خاص بـ«سينماتك»

 

«ريش».. التحليق باتجاه عكسي

بقلم: أمل ممدوح/ خاص بـ«سينماتك»

 
 
 
 
 
 
 
 
 

·      خريجة كلية الإعلام جامعة القاهرة بقسم الصحافة وحاصلة على دبلوم الدراسات العليا من معهد النقد الفني ودبلوم الدراسات الحرة من المعهد العالي للفنون المسرحية ودبلوم الأنثروبولوجيا الثقافية بمعهد البحوث والدراسات الإفريقية بجامعة القاهرة

·      عضو جمعيتي نقاد السينما المصريين وكتاب ونقاد السينما

·      عضو لجنة مشاهدة مهرجان القاهرة السينمائي منذ ٢٠١٧، مبرمجة افلام افريقيا في مهرجان القاهرة السينمائي للدورة ٤٢

·      مدير تحرير سلسلة آفااق السينما سابقا التابعة للهيئة العامة لقصور الثقافة

·      شاركت بدراسات ولجان تحكيم ومشاهدة في عدة مهرجانات وشاركت في مجموعة ندوات نظمها المهرجان القومي للسينما في عدة محافظات

·      تنشر في العديد من الدوريات كمجلة الفيلم وجريدة القاهرة والثقافة الجديدة

أمل ممدوح

ناقدة سينمائية

(مصر)

 
 
 

يقول "فرويد" أن الأحلام عادم يُخرج فضلات الروح ورغباتها المكبوتة، وأن العقل اللاواعي هو مستودع للمشاعر والأفكار والذكريات التي صارت خارج عقلنا الواعي، وهي الرؤية التي أراها تصيغ هذا الفيلم "ريش" للمخرج عمر الزهيري، الذي حصل على جائزة النقاد في مهرجان كان وجائزة أفضل فيلم عربي في مهرجان الجونة، وأخيرا جائزة التانيت الذهبي في مهرجان قرطاج وجوائز أخرى، فالفيلم لا يصلح معه التلقي التقليدي المنطقي أو الواقعي وإن كان عن الواقع، فهو لا يحاكي الواقع بل يبدو انعكاسا له في اللاوعي، كما يحدث في الأحلام الكابوسية، يبدو انعكاسا له في ذهن بطلته، فنرى واقعها من خلال تأثيره في لاوعيها، ليبدو الفيلم عند الخط الفاصل بين الحقيقة والحلم، فبرغم الحالة الواقعية تظل تشعر بغرابته، وإن اعتبرته فانتازيا فقط فالواقع مطل بشدة، الأمر الذي قد يسبب إرباكا بحسب منطلق قراءة اللفيلم، كل ذلك ضمن سرد (وليس محتوى) شاعري، كما يُروى حلما قاسيا، كل هذه الأمزجة المتضادة المجتمعة شكلت خصوصيته بمذاق عبثي ساخر.

"ريش" فيلم ينتمي لسينما "القسوة"، وهو المسمى الذي أطلقه الناقد الفرنسي فرانسوا تروفو كعنوان لكتاب جمع فيه مجموعة مقالات للناقد الهام أندريه بازان، عن الأفلام التي يتسم أسلوبها التعبيري بكشف الواقع وتعريته وكشف الجوهر الإنساني بشكل حاد لحد القسوة، ويتماس هذا المسمى ووصفه مع مسمى "مسرح القسوة" الذي أسس منهجه المخرج المسرحي الفرنسي "أنتونين آرتو"، وهو منهج يعمل على التكسير الآلي العنيف للمألوفات كوسيلة لتعرية الحقيقة وأشكالها النمطية، معتمدا على تعبيرات بصرية سيريالية أو أسطورية، مستخدما الأصوات كمجرد "فونيتيكس" لها تأثيرها السمعي أكثر من تعبيرها اللفظي، وعلى الصمت كتعبير أساسي يكسر استخدامات الحوار المعروفة، كنوع من نزع تدجين الأشياء والعلاقة الطبيعية معها فيغربها، لذلك تقريبا لم تضف أي جملة حوارية شيئا للفيلم إلا من هذه الزاوية، كما ينزع كثيرا المسافة الجمالية، التي اعتاد أن يحتمي بها المتفرج، كتغريب إجمالي ينزع الألفة مع الواقع ليصدمك، كما سنرى.

يمزج الفيلم بين واقعية ذات تسجيلي قاتم، سواء في اختيار الأماكن أو طبيعة الحياة، أو اختيار ممثلين جدد شديدي العادية، يؤدون أداء يبدو كما لو كان مرتجلا؛ وبين الفانتازيا، مع تأثير سيريالي نابع من مفردات واقعية مبررة، كلقطات القرد الذي يقفز على السيارة في منطقة عمل السحرة، وقناع ميكي ماوس بأسلوب تقديمه في حفل عيد الميلاد، واللقطة الغامضة لعجل يتبع حمارا داخل مستشفى بيطري، هذا المزج بحد ذاته ينتج رؤية ساخرة عبثية وفقت كثيرا، يعرض الفيلم حياة أسرة صغيرة مكونة من أم وأب وطفلين ورضيع، في بيت شديد الفقر، لكنه واقعيا ليس بعيدا عن بيئات كثيرة، يقدمه الفيلم ذلك متعمدا التخلي عن مبدأ "اللياقة" في الفن، والذي يتجنب التركيز الصادم أو الإسهاب في وصف القبح، قاصدا مهاجمة حواس المتلقي بهدوء قاس، وقد لا تكون بعض المشاهد المختارة للتعبير عن هذا المنهج موفقة كثيرا، لا من حيث قبحها بل من حيث مباشرتها خاصة مع تكرارها، كالمشاهد الