خاص بـ«سينماتك»

 

مهرجان كان الـ ٧٤

عودة أصغر فرهادي الى مهرجان كان بفيلم هو الأفضل له من عشر سنوات

هدى إبراهيم - من كان/ خاص بـ«سينماتك»

 
 
 
 
 
 

يعتبر شريط "بطل" أحد الأفلام الأربعة وعشرين المرشحة بقوة لنيل السعفة الذهبية لمهرجان كان السينمائي في دورته الرابعة والسبعين والى جانبه الفيلم الياباني "قيادة سيارتي" للياباني ريوزوكي هاماغوشي.  هذه الدورة، دورة ما بعد الجائحة وأول تظاهرة سينمائية بهذا الحجم منذ ما يقارب العامين، اتسمت بعدد كبير من الأفلام الجيدة والتي تنسم المشارك فيها أجواء جديدة حلت على السينما كما على كل شيء في هذا العالم.

وتعلن جوائز مهرجان كان السينمائي ال ٧٤ هذا المساء.

المخرج الإيراني أصغر فرهادي يحاول دائما أن يرتقي بالسينما التي ينتجها الى مكانة أقرب ما تكون للحياة وهو في أعماله جميعا انتهج سينما واقعية شعرية حوارية مبنية على أحداث مستقاة من المعاش، وبنى شخصيات عادية يمكن ان تصادفها أينما اتفق، لكنه جعل من هذه الشخصيات العادية أبطالا فوق العادة وهذا هو حال رحيم الذي يؤدي في شريط "بطل" الجديد، دورا من أجمل الأدوار الرجالية في مهرجان كان هذا العام وحيث عاد فرهادي ليصور شريطه في إيران بعد فيلمين أقل تميزا أنجزهما في فرنسا واسبانيا مع كبار الممثلين في البلدين.

في هذا الشريط الجديد يكسب فرهادي عمله تلك القوة والحنكة والقدرة على التأثير في المشاهد والتي اعتدنا عليها في أعمال له رأيناها ما قبل العام ٢٠١١ وخصوصا في شريطه الأبرز "زواج نادر وسيمين" الذي كفل له الفوز وقتها بجائزة الدب الذهبي أرفع جائزة في مهرجان برلين السينمائي.

في شريطه التاسع يتخطى فرهادي في الجودة وحسن التحكم الأعمال الثلاثة التي أنجزها منذ ذلك الحين وهي: "الماضي"، "الزبون" و "الكل كان على معرفة". مرة أخرى يغوص فرهادي في صميم المجتمع الإيراني ويلقي نظرته الخاصة عليه وهي نظرة دقيقة تشرح هذا المجتمع وتظهره قاسيا وبلا رحمة بينما بطله "رحيم" يسعى جاهدا لإنقاذ نفسه والعودة الى عائلته دون أن يتمكن لأن الأنظمة السياسية والاجتماعية تحول بينه وبين ذلك.

ويصور المخرج في تحليل دقيق تركيبة المجتمع الإيراني وطبيعة الصلات التي تربط بين الأفراد والأقرباء كما يعرج على تأثر هذا المجتمع كما الكثير من مجتمعات العالم، خصوصا تلك المتقدمة اليوم، بما يروج له على وسائل التواصل الاجتماعي. كما يصور الشريط طبيعة التحدي الأخلاقي الذي تفرضه الحياة على الشخصيات كافة وكيفية تعاطي كل واحد مع هذا التحدي. فمن خلال واقعة عادية يبني المخرج حبكته مسائلا مرارا وتكرارا نفس القضية وفي كل مرة تحت ضوء مختلف أو من وجهة نظر الآخرين. يرسم دائرة ثم يرسم حولها دوائر أخرى أكثر اتساعا لكنها تحتوي الدائرة الأولى وهكذا.

رحيم، شاب خطاط، اقترض مالا لينشئ شركته الخاصة به لكنه يعجز عن النجاح في ادارتها ولا يتمكن من رد المال الذي اقترضه في المهلة المحددة. وهو لم يقترض من شخص غريب وإنما من أخ زوجته، لكن هذا الأخير يقوده الى السجن بسبب عجزه عن السداد ويجبره على تطليق زوجته. هذا كله نفهمه من سياق الشريط. ويؤدي أمير جديدي دور رحيم المبتسم دائما رغم مشاكله وهمومه، وهو مرشح عن دوره هذا لجائزة أفضل ممثل.

