خاص بـ«سينماتك»

 

الوعي والرؤية الابداعية

قراءة في نماذج سينمائية متفردة

بقلم: د. فراس الشاروط/ خاص بـ«سينماتك»

 
 
 
 
 
 
 

لقد كانت اول مواجهة فعلية مع القمع الحضاري الغربي، هي التي اشعلتها السريالية بإصرارها على اعلاء الايروتيكي بوصفه حرية مكفولة انسانيا، غير ان هذه المواجهة لم تستطع اختراق الحاجز الصلد سينمائيا فقدت لاقت افلام (بونويل) عنفا شديدا واتلفت لاسيما فيلم  (عصر الذهب) الذي يذهب بالفوضى إلى  اقصاها عندما يهدم  مواضعات الحضارة الغربية الاكثر قدسية، غير إن خطوة السريالية هذه مدعومة بحربين عالميتين جعلت الحديث عن فشل المشروع الحضاري الغربي حديثاً عاماً وصار من المألوف أن يسعى الفلاسفة والمفكرون إلى تحليل آلية هذه الحضارة لمعرفة الخلل الكامن فيها، غير أن هذا السعي كان يتم بالرؤية ذاتها التي غرستها رسالة الحضارة الغربية، ولذا فأن الحلول كانت عجلى وجزئية وتكشف عن العصاب الجنسي الهائل الذي تغرق فيه روح الغرب، فالوسائل التي اقترحها المفكرون ايروتيكياً كانت نقيضاً للايروتيكية الحقه، لأن حرية الإستيهام لا تعني مطلقاً حرية الجسد، بل ان الحقيقة هي عكس ذلك تماماً إذ كلما  كان الجسد متحققاً ايروتيكياً كان الإستيهام غير مهم لأن هذا الإستيهام في حقيقته إنما هو تعويض ذهني عن الفقدان ومحاولة لكسر الحرمان والقمع تخيلياً، على العكس مما عليه الامر في الايروتيكا التي تكسر الحرمان واقعياً عبر الممارسة الجسدية.

على نقطة نقيضة يقف (لويس بونويل) الذي يختلف عن كوبريك في فوضويته، وان اشتركا معا في شكهما بالبنى السائدة وسعيهما إلى كشف زيفها، غير ان سريالية بونويل الاصيلة تجعله اكثر عملية وجذرية في السعي من كوبريك وهذه السريالية ((برفضها المطلق الهدام للوعي السائد لا سيما في الدين والحياة))، تومئ إلى فلسفة علمية او هي تقول بمثل هذه الفلسفة ولكن الفحص الدقيق لمقولاتها يفاجئنا بأنها تشترك مع ما تهدمه في الانتماء إلى الرؤية المثالية فلسفياً. مهما تغطت بأغطية مناقضة، وهو ما يبدو جلياً في حيرة بونويل بين عدميته السريالية وروحة الكاثوليكية، وسعيه إلى خلق مسيحٍ مناقض للكنيسة، واستثماره للأيروتيكي في صياغة هذه الرؤية. غير إن نقطة الارتكاز في فلسفة بونويل ايروتيكياً هي في اقتران الجنس بالموت، إذ يعد بونويل اول من اشار إلى هذه الرؤية منذ فيلمه الاول (كلب اندلسي) وهي ”رؤية ذات جذرٍ شخصي” وقد سعى بونويل فيما بعد إلى تجذيرها ونقلها من مستواها المباشر إلى مستوى اعلى رمزية، عندما صارت علاقة الاقتران ذات طابع يخلط الوجودية والصوفية لاسيما في فيلمه (هذا الشيء الغامض للرغبة) الذي سعى فيه إلى اكتناه سر الايروتيكي فلسفياً عبر ثنائية فلسفية قديمة (الروح والجسد) جاعلاً من الموت والجنس وعدم الاكتمال وعدمية المصير الانساني وهشاشة وجودة ”قواعد بنائية في صياغة رؤيته تلك”، لم يكترث احد للقطة يدي رجل تداعبان نهدين عاريين في فيلم بونويل (كلب اندلسي) رغم قدم سنة انتاج هذا الفيلم ان اليدين اللتين تداعبان النهد تمثلان جوهر السريالية المعتمدة على ثلاث قضايا رئيسية هي (فرويد والاحلام والتخيلات)، وفي ظن الباحث انهم اعتبروا بونويل مارقا لا يتورع عند فعل أي شيء، حتى لو منعوه، وان هذه اللقطة العابرة السريعة ليست بذات اثر قياسا إلى مصائب بونويل الاخرى لاسيما ضد الدين.

