خاص بـ«سينماتك»

 

مهرجان كان الـ ٧٤

مهرجان كان 74: قراءة في الجوائز وفي مفاجأة السعفة

هدى إبراهيم - من كان/ خاص بـ«سينماتك»

 
 
 
 
 
 

شكل فوز الفرنسية جوليا ديكورنو Julia Ducournau عن فيلمها "تيتان" مفاجأة للنقاد ومتابعي المهرجان الذين واظبوا على حضور كافة أفلام المسابقة الرسمية، وفوزها لم يكن يتوقعه أحد لكنه يأتي ليذكرنا مرة جديدة بأن لجان التحكيم وفي أفضل مهرجانات العالم لها دائما ذوقها الخاص ورؤاها وبالتالي أحكامها واختياراتها التي تخضع بشكل مباشر أو غير مباشر، مقصود أو لا واع، لحسابات دقيقة واعتبارات هي ابنة حقبتها، بل وليدة لحظتها التاريخية.

 

قبل وبعد

وعموما فإن الفن بمختلف تجلياته وأشكاله وتياراته، يخضع دائما لتطورات وعمليات تقييم على علاقة بتحول المجتمعات وإعادة التشكيل المستمرة لوعيها بالنظر الى وقائع واعتبارات تظل في تحول دائم ومسعى نحو ما يعتقد أنه الأفضل. وكما الفن يعتبر مؤثرا وأحيانا سابقا للمجتمعات، الامر كذلك بالنسبة للفن الذي يتأثر بحركية المجتمعات وتحول مفاهيمها. مهرجان كان السينمائي ليس بمعزل عن هذه الجدلية وهو ظل على مدى عقود خير ممثل لتجليات المجتمع وأحيانا السياسة وكثيرا الحياة.

كان لا بد لمهرجان كان ومثله كل مهرجانات العالم السينمائية الكبرى أن يراعي أمورا هامة لناحية محاولة المساواة بين الجنسين ولمحاولة عرض أكبر عدد ممكن من أمال النساء خاصة وأن المهرجانات كانت مجحفة في حقهن وحق أعمالهن ونسبة تمثيلهن. كما أن حركة مي تو مرت من هنا ولم يعد بالإمكان تجاهلها أو تجاهل الهزة التي احدثتها في الوسط الفني العالمي وفي أخلاقيات المهنة وشروط التعامل بين الجنسين بشكل يكفل المساواة ولا يغلب بأي شكل من الأشكال جنسا على الآخر. لقد كانت حركة مي تو بمثابة الثورة في الوسط السينمائي خاصة في الولايات المتحدة تبعتها ثورات صغيرة في أوروبا وبات ما كان مسكوتا عنه، أمرا مطروحا للنقاش في الساحة العامة.

وسط كل هذه التحولات انعقدت الدورة المنصرمة من مهرجان كان السينمائي ورغم تصريحات تييري فريمو المفوض العام للمهرجان بأنه إذا وضع أمام خيارين لفيلمين متقاربي المستوى أحدهما لرجل والآخر لامرأة فإنه يختار دائما فيلم المرأة. مع ذلك فإن المسابقة الرسمية التي تضمنت 24 شريطا لم يكن فيها سوى أربع مخرجات. لكن أمرا ما حصل ورأينا آثاره في الأعمال المقدمة. لقد باتت الشخصية النسائية في الأفلام فاعلة أكثر، تقوم بأدوار كبيرة مؤثرة ومميزة تتماهى والدور الذي تقوم فيه المرأة بالمجتمع وحضورها في كافة ميادين الحياة. أما المسابقات الأخرى فتضمنت عددا أكبر من أعمال المخرجات كما في تظاهرة نظرة ما وفي أسبوعي المخرجين وأسبوع النقاد.

 

السعفة لامرأة للمرة الثانية فقط في كان

أمام هذا الواقع المستجد، توجب على مهرجان كان أن يقدم المرأة في كافة الصعد وقد كثف المهرجان من الإشارات فخصص مثلا فيلما وثائقيا عن الممثلة الأميركية أوليفيا دي هافيلاند التي ترأست لجنة تحكيم المهرجان عام 1965 وكانت أول امرأة تترأس اللجنة وتلتها 11 امرأة بينهن صوفيا لورين (1966)، انغريد بيرغمان (1973) جان مورو (1995 و1975)، فرانسواز ساغان (1979)، ايزابيل ادجاني (1997) وجين كمبيون (2013). جين كامبيون الوحيدة بين المخرجات الحاصلة على سعفة مهرجان كان السينمائي حتى يوم السبت الماضي اليوم صار هناك سعفتين للسيدات.

