خاص بـ«سينماتك»

 

فيلم «رولِم».. توليفة مكتملة في عشق جدة

بقلم: خالد ربيع السيد/ خاص بـ«سينماتك»

 
 
 
 
 
 
 

نحن لا نشاهد سينما روائية بالمعايير التقليدية أو التجريبية المستحدثة في الفيلم السعودي «رولم»؛ تلك التي تحتمل الخطأ والتذبذب والنجاح في تنفيذها؛ لأن الاشتغال السينمائي المجوّد في هذا الفيلم، من كافة جوانبه، يدخلنا الى عالمه بلطافة متناهية، بل بسعادة وارتياح، فنجد أنفسنا وقد تماهينا معه وغوصنا في داخله مع ممثليه وحياتهم وأجواؤهم وكأنهم شخوص أمامنا يعيشون بيننا بكياناتهم الحقيقية، ننساق مع سرد الفيلم ونعيش في قصته وكأننا نعرف أبطاله؛ نصادقهم طوال عرض الفيلم دون تأفف أو أن نشعر بالملل منهم، ولا غرابة إذا أعدنا مشاهدة الفيلم مرتين وثلاث.

نعم، دون مبالغة، هناك نضوج فني وتقني مفاجئ يباغتنا به المخرج «عبدالإله القرشي». تلك الحرفية التي مكنته من صياغة تفاصيل فيلمه الأول؛ لا سيما وأنه فيلم مستقل عن الكيانات التجارية المتخصصة؛ بما يحيل الى تساؤل بديهي: من أين له هذه الملكة التوليفية الباهرة في صناعة فيلم سينمائي طويل (88 دقيقة) جاذب وشيق للمرة الأولى في حياته؟ وقبل ذلك المغامرة في فكرة انتاج الفيلم بالتكاتف مع المنتج «عبدالرحمن خوج»، ليحققا فيلماً لا تعتريه هفوة في لقطة أو ترهل في رسم حبكة عاطفية لأي مشهد، سيناريو متسق كتبه «ياسر حمّاد» بكثير من العناية، يسرد القصة دون وهن أو إحساس بأنه اندياح مفكك أو مرتبك. إنه توليفة مكتملة ولا مبالغة في وصفها بذلك. وفي نفس الوقت قد تكون مبالغة إذا وصفناها بأنها فريدة ومبتكرة على نطاق السينما العالمية، لأنها في النهاية قالب معروف ومجرب.

بدايةً، كلمة «رولِم»  Roll'em تلفظ (بكسر اللام)، مقتبسة من كلمة ROLL FILM وهي كلمة تقال لتشغيل الكاميرات قبل الآكشن، إذ أنّ الإسقاط في اختيار الاسم جاء للتأكيد على أنّ الكاميرات في السعودية ما زالت تعمل، وأنّ تأثّر صانع الفيلم بالمخرج يوسف شاهين الذي كان دائماً يردّد هذه الكلمة كان أحد أسباب اختيار اسم الفيلم الذي تناسب مع قصته، التي نشعر فيها بشيء من فيلم «حدوتة مصرية».

  

الجواب من عنوانه

تأخذنا المقدمة الحيوية التي يستهل بها الفيلم منذ ثواني التتر الأولى للتعريف بأبطال الفيلم وأسماء العاملين فيه. تتنقل اللقطات بديناميكية جاذبة تسترعي انتباه المُشاهِد، لقطات قريبة ومتوسطة وعامة لتفاصيل من جدة. حي البلد القديم، بيوته وناسه، مآذنه، زحام أسواقه الشعبية، باعته وبناياته، وحتى قططه وحمائمه ووجوه ناسه بثيابهم البيضاء وأشمغتهم الحمراء. الحيوية التي عهدها من يعرف جدة وعاش فيها، والنظرة الاستكشافية لمن لم يعرف هذه المدينة التي يعشقها سكانها وكل من زارها... صورة بانورامية تتكامل في لقطات سريعة؛ يرافقها ابتهال ديني يترنم به طلال مداح (يا رب أنت الواحد الأحد؛ مالي سواك ومالي من ألوذ به. وليس غيرك يا رب لي السند) بإيقاع استحدثه الموسيقي «محمد ناصف» ليخرج به عن كليشة توظيف مقاطع من أغنيات طلال مداح العذبة في الافلام السعودية بطريقة مجانية؛ وليضفي طابعاً صوفياً حديثاً وحميمياً.