والوعي الخلاق في صورته السريالية يجد  تمثيله في النفسي ايروتيكياً في فيلم (يودوروفيسكي) (الدماء المقدسة) الذي ينبني على السريالية اسلوبياً فيما تنتظمه الفرويدية من حيث القضايا والافكار وبعض المعالجات ولكنه يتجاوز مكوناته في رؤيته وادائه بطريقة تجعله وفياً لفوضى الحلم السريالي وكابوسيته، ولعل ما يميزه عن الفرويدية الصرفة هو عنايته بآليات المحيط وقوانينه في لا منطقها وانعدام معقوليتها التي تفضي إلى الجدب الانساني وانهيار سقف الروح وانتفاء كينونتها. اذ على الرغم من ان الفيلم ينبي على حادثة واقعية هي قيام شاب امريكي يعمل في سيرك بقتل ثلاثين امرأة في المكسيك، وهي قضية مكررة عن السفاح الجنسي ولكن (يودوروفيسكي) يصل بمخيلته إلى اقصى حدودها في خليط دموي قاسٍ (عن التطرف الديني وعن الشهوة وارتباطها بالعنف وعن الأوديبية الفرويدية). لا سيما في تصوير العلاقة الايحائية بين الام والابن الذي يقتل، بتأثير الام، كل امرأة تقترب منه، فيما هو ملتصق، حقيقةً، بجسم امه المقطوعة اليدين في ثوب واحد ليكون يديها في اداء استعراضها في السيرك.

ان الاداء الفني السريالي في جنونه ولا معقوليته هو الذي يؤكد اختلاف الرؤية والوعي على الرغم مما يبدو مألوفا في هذه الثيمة الايروتيكية في السينما، فهذا الاداء في كسره لمنطق الحتمية الفرويدية يبدو نقيضاً لها، وليس معتمدا عليها، اذ ان التصرفات وردود الافعال، فضلا عن المحيط السياقي لا تومئ، الا قليلا، إلى الفرويدية العلموية المعروفة، ولكنها في واقع الحال، تكاد تكون مطابقة لها في سعيها إلى الاسطورة من خلال تحويل الواقع إلى صورة من صور المخيلة بكل عنفها وقسوتها، بمعنى ان سعي فرويد إلى (أسطرة الحاضر) تماهياً مع اصول الانسان حضارياً يجد له مماهياً في سعي لـ(يودوروفيسكي) إلى اسطرة المخيلة بوصفها واقعاً حاضراً على الرغم من ضبابية هذه الأسطرة واختلاط اتجاهاتها وعلى الرغم من النزوع العيادي الذي يبدأ به الفيلم (الشاب في مصحة نفسية عارياً كقرد ومعتلياً غصن شجرة) في رمز واضح إلى التماهي بين الماضي السحيق والحاضر المتعالم، وكأن (يودوروفيسكي) وقبله فرويد ومعهما بعض العقول الخلاقة ((كان تعي حاجة الانسان المتأصلة إلى الاسطورة ورغبته في خلقها)). بوصفها رداً تخيليا على الواقع بكل ما في هذا الرد من نزوع نفسي إلى التوازن واحساس لاذع بعدم التوافق مع الواقع، لا لأنه غير متوافق طبيعةً، بل لان الواقع المعاش تعرض للتزوير والتزييف وتداخلت في صياغته وخلق الايهام بواقعيته قوى عديدة وصار عرضة للمحو والنفي والحذف والابدال بحسب اتجاهات مصالح هذه القوى، الامر الذي افضى إلى اغتراب الانسان عنه واحساسه بفقدانه وبالتالي سعيه إلى هدفه بالعنف والجنس والقتل ورفض المعقولية التي ارتبطت دائماً بالسلطة والقمع.