 
 
 
 
 
 

ترافق الكاميرا رحيم على مدى يومين، من لحظة خروجه من السجن في مأذونية خاصة الى اللحظة الأخيرة من تلك المأذونية. وتؤسس الصورة في لقطات أولية وختامية طويلة لفصول الفيلم. ففي البداية يقصد رحيم الى مكان عمل زوج اخته يصعد نحو عشرة طوابق لسلم شيد حول بناء أثري يتم ترميمه لكن وبمجرد ان يصل يدعوه صهره للنزول.

"بطل" عبارة عن رحلة الصعود والهبوط هذه لرجل يخرج من السجن وكله أمل بأن يتمكن من جمع المال اللازم لسداد دينه وبالتالي اسقاط الدعوة المقامة عليه قبل أن يفشل مجددا ليس لأنه قصر في بذل الجهود، بل لان كل من حوله أو يكاد وضع العراقيل في دربه عن قصد او عن غير قصد.

يشتغل أصغر فرهادي دائما على هذه الحدود الملتبسة بين فعل الخير وبين اقتراف أعمال سيئة أو لا أخلاقية فسينماه مبنية دائما على سؤال أخلاقي وهو يحاول باستمرار، عبر شخصياته، كما بطله الخطاط هنا، إعادة رسم هذه الحدود وفق اعتبارات تنبع من واجب مراعاة كرامة الانسان وحقه في معاملة عادلة قبل كل شيء، قبل الأخلاقيات والقوانين الوضعية والسماوية وهو يبحث دائما عن وجه الحقيقة الأقرب الى العدل والحق وسط كم من الأكاذيب والشائعات.

ويبني المخرج سينماه وفق طبقات تتصل بعضها ببعض ويحفر فيها بحرفية باحث في جيولوجيا المكان. كما يتحكم أصغر فرهادي بحبكة فيلمه الى الحد الأقصى، وكذلك بإدارة ممثليه. وهو يدخل الحدث في كل مرة في خانة جديدة أو وهو يبني فيلمه كخزانة ملأى بالجوارير، كلما فتح منها واحدا استدعى فتح الآخر. كل ذلك في أجواء مشوقة تجعل الحدث العائلي الخاص إنسانيا بامتياز وذي طابع شامل. كما أنه في التفافه على تفاصيل الحدث وحيثياته او تقديمه في صياغاته المختلفة يدخل السينما في نوع من العدم الكفكاوي الذي لا يخلو من مفاجآت.

ويعود فرهادي في هذا الشريط الجديد الذي تدور أحداثه في مدينة شيراز لمعالجة موضوع أثير على قلبه وهو موضوع العلاقات الأسرية والارتباط العائلي، كما يصور المجتمع وأحكامه التي تقيد شخصياته وتفرض عليها شروطا قاسية، تماما كما السلطات السياسية الممثلة في الشريط بإدارة السجن التي تبدو في حالة دفاع عن النفس امام حقيقة سوء معاملة المساجين وشبهات الفساد التي تعتريها.

كل ما في القصة أن رحيم المسجون بسبب ديونه المتراكمة يعيد حقيبة أضاعتها صاحبتها وفيها قطع من الذهب عثرت عليها صديقته التي يحبها ويعتزم الزواج بها. ويكون أن تمنحه إياها ليسدد جزءا من دينه لكنه في النهاية يرفض ويقرر البحث عن صاحبة الحقيبة. أمانته واعادته للمال تثير من حوله الشكوك والتساؤلات وفي النهاية لا يصدقه أحد الا تلك المرأة التي تحبه وأسرته الممثلة بابنه وأخته وزوجها.

رحيم الذي ظلمه واقعه مرتين كان يأمل بأن تساهم أمانته في اعفائه من السجن لكن أمانته تحديدا هي التي اعادته اليه. لقد أصبح عدم الأمانة هو السلوك السائد في مجتمع اليوم بينما يدفع الشخص الصادق ثمنا غاليا لأمانته وصدقه، هذا ما يحكيه فيلم أصغر فرهادي.

سينماتك في ـ  17 يوليو 2021

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004