ثمة لذة بصرية؛ ثمة دهشة ناعمة؛ ثمة حركة حيوية مستلة من الحياة اليومية، وأيضاً ثمة رصد صادق من القرشي مع مدير تصويره «فادي أبوعلي» لتفاصيل كثيرة قد ينتبه لها المشاهد من ثقافات أخرى وتغيب عن المشاهد القريب بسبب الاعتياد والألفة، تفاصيل يهيئنا بها المخرج للدخول الى عالمه بوتيرة اشتغلها مونتير حاذق «محمد بكر» بقدر عالي من الكفاءة.

ربما من يدمن السينما يعرف أن الافلام المحنّكة تُعرف من مقدماتها (تتراتها)؛ لقطاتها الأولى المفعمة بالروح الفنية الصادقة التي تُحضّرنا لاستقبالها، وفيلم «رولِم» هيء وجدان المشاهد منذ شاراته الأولى؛ ليدلف به إلى عالم من الرومانسية الكوميدية الاجتماعية الخفيفة Light Comedy Social Romance بلغة تلامس حساسية الواقع دون تكلف، مؤثرة ونافذة الى القلب.

 

تأصيل الهوية

نتوغل في هذا العالم بروح العصر؛ لأنه يمثل شيئاً من حياة شبابه في مدينة جدة؛ أنماط الحياة Lifestyles والتفكير؛ الابتعاث والتعلم في أمريكا وأوروبا وما اكتسبوه من فهم للبحث عن خصائص الثقافة والإرث والنظرة للمستقبل في بلادهم، والقلق لصنع قيمة ما. إدراك أهمية العمل المختلط المتحضر، والنظرة للمرأة؛ الوعي بالدور المنوط على عاتقهم، شباباً وفتيات.. كلها مفاهيم مستجدة على الواقع الاجتماعي السعودي، هي بالتأكيد منطلقة من منظومة رؤية المملكة الحديثة؛ نلمس تجلياتها في الفيلم دون مباشرة مقصودة.

قد لا يلتفت المشاهد المحلي لأهمية القصة في مستواها الظاهري، رغم أنها تحمل بعداً عميقاً في مسألة تأصيل الهوية والبحث عن روح المكان وتأثيره السيسيوثقافي (الاجتماعي الثقافي) والتاريخي على المجتمعات المدنية من جهة تغٌير وتطور المفاهيم. ورغم البعد التوثيقي لعدم الاهتمام الرسمي بوجود دور السينما في العقود الماضية، وبالتالي موت أحلام بعض السينمائيين اللذين تنحّوا عن الطريق (كما حدث مع عم فريد في الفيلم)، لكن الحبكات التي نسجها السيناريست والاساليب التي اتبعها في الميزانسين المدروس؛ والتكوينات البصرية البليغة، والكوادر المتوازنة (خصوصاً داخل محل الأنتيكات) والفريمات التي نسجت خيوط الفيلم من حركة الممثلين والكاميرا والديكور والإضاءة وكل محتويات المشهد. ثم شريط الصوت وتداخلات المؤثرات الصوتية والموسيقية التي تميز أفلام الرومانسية الكوميدية... تلك هي الأمور الملفتة في تحقيق هذا الفيلم. لكن أحداث القصة في حد ذاتها مرآة لروح شباب رؤية المملكة، بكل تطلعاتها، إلى بناء انسان سعودي عصري متوائم مع سياقات جودة الحياة التي تنادي بها وتعمل من أجل تحقيقها الرؤية.

 

ليست قصة عمر بل جيل بأكمله

 مع اندماجنا في الحدوتة بصحبة "عمر" ـ الممثل التلقائي المتمكن «خالد يسلم» ـ الذي يعمل في شركة لإنتاج وإخراج الإعلانات مع شريكه "مهند" «نايف الظفيري»، منذ اللحظة التي يشرع فيها لتصوير إعلان لمنتج استهلاكي (شاي) خال من الروح والمصداقية من أجل كسب رضى ومال العميل، لكنه يرفض الاسلوب الاعلاني المباشر ويتمسك بمبدئه، بأن عليه إظهار الناس وأهل البلد على حقيقتهم، كيف يتناولون الشاي وما يمثله في حياتهم اليومية، فهم الذين يستهلكون هذا المنتج.

