) فأن عناصره موجودة ولكنها موظفة في سياق نقيض للجنس منذ اول مشاهد الفلم، ففي خضم اختيارهم لضحاياهم، كان الشبان يتعرون امام السادة الاربعة في موقف لا يمت إلى الانسانية بشيء، بل أن احدى المومسات تبكي وهي تتعرى امامهم احساساً بالإذلال والمهانة، على الرغم من أن مهنتها ظاهرياً أفقدتها هذا الاحساس في تعريها ، إذ أن كل شيءٍ في هذا الفلم ينضح بالمرض والقسوة والتشوية، لا لأنه مبني على سادية دي ساد بل لأن” العلاقة الجنسية السادية هي صورة عن السلطة بشكل عام”  كما يقول بازوليني نفسه، ولذا فقد كانت الحكايات والاشخاص والرؤى المتداخلة في دوائر الفيلم الثلاث تصب في مجرىً واحدٍ هو رؤية بازوليني العميقة لتأصل الفاشية في الوعي الانساني في ظل معطيات الايديولوجيا السوقية التي تسلعّ  الأنسان وتشيئ جسده. فبازوليني يرى ان الاستهلاك ” شكل من أشكال الديكتاتورية، وصفه بالفاشستية الجديدة التي هي أخطر من فاشستية هتلر وموسوليني لأنها استطاعت أن تفرض أنماطها دون اللجوء إلى قوة السلاح، ولأنها اوهمت الناس بالخلاص والسعادة”  لقد كان العري في سالو مهيناً ولا أيروتيكياً برغم صراحته وتفصيليته، فالممثلون ظلوا عراة طوال الفيلم، ولكن هذا العري كان بعيداً تماماً عن تلك الروح الصوفية التي تميز تعامل بازوليني مع الجسد البشري، كما أن الممارسة الجنسية التي يشهدها القسم الاول من الفيلم، عندما يسقط احد الشبان واحدى الفتيات وينزو فوقها ،كان فعلاً حيوانياً حتى في طريقة الممارسة، والذي اضاف له مرارة أخرى وتشويهاً قاسياً هو قيام احد السادة بالتعري واستعراض عريه قبل أن يركع بجوار الفتاة ليقوم الشاب بممارسة الجنس مع الاثنين امام الحشد الصامت كالموتى.

لقد اراد بازوليني للجنس في سالو أن يكون وثيقة ادانة ضد الوعي المنحرف اتجاه قيمة الجسد البشري وكانت طريقته الظاهرة هي القسوة المفرطة في تمثيل هذا الوعي بكل ما فيه من انحراف وعدم معقولية ، فضلاً عن انتفاء الصفة الانسانية عنه، رغم انه يصدر، ظاهرياً، من بشر يحملون هذه الصفة.

ان الحالة الوحيدة التي اعطاها بازوليني صفة الروح كانت خارج نطاق دائرة الرعب التي بني عليها الفلم، ففي مشهد نقل المخطوفين إلى القلعة تحت حراسة مشددة تستدعي الجلبة انتباه خدم القصر فيأتون للفرجة ولكن السادة يأمرون الحرس بإبعادهم وفي اثناء الإبعاد تلتقي عيون أحد الخدم بأحد الجنود، ويختفيان من ساحة الفلم نهائياً، لكن بازوليني الذي اراد ان يقول ان الموت والرعب رهن بهذه القلعة، وان الحياة ممكنة خارج دائرتها، أعاد هذين العنصرين إلى الساحة في واحدٍ من اروع رموزه، فبعد نهاية (دائرة الدم)، التي تجري فيها عمليات التعذيب والقتل وفي اثناء استراحة السادة يفزع احدهم قائماً من فراشه كأنه حدس شيئاً ما، وينطلق هو ورفاقه في حملة تفتيش في انحاء القصر و اسلحتهم في ايديهم، وعندما يدفع احد الابواب يجد الخادمة والجندي يمارسان جنساً انسانياً يفيض حيوية وعذوبة، فيطلق النار على الحارس ويعود إلى غرفته، في ما تحتمي الخادمة في الزاوية وهي تنظر إلى حبيبها القتيل.

ان هذا المشهد الذي يمثل اتجاهاً متفرداً في السرد كما هو رمز متفرد يمثل مغزى الفلم كله فالسلطة، كما يرى بازوليني، لا تسمح حتى خارج دائرتها بقيام الجنس الانساني (الطبيعي) ومشهد استيقاظ السادة الاربعة  وهم مفزوعون كأن كارثة قد وقعت، يدل بعمق على ان الفاشية تحدس الانساني وتسعى إلى قتله وتشويه ما سواه، لأن قتل الاختلاف هو الطريقة الوحيدة لضمان وجود هذه السلطة.

وعلى الرغم من ان هذه الفكرة تماهي ما فعله (سكولا) في (يوم خاص) ولها قربى بعيدة بما فعله (برتولوتشي) في (التانغو الاخير في باريس) إلا ان هذا التشابه الظاهري عائد إلى وحدة الاصل التحليلي الذي بني عليه النقد العلمي للفاشية وهو ما درج عليه مؤلفون كبار في المانيا وايطاليا. غير ان رؤية بازوليني مغايرة تماماً لأنها كشفت قدرة الفاشية ومن بعدها السلطة عموماً على ملاحقة الاختلاف حتى لو كان خارج حدودها، ويبدو بعيداً تماماً عن التأثير على مسيرة مصالحها، بمعنى ان بازوليني نقل هذه الرؤية من كونها اختلافاً في المصالح او خوفاً عليها من قبل الفاشية، وهو ما يمكن حله بالتراضي او التصالح مع الاختلاف بشرط سلامة المصالح، اقول انه نقله من هذا إلى ان يكون عنصراً تكوينياً في فلسفة الفاشية ووعيها لذاتها، أي انها بنيت على الغاء الآخر ورفض الاختلاف، لا لأن ذلك يضر بمصالحها ولكن لأن وجودها اصلا مبني على الاحادية والانكار والنفي وادعاء المطلقية.

 ان (سالو بازوليني) يصل بالسياسي الايروتيكي إلى ذروة قاتلة لأنه يسد الطريق على كل مصالحه او سعي إلى التجزيء ، ولعل صراحته وخطابيته الظاهرية رغم البراعة الفنية والسمو اللغوي بصرياً، هي التي جعلت منه مصدر خطر على السلطة، لأنه على العكس من (برتولوتشي) يضعها في وجه المدفع ولا يغيبها ،بمعنى انه لا يعرض اثارها وما فعلته في النفوس من تدمير وتشويه بل يعرضها بوصفها عملية دمار واذلال مستمر للذات والآخر وعملية رعب متأصل يقتل الروح في كل شيء، ولذا قتل بازوليني بعد اخراجه لسالو بفترة وجيزة بيد الفاشية نفسها.

سينماتك في ـ  14 مارس 2021

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004