ولعل الوعي الخلاق يجد في المثلية اطاراً صعباً للتحرك داخله ولكنه لم يمتنع عن ولوجه في فيلمين مختلفي الرؤية والاداء، وأول هذين الفلمين هو (تابو) الذي قدمه ناغيزا أوشيما سنة 1999، محاولاً سبر اغوار العلاقة المثلية في الوعي الياباني عبر حكاية مدرسة (ساموراي) تمثل فيها المثلية صورةً عن وعي الذات بالآخر. وعلى الرغم من ان علاقة اللواط بالمجتمعات المغلقة كانت موضع درس من زمنٍ. إلا ان الرؤية التي يطرحها أوشيما تنافي البعد الاجتماعي لهذه العلاقة وتحولها إلى اطارها الانساني الذي يجد تحققه في حريته واختلافه دون ان يمنع هذا ان نجد في ثنايا النص الأوشيمي حساً خفياً بمماهاة الانوثة والانكسار في مفهوم الفيلم عن اللواط، وربما كان للبعد الحضاري ـ الشخصي اثر في تسرب هذا الحس إلى نسيج الرؤية التي يمكن اعتبارها اكثر الرؤى بحثاً عن ايروتيكية المثلية بعيداً عن المواضعات التي يفرضها المحيط وتفسيراته، ويمكن التمثيل على هذه المحنة أيضا برؤية أوشيما السابقة في فيلم (عيد ميلاد سعيد سيد لورنس) الذي بناه اصلاً على محاولة فهم تغاير الآخر ولكنّه بحكم هيمنة الرؤية الغربية الغالبة على رؤيته الحضارية المغلوبة افقد هذا التغاير بعده النفسي والفلسفي والحضاري واطره فيما يمكن تسميته نقد الوعي الزائف الذي اشار اليه (ادوارد سعيد) والذي يتأسس على النظر إلى الذات بعين الاخر، مع توهم انها عين الذات وهو ما (يشرقن الشرق) وفق معطيات العين الغربية التي تفرض نمط رؤيتها على العين الشرقية ذاتها.

 
 
 
 
 
 
 

واما الفيلم الثاني فهو فيلم المخرج البرازيلي هيكتور بابنكو (قبلة المرأة العنكبوت) الذي يرصد نصياً تحول الوعي بالمثلية من الرؤية السائدة إلى الرؤية الخلاقة، من خلال علاقة سجين سياسي بزميله الشاذ جنسياً، اذ يبدأ الفيلم بلوم السجين السياسي وتعنيفه لزميله على شذوذه، ويتصاعد إلى لحظة إدراك السجين السياسي ان البنى التي ترفض السياسي المختلف هي نفسها التي ترفض اللوطي لأنه مختلف، وان الحرية السياسية هي حرية جنسية اصلاً، ولذا فأن ايمانه بحق اختلافه وحريته لا يتحقق إلا بأيمانه بحق اختلاف زميلة وحريته. وتكون قمة التحول في انتقال الحوار من لغة الكلام التي كانت سلاح هجوم السياسي على زميله إلى لغة الجسد، عندما يمارسان الجنس معاً في مشهد رمزي متقن يفيض بالشاعرية والاصالة، وتكون نتيجة هذا الحوار ان يصبح السياسي لوطياً واللوطي سياسيا وتكون نهايتهما معاً هي الموت، فاللوطي الذي يخرج لممارسة نضاله السياسي يغتال من قبل رجال النضال أنفسهم لاعتقادهم انه واش للسلطة، فيما يقتل السياسي الذي صار لوطياً تحت وطأة التعذيب في السجن.