هذه الوقائع هي التي دفعت من دون شك المخرجة النمساوية وعضو لجنة التحكيم جيسيكا هوسنر للتصريح بأنها "سعيدة لكون المرأة هي من نال السعفة الذهبية هذا العام". تصريح ينم عن رغبة عامة ويعكس جوا عاما في أوروبا وفرنسا يحبذ الفكرة. وفي أوساط المهرجان كذلك، لكنها رغبة عميقة وليست توجيها وكأنها صك براءة يقدمه المهرجان للمرأة نوع من اعتذار. وتجدر الإشارة هنا إلى أن جين كامبيون حين حصلت على السعفة عام 1993، حازتها مناصفة وليس بمفردها. أما جوليا ديكورنو فهي أول امرأة تحصل على السعفة كاملة ولها وحدها. هي إذن إشارة أخرى أرسلها المهرجان تشير إلى انفتاحه على سينما التجاوز والتخطي والتجديد.

وإضافة الى البعد النسائي الذي حبذه المهرجان وحبذ مكافأته هناك أيضا وهو الأمر الذي انعكس في كمية الأعمال الفرنسية المقدمة للمهرجان هذا العام. كان هناك رغبة عامة في إجازة السينما الفرنسية، هذه السينما المضادة للمثال الهوليوودي والتي تدعم انتاجات الكثير من سينمات العالم بما يشمله ذلك من حسنات ومضار. وقد حضر ما يزيد عن عشرين مخرجا فرنسيا في مختلف تظاهرات كان وتمثل الحضور الفرنسي أيضا بإنتاج مشترك لمخرجين كبار مثل ويس أندرسون او غيره أنتجتهم فرنسا.

 
 
 
 
 
 

خلاف لجنة التحكيم

بدا واضحا في التصريحات التي تلت منح الجوائز، أن لجنة التحكيم اعتراها الخلاف حول عدد من الجوائز وكانت النتائج التي أعلنتها عبارة عن مجموعة من التنازلات خرجت في النهاية بنتيجة معينة لن ترضي الجميع ولم تحقق من حولها الاجماع بخصوص فيلم ليس مصنوعا لكل الناس بسبب انتمائه لسينما الرعب.

لكن المخرج سبايك لي الذي ترأس لجنة التحكيم أكد أنه وقع في غرام هذا الشريط فعليا ولم يمنح الجائزة لمخرجته على أساس أنها امرأة.

 

فيلم يستحق جائزة وليس السعفة

ربما تكون هذه المرة الأولى التي يكافئ فيها مهرجان كان السينمائي شريطا يمزج بين سينما الرعب وبين الفانتازيا، أقله فإن ذلك لم يحصل منذ 30 عاما هي تاريخ متابعتي للمهرجان. من هنا المفاجأة، خصوصا وأن الفيلم في جزئه الأول عنيف جدا وتضطر حياله أحيانا أن تحفي وجهك في انتظار مرور المشهد وقد دفع ذلك عددا من مشاهدي الفيلم في عرضه الأول لمغادرة القاعة لإحساسهم بالضيق وإغماء البعض.

الفيلم راديكالي قائم تماما في العالم المتخيل وهو ليس مصنوعا ليفهم وإنما ليحس، وإذا ما تخطينا جوانب العنف والقتل والموت التي هي خصائص عمومية في سينما "الغور" نجد أن الشريط يحتوي على جوانب سينمائية رفيعة وتقنيات صنع عالية وحرفية للغاية ومجددة أيضا. كما أن الأداء التمثيلي لكل من آغات روسيل وفانسان لاندون يعتبر أكثر من رائع.

بطلة الفيلم هنا، طفلة في البداية، تخضع لعملية جراحية وتزرع لها مادة التيتان في رأسها بعد حادث سير، تصبح بعدها عاشقة لملامسة السيارات ويصور أحد المشاهد ممارستها الحب مع سيارة في عوالم تقارب فيلم كراش لكرونينبيرغ. والبطلة قاتلة تمارس أفعال قتل متسلسل بينما كنا اعتدنا في السينما وفي الحياة على أن يكون مرتكب مثل هذه الأعمال رجالا.