في خلفية شخصية عمر نعرف أن مدينة جدة كان لها دوراً في تشكيل وجدانه وعلاقته بحبيبته "لينا" «سارة طيبة» بأدائها الطبيعي المتقن. وهكذا يأخذه البحث مع صديقه "سليم" «سليم الحمصي» بأدائه المقنع، وزميلتهما "هالة" «فاطمة حسين» بروحها العذبة، لجدة التاريخية باحثينً عن مواقع تصوير وصور قديمة لإعداد إعلان تجاري، وتقوده الصدفة للقاء عم فريد (الممثل المتميز شاهر القرشي، رغم أنها المرة الأولى التي يمثل فيها)، المصور السينمائي الناصري المتقاعد الذي عاش أيام اشتعال جذوته في فرنسا والقاهرة في أواخر السبعينيات، عندما أحب "صوفيا" «فاطمة البنوي» وصور لها لقطات خالدة في ذاكرته وفي شريط 8م وانتهى به المطاف في متجر الانتيكات في حي البلد القديم، ليلتقي به عمر وينتقل بنا الفيلم إلى سياقات أخرى أكثر عمقاً.

هذه السياقات هي الاساسية التي أرادها «ياسر حمّاد» و«عبدالإله القرشي» من قصتهما التي تروي رحلة عمر في البحث عن ماهية جدة، عن روح جدة، وقبل ذلك عن قيمة وجودية لعمر ذاته؛ وعن حكمة العم فريد الذي يمثل جيل سابق خاض تجارب مبتورة في صناعة الأفلام. فيستلهمها عمر من احباطات جيلهم ويغذي بها طموحات جيله؛ تماماً كما أراد المخرج المصري «تامر السعيد» في روايته لفيلمه «آخر أيام المدينة»، أو كما جاء على لسان عمر نفسه: أبغى أحكي عن جدة زي ما كان يوسف شاهين يحكي عن الاسكندرية في أفلامه!

بالطبع لن تفوتنا ديناميكية الصورة وحيويتها بلقطات سريعة تتنوع بين قريبة ومتوسطة تنقل لنا ذلك النبض الذي نستشعر منه عشق عمر لمدينته وبالتالي إحساس المخرج وحنكته في التنقل، بما يضفي حيوية تمهد لمشاهد الفيلم الأولى؛ مع مدخلات الموسيقى التعبيرية، وكل ذلك قد يذكرنا بأفلام الأمريكي آدم ساندلر ـ Adam Sandler، ربما، أو جيم كيري ـ Jim Carrey، ليس من جهة الطابع الكوميدي الرومنسي الخفيف؛ ولكن من جهة نوعية الايقاع والطابع العام للفيلم، هكذا الذاكرة تحيل الى تلك الأفلام، أو ربما تذكرنا بروح أفلام الممثل المصري أحمد حلمي المقتبسة عن أعمال أمريكية أو حتى أفلام ياسمين عبدالعزيز بلطافتها، وأيضاً أفلام جوليا روبرتس ـ  Julia Robertsـ من ناحية المستويات المتفاوتة للمشاعر التي تأخذنا إليها...على أية حال؛ أياً كان ما تقودنا إليه الذاكرة إلا أننا هنا في حظرة فيلم سعودي ينتهج هذا القالب الشيّق والذي لا يخلو من مرح وجدية غير حادة في ذات الوقت، على اعتبار أنها احدى سمات شباب جدة وبناتها؛ بلغتهم ومصطلحاتهم وبنبرة أصواتهم في نطقهم ونطقهن للكلمات.

 
 
 
 
 
 

كاميرا حرة وممثلون متحركون

تلصص الكاميرا عبر سينوغراف مواقع التصوير تبدو سلسة ومنسابة بانسجام، وظهور الأبطال بطريقة انسيابية وهم في حالة حركة وسير على الأقدام وتبادل الحوارات القصيرة في موقع التصوير الداخلية وفي المشاهد الخارجية، منفذة بحرية وأريحية، فيما عدا بعض الحوارات لـ "لينا" و"هالة" إذ لا يتبين المتفرج بعض الكلمات التي ينطقونها، وهنا يستلزم الأمر التدرب على نطق الحروف والكلمات بالاعتناء بالإلقاء وبمخارج الحروف ووضوحها والتخلي عن النطق الأخنف المصطنع.

مشهد استدعاء عمر الى مركز الشرطة، يكثّف التركيز على أزمة عمر التي بدأت تأخذ منحى أكثر ضغطاً على نفسيته، لكنها حبكة موفقة، وبناء درامي متصاعد؛ منطقي وجاذب. ثم تلك اللقطات المتعددة الزوايا في المشهد الواحد. الحوارات المتسمة بالطبيعية وعدم الخطابية أو الاستعلائية تعمل على تقريب المشاهد من أجواء الفيلم. أخذت كل تلك العناصر تتكثف لتأخذنا الى مكونات شخصية عمر، بل أن تلك الايحائية في خلافه مع حبيبته لينا تبلورت لتصل إلى صراع وجودي بعد تصاعد أزمته معها.