لا بد من اشارة إلى وعي (يوسف شاهين) بالمفهوم الحضاري للأيروتيكا وهو ما نجده في فيلم (الآخر) في ممارسة موازية للمألوف في بحثها عن التغاير الجنسي وفقاً لثنائية التضاد بين (مارغريت ووالدة حنان) ووفقاً للهجين المولود الذي يحاول ان يجمع طرفي الثنائية متمثلاً في علاقة آدم بحنان، فهما يمارسان الجنس قبل الزواج مع الاحتفاظ بخصوصيتهما الحضارية الامر الذي يؤسس للجيل الهجين الذي يراهن عليه شاهين مع تغافله عن خلل المعادلة الحضارية في الفيلم حتى على المستوى الجنسي لأن تسويغ الآخر جنسياً يأتي على حساب قيمة الاختلاف التي هي قيمة جوهرية ايروتيكياً، ان مشكلة الرموز الفرويدية في السينما هي مشكلة توظيف بمعنى انها توظف من قبل المخرج لإنتاج دلالة ما يرى المخرج ان تلك الرموز والطريقة التي تقدم بها على الشاشة، هي الحل الفني الامثل او الحل الاعلامي الامثل، حيث يكون الامثل فنياً بوصفه لغته مجازية رمزية، ويكون الامثل اعلامياً عندما ينجو الفيلم من خلال رموزه من مخاطر الرقابة الخاصة او العامة، ومن مخاطر الفيلم بوصفه سلعة موجهة، غير ان هذا التوظيف لكي يكون ناجحا او في الاصل ليكون دالاً وذا معنى، لابدّ له من سياق فني يوظف فيه، ولابد له من مقدمات وعناصر مساعدة تدفع دلالته المرادة إلى الظهور. ففي فيلم يوسف شاهين (الاخر) ثمت دلالة خفية اهملها قراء الفيلم جميعاً، على الرغم من قصديتها الواضحة واسهام عناصر السياق المختلفة في انتاج دلالتها، وهي دلالة ذات منشأ فرويدي معكوس، أي انّ فيها ما يمكن ان يعدّ أوديبية معكوسة الاتجاه/ اذ ثمة اكثر من اشارة بصرية ولفظية، وسياقيه، تجعلنا نعتقد بالكمون الرمزي للجنس في علاقة الام مارغريت (نبيلة عبيد) بأبنها آدم (هاني سلامة)، ولعل مشهد مارغريت وهي تستعرض صور آدم وفي كيانها شهوية جلية يعززها اهمال زوجها لها، لعل هذا المشهد يمثل قمة ما اراد شاهين ايصاله حول هذه النقطة، وهو هدف يتجاوز ظاهره الرمزي لأنه يحمل رؤية حضارية بعينها، يؤكدها عقد مقارنة بين الوعي الشهواني، ذي الثقافة الفرويدية ـ بوصفها كسراً للثوابت الجنسية ومدخلاً عقلانياً للإباحية ـ وبين وعي ام حنان (لبلبة) الصوفي ذي الثقافة القدرية النقية ذات البنى الكتومة الحيّية، ان عدم ملاحظة ناقدي فيلم (الآخر) لهذه الدلالة المرادة جعل من أفعال مارغريت غير مبررة ومخالفة لسياقها وبنيتها، ولعل مراهنة المخرج على ادراك المتلقي للمسكوت عنه، وحسن قراءته للرموز هو الذي افضى بهذه الدلالة إلى الضياع والتلاشي في سياق غير متماسك في ذاته، وان كان متماسكاً في خدمة عناصره لتلك الدلالة وانتاج مغزاها، وأما فيلمه (وداعاً بونابرت) فأننا نجد فيه اجرأ محاولة، في الوعي السائد، لإعطاء اللقاء الحضاري بعداً ايروتيكياً ولكن هذه الجرأة سرعان ما تتبخر عندما تقدم الايروتيكا على انها سيطرة حضارية من نوعٍ مخز، فالعلاقة المثلية بين(كافيريللي وعلي) ليست مشروطة انسانياً وانما هي وسيلة مخطؤة لاكتشاف الآخر عبر اغتصابه وموضعته والسيطرة عليه واذا وضعنا في الحسبان صيغة اللواط بوصفها اهانة جنسية فان النتائج من حوار الحضارة الذي اراده شاهين لن تكون في صالح رؤيته، ولعل الغرابة كامنة في اختيار المثلية وليس الجنس الطبيعي المقترن دائماً بالغزوات والفتوحات، فلو ان العلاقة كانت بين فرنسي ومصرية لكان من الممكن تسويغها حتى على المستوى الانساني ولكن جعل الشاب المصري موضوعاً جنسياً للفرنسي بوصف هذه الموضعة حواراً، أمر يخل بموازنة الحوار عند الطرفين الذين يريان في اللواط عاراً وليس اختلافاً يجب احترامه واختياراً حراً مكفولاً شخصياً. ولذا فأن وعي شاهين رغم جرأته لا يخرج عن بوتقة السائد وهو متأثر بنغمة منتشرة تؤسسها الاحادية الغريبة ذاتها.

اما (بازوليني) فينحى ابداعيا في وعيه الخلاق ويذهب نحو الحيوانية في فيلمه (حظيرة الخنازير) حيث يحكي القسم الثاني من الفيلم عن ابن صناعي يرفض الزواج لأنه يمارس الجنس مع الخنازير التي تنتهي بالتهامه.