وينجح الفيلم في خلق أجواء خاصة جدا وعوالم غريبة كل من فيها يرقص كالمذبوح من الألم على وقع موسيقى فريدة كأنها هبطت على الأرض من كوكب آخر. وللصورة عند جوليا ديكورنو بعدها المتعدد ورمزيتها الموحية كأن تظهر البطلة شاحبة دائما مثل مصاص الدماء وكأن تعفو هي عن الشخص الذي نجاها واعتزمت التخلص منه حين تلاحظ أنه أكثر تحطما منها.

المخرجة أساسا ابنة لأبوين طبيبين، كانت تقرأ كتب الطب التي في مكتبتهما وتشاهد سرا أفلام الرعب الشهيرة مثل "مجزرة بالمنشار" الذي شاهدته قبل سن العاشرة وتأثرت به. كما تأثرت بقصص الكاتب إدغار آلان بو.

فيلمها الذي حاز السعفة هو ثاني عمل لها وكان شريطها الأول قدم في إطار تظاهرة "نظرة ما" عام 2016 وبقي لأشهر في الصالات الفرنسية كما وزع في الولايات المتحدة. مع ذلك فهناك من رفضه بشدة لمشاهد العنف التي يحتويها.

وتنشط جوليا ديكورنو من سنوات ضمن تجمع 50/50 الذي يروج للمساواة بين الرجال والنساء والتنوع الجنسي وتنوع الأعراق في السينما ووسائل الاتصال السمعي البصري وهي كانت أصغر المخرجين سنا في مسابقة مهرجان كان هذا العام (37 سنة).

ومهما اختلفت الآراء في مدى استحقاقها للجائزة الارفع فهي كانت صاحبة أفضل خطاب في المهرجان: "أعرف أن فيلمي حافل بالعيوب، بل نقول بصدده أنه متوحش، فشكرا للجنة التحكيم التي اعترفت بحاجتنا لعالم أكثر شمولية وأكثر انسيابية، شكرا لأنكم سمحتم بوصول الوحوش للسعفة".

 

بقية الجوائز

منحت الجائزة الكبرى للإيراني أصغر فرهادي عن شريطه "قهرمان" ولكنها منحت له مناصفة مع الفنلندي جوهو كوسمانين عن شريطه "العنبر رقم ستة".

ويبدو أن إدارة المهرجان لم تكن متحضرة لهذا النوع من المفاجآت على طريقة سبايك لي، فحضرت سعفة واحدة تقاسمها المخرجان وأعلن عن أنه سيتم ارسال سعفة لكل منهما لاحقا.

المساواة بين الفيلمين دفعت المخرج الفنلندي للتصريح بأنه معجب بفرهادي وشاهد له كل أفلامه وهو معلم بالنسبة له.

هذا التساوي بحد ذاته فيه اجحاف بحق الشريط الإيراني وان كان الفيلم الآخر جيدا، لكنه لا يتميز الى درجة منحه هذه الجائزة.

الفيلم الإيراني ومثله الفيلم الياباني قيادة سيارتي" للمخرج هاماغوشي الذي حاز جائزة السيناريو، كانا رشحا بقوة من قبل النقاد الدوليين لنيل السعفة.

كذلك منحت جائزة لجنة التحكيم الخاصة مناصفة وكذلك يبدو أن المهرجان لم يكن مستعدا لذلك. ونالها الإسرائيلي ناداف لبيد عن شريطه "ركبة عهد" والتايلاندي ابيشاتونغ ويراساتاكول في فيلم تدور أحداثه في كولومبيا.

ومنحت جائزة الإخراج للفرنسي ليو كاراكس عن فيلم "آنيت" ذي الإنتاج الأميركي والذي قدم في افتتاح المهرجان وهو عبارة عن دراما موسيقية مع الرائعين آدم درايفر وماريون كوتيار.

في النهاية فإن جوائز التمثيل كانت الأكثر مصداقية ومنحت جائزة أفضل أداء نسائي للممثلة النروجية ريناتي ريزنيف عن دورها في شريط "جوليا في اثني عشر فصلا" لجواكيم ترير بينما نال الأميركي كاليب لاندري جونز جائزة افضل أداء عن دوره في شريط "نيترام" الأسترالي لجاستن كورزيل.

سينماتك في ـ  20 يوليو 2021

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004