خاص بـ«سينماتك»

 

بين فيلمي "خرج ولم يعد" و"عودة مواطن":

خرج وعاد.. الحياة لا تكافئ المجتهد دائما

بقلم: د. فراس الشاروط/ خاص بـ«سينماتك»

 
 
 
 
 
 
 

محمد خان عاشق السينما وواحد من أهم المخرجين الذين هربوا بذكاء من كليشيهات السينما المصرية، مخرج ثاقب البصر، ويصنع اعماله وفق لغة سينمائية حقيقية تعتمد الصورة والايقاع والخبرة، رجل صنعة و(حريف) يحب عمله ويتقنه.

في تعاون مشترك مع السيناريست عاصم توفيق والممثل يحيى الفخراني قدم لنا (خان) فيلمين (خرج ولم يعد 1984) و(عودة مواطن 1986) قد يبدو لمن يشاهدهما انهما طرفي نقيض، رغم ان كليهما اشتركا في موضوع واحد ألا وهو ( الهجرة)، لكن في عمقهما يبدوان ان أحدهما يكمل الآخر ولو بتغيير صفة الهجرة، فهذا من الداخل نحو الداخل، وذاك من الخارج نحو الداخل، ما دامت الهجرة هي ان تعود بجيب ممتلئ بالنقود التي يمكن بها ان يعيش الفرد حياة أفضل، لكن لابد ان هنالك فجوة مكانية ونفسية وزمانية تفصل بين الظروف الاجتماعية التي دفعتهما الى الرحيل بين التي اجبرت (عطية) على البقاء أو تلك التي وجدها (شاكر) عندما عاد.

يبدو ان حظ (عطية) أوفر من (شاكر) فهو أخيرا يستقر، يبقي على الارض ويتزوج خيرية ابنة كمال بيه ويرتبط بحياتهم، أما شاكر فقد خسر اشياء عديدة لكنه آمل بأن المبلغ الذي حققه في الغربة سيحقق السعادة لأسرته الصغيرة، وقد تجاوز الاربعين من عمره، أسرة بلا زوجة وأولاد بل هم أخوة كبار راشدون.

حكاية عطية بسيطة ومتواضعة ولعل طرفتها وتأثيرها مستمد من هذه البساطة والتلقائية، موظف بسيط ذو دخل محدود في حيرة ازاء مشكلات الحياة من ظروف العمل وصعوبة الحصول على شقة للسكن، ومتطلبات خطيبته وأمها، عطية لم يقرر الهجرة ولكن رحلته من المدينة وضجيجها الى الريف من أجل بيع قطعة الارض التي يملكها جعلته يكتشف عالما آخر أكثر صفاء وهدوء وجمالا ومحبة، لذلك تتحول اقامته من شعور بالنفور المبدئي الى تعاطف تدريجي، يجعله يستعيد ذكريات القديمة، وطموحاته المجهضة في ان يكون مهندسا زراعيا، لتزداد ألفته مع نمط حياة عائلة (كمال بيه) الثري السابق الذي قنع بزوجة ريفية متواضعة وسمعة حسنة وذكريات أوربا بعد ان بدد ثروته وغدى ريفيا كسولا تاركا تدبير أمور الحياة الى الظروف.

والسؤال الافتراضي هنا ماذا لو عاد عطية مع المبلغ؟ بالتأكيد حياته لن تكون أفضل من (شاكر)، الذي يبدو ان حياته فيها عدة مستويات درامية يمكنها ان تصنع فيلما مليئا بالحياة لكن الثلاثي خان وعاصم والفخراني لم يودوا الابتعاد عن هدفهم الاسمى، شاكر عاد ليجد المجتمع الذي يعيش فيه قد تغير من خلال ذلك التغير الغريب الذي اصاب افراد اسرته الصغيرة، فعلى المستوى الشخصي يجد ان احد اصدقاءه قد اقترن بالفتاة التي كان يحبها قبل السفر، لأن على المرأة ان تختار دفتر الشيكات الاكثر امتلاء، أما على المستوى العائلي، الاخت الكبرى (ميرفت أمين) ترعى شؤون البيت وقد تولت رعاية اخوتها مكان امها المتوفاة، شاكر يعطيها المال ليساعدها على ان تكون سيدة مجتمع تتمتع باستقلالية أكبر لتنمي رأسمالها من خلال رجل أحبته، هو نفسه الذي خطف حبيبة أخيها يوما، وتتحول الحياة بالنسبة لها الى ارقام وحسابات، الاخت الصغرى (ماجدة زكي) تعمل في كافتيريا بأحد الفنادق وهي خريجة جامعة تحب زميلا لها يعمل في البار، شاكر يرفض ان تتزوج اخته من عامل بار ومع هذا يتم الزواج ولابد ان يباركه حتى لا تفلت منه الامور، أما الشقيقان فأحدهما (أحمد عبد العزيز) تخرج من الجامعة، ينتظر فرصة للعمل، يهرب دائما من واقعه الذي لا يستطيع التكيف معه من خلال اهتمامه بلعبة الشطرنج وتناول المهدئات النفسية، يقول لـ(شاكر) عندما زاره في المصحة أنه سعيد بوجوده في هذا المكان، ويطلب منه عدم السعي لإخراجه منه، انه معزل رائع لا يوجد أبدع منه، أما الاخ الاصغر (شريف منير) فهو طالب جامعي يمارس العمل السياسي السري من خلال هوايته للحمام الزاجل وهي هواية تعلمها من خاله الثوري السابق، يتم القبض عليه بتهمة سياسية.

العزلة تضرب في اعماق الاسرة، فالجميع منفصل ليس عن شاكر الذي غاب وعاد بل ان كل واحد منهم منفصل عن أخيه، ولا نرى اي منهم يبوح للآخر بما عنده من هموم وأسرار، واذ استطاع شاكر ان يمنحهم مبلغا جيدا فأن كل منهم أصبح تاليا في وضع لا يحتاج فيه الى (شاكر) سواء سافر أو بقي، هل سيكون هذا مصير (عطية) لو عاد مع مبلغ بيع الارض؟ وحتى في الحدث الابرز على صعيد العائلة يوم القي القبض على الاخ الاصغر لم يقد هذا الحدث الاسرة الى الأتلاف، لقد خلا بيت العائلة الكبير من الجميع، وعلى شاكر الآن يسافر مرة أخرى وربما (يخرج ولا يعد) ليس بحثا عن حساب مصرفي جديد بل هروبا من واقع أصبح غريبا عليه وعليه التخلص منه، لأن هو نفسه الذي سعى الى اصلاح مشاكل اخوته والدخول الى عوالمهم المغلقة فشل في ان يصنع لنفسه علاقة ذات دائرة كاملة، في النهاية (شاكر) مثل (عطية) خرج ولم يعد، رغم ان فرص حظه ليست افضل من حظ عطية، مثلما لم يكن للفيلم رغم جودة صنعته ومغامرة الفخراني الانتاجية حظا طيبا في عرضه مثل سابقه الذي اصبح من كلاسيكيات السينما، فالحياة لا تكافئ المجتهد دائما.

سينماتك في ـ  31 يوليو 2021

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004