وقد فسر الفيلم وفقاً لتصريح (بازوليني) نفسه تفسيراً استعارياً حيث ((يعيش ابن الصناعي في عالم من الخنازير البشرية، فلطالما قورن ابواه بالخنازير وشبه العالم حولة بزريبة خنازير))، وهذا التفسير الذي يوازي بين البرجوازيين والخنازير، لا يعني ان الفيلم قد وقع تحت هذه المباشرة كما لا يعني ان القراءة النقدية يفرض عليها الالتزام بهذا التفسـير فبازوليني نفسه يرفض المطابقة المباشرة بين وعيه وادائه، وعليه هنالك بعداً آخر لهذه الحيوانية، وهو بعد مبني على التراث الشعبي والديني، فمعلوم ان الخنازير محرمة عند المسلمين واليهود ومحللةّ عند المسيحيين، رغم ان التراث التوراتي جزء من البنية المسيحية ومعلوم ايضاً ان المسخ الذي وقع لأصحاب أوديسوس، كان إلى خنازير، وانهم كادوا يأكلون رفاقهم على هذه الصفة، ومعلوم اخيراً، ان التعبير الشعبي عن الخنزير انما هو كناية عن المنحط جنسياً، المغرق في بهيميته الجنسية لا سيما في المخيلة الايطالية، ومن خليط هذه المعلومات يمكن ان نقول ان صفة المباشرة، رغم استعاريتها التي تحدث عنها بازوليني في تصوير علاقة البرجوازيين ـ الخنازير، انما تمثل مستوىً اول في قراءة الفلم، لأن الفيلم في عمومه حكاية عن الرفض والسعي إلى الاختلاف باعتراف بازوليني نفسه دون ان يسعى الرافض إلى صدمة المتلقي لأنه في شغلٍ بنفسه عنه أي ان هذا الرفض انما هو خلاصة محنة الوجود في الانحطاط، رغم ان المفترض ان لا يقع مثل هذا الوجود، وتعبيراً عن هذه المفارقة يذهب الرفض إلى ابعد ما يمكنه، بوصفه موقفاً ينأى عن التفسير والعقلنة تماماً كنأي الوجود عنهما، فبطل القسم الاول من الفيلم يقتل اباه ويأكل لحوم البشر ويعلن ذلك بفرح وابتهاج، وبطل القسم الثاني يضاجع الخنازير حتى الموت التهاماً، وهو فرح باختياره الذي هو خلاصة من عفن الماحول، لا بوصف البرجوازية وحدها بل بوصف الماحول حضارياً بكل تجلياته واشكاله، فالاختيار انما هو ايغال في اعلان الرفض الشامل لكل ما تمثله الحضارة، دون تفريق بين شكل وآخر.

بدرجة اقل وعيا وأكثر تماهيا مع السائد، يقف فيلم (بواب الليل) للمخرجة ليليان كافياني، الذي يحاول تفسير التشوه النفسي الذي خلفته الفاشية تفسيرا جنسيا من خلال علاقة مريضة بين المشوهين، مع اختلاف الطريقة، فالضابط النازي شوهته الايديولوجيا التي ينتمي اليها اما المعتقلة السابقة فشوهها الاعتقال ولكنها ليست بعيدة في اصولها من التشويه الايديولوجي. وعلى الرغم من ضعف الفيلم، رؤية، في تفسير الكثير من عناصره، لاسيما الشغف الجنسي المتبادل بين البطلين وعلى الرغم من قسوة النازي مع التعامل مع المعتقلة (فهو يهديها رأس أحد زملائها مثلا تعبيرا عن اعجابه برقصها)، غير ان نقطة القوة المذهلة في هذا الفيلم هي في اعتبارها النازية والفاشية عموما منتجا حضاريا شاملا، لا يخص احدا، وان امتلك اسما المانيا او ايطاليا، لأنه في الحقيقة ابن طبيعي وان كان مجرما للروح التي تبثها الحضارة الرأسمالية بكل تجلياتها السياسية والاجتماعية والدينية.

وهذا هو التفسير الوحيد لقبول البطلة بعلاقتها الشاذة مع بواب الفندق الذي كان ضابطاً في معتقلها، كما انه التفسير الوحيد لخروجهما الاحتفالي، هو بزيه النازي وهي بثوب السهرة، في طريقهما إلى الموت على يد النازيين الآخرين، فالرؤية التي بنت عليها كافياني فيلمها تمتلك خصوصيتها من هذه الشمولية في التفسير وان كانت عناصرها التكوينية اقل نجاحا لأنها اقل خصوصية واختلافا، فالفاشية والنازية، بحسب كافياني، ((انما هي صورة قاتمة للتشوه العميق الذي اصاب الروح الغربية عبر ايديولوجياتها المختلفة))، وليس غريبا ما دام الامر كذلك ان يظهر النازيون الجدد في المانيا الغربية (الرأسمالية) ولا يظهرون في المانيا الشرقية (الاشتراكية) فيما مضى لأن البنية التحتية التي أنجبت النازية، وهي التي ما زالت تنجبها، انما هي متأصلة في الايديولوجيا الرأسمالية بوصفها خليطاً من الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي يشوه الانسان في نقطة قوته الروحية: ايروتيكيته.

سينماتك في ـ  02 أغسطس 2021

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004