سنلحظ أن «خالد يسلم»، الممثل، يمتلك ثقة عالية بالنفس. إنه يكشف عن لاوعي الشخصية بعفوية تامة إلى حد أن أداؤه بالكاد يبدو تمثيلاً، وفي المقابل يعرف القرشي كيف يديره ويوجه بوصلته الحساسة... إذن عمر مضغوط من واقعه، متأفف، متأزم، بلغ مرحلة اكتمال الأزمة النفسية الخانقة؛ يلخص وضعه بأنه منذ سنتين لم يحقق شيئاً؛ لم ينجز عملاً راض عنه؛ لا يجني المال، ومع ذلك يدخل توقيف مركز الشرطة.

"لينا" احدى الفتيات اللاتي نشاهدهن في مولات وكافيهات جدة، مرحة؛ متفائلة، باسمة وساخرة ومتعقلة؛ لكنها مستاءة من تصرفات عمر والحالة المزاجية التي تلبسته. تريد أن تأخذ هدنة من كل هذا التوتر المحيط بها، وعمر يفرغ عليها ما في داخله من تقلبات. نشاهد لقاء متوتر وحميم يجمعهما في الكافيه، أداء غائص في الشخصيات، يرسمه سيناريو مجود لتخبر عمر أنها سوف تسافر.

يتفجّر الغضب والسخط والنفور والعنف المضطرم في داخله، ويمنحه الفرصة لتحقيق ذلك الهاجس: اكتشاف جدة، ليست لأنها مدينته التي أحب، ولكن لأنها المدينة التي هزمت، رسمياً، الجيل السابق بمنعها لهم في تحقيق أحلامهم السينمائية، وهنا وجد القيمة التي سيضيفها لهم، بأن يجهز "الحوش" الذي ظل مهملاً أربعين عاماً ويعرض فيه فيلمه.

 

سوء ترويج يظلم الفيلم

كل ذلك البناء الدرامي والتقني والفني لم يستثمره صناع الفيلم في تهيئة الجمهور لاستقباله عند عرضه في دور السينما بجدة، كأول فيلم سعودي يعرض تجارياً، لم يسعى صناع الفيلم لمشاركته في المهرجانات الدولية والاقليمية، عدا مهرجان وحيد، مهرجان العين السينمائي، وبالتالي فقد الفيلم بريقه، لأنهم لم يحسنوا لغة الدعاية والترويج التي تؤجج تشوق الجمهور للمشاهدة. للدرجة التي لم يبقى فيها الفيلم في دور العرض سوى أيام قليلة معدودة، وبالتالي ظن الكثير من الجمهور اللذين لم يشاهدوه أنه فيلم هش ومترهل وضعيف، فكانت المفاجأة عندما عرض في المنصات الالكترونية. لذا من المناسب الآن مشاهدة الفيلم والاستمتاع به ومحاكمته بإنصاف.

نعود إلى عمر الذي يجد ضالته في عم فريد، صاحب متجر الانتيكات، مخزن الماضي المليء بالحكمة، آلات التسجيل والكاميرات، مستودع صور جدة القديمة، وفي الخلفية تغني أم كلثوم وعبدالوهاب. وتدور حوارات هي الأروع بين عمر وفريد، يشجعه لإنتاج فيلمه ويتحمس معه لتهيئة مكان لعرضه.

 

انتصار حميمي

ينتصر عمر وينجح في تجهيز الحوش لعرض فيلمه، فيؤمن به الجميع، حبيبته، والدته ووالده، العميل الذي رفض التعامل معه، حتى رجال الشرطة اللذين اعتقلوه، ويتقاطر جميع معارفه للمشاهدة في لقطات تعبر عن ايمان الجمهور بما صنع، عن شوقهم لوجود صالات العرض السينمائية، باعتبار أن الفيلم أعد قبل السماح بإنشاء الصالات السينمائية، حضروا كل هؤلاء فيما غاب عم فريد، وان كان حرياً أن يشهد تحقيق حلم عاش من أجله أربعين عاماً. 

يقول عم فريد: "سر حلاوة جدة في حبها، لأنها حترجع تبادلك نفس الشعور، لازم تفتح لها قلبك عشان تفتح لك بابها"... "فهمك لجدة هو فهمك لنفسك، وكل واحد عنده جدة حقته"... "الناس اللي بتتكلم وتقول حترجع جدة؛ هم إنتو؛ احكوا عني واحكوا عنكم واحكوا عن جدة".

سينماتك في ـ  15 يوليو 2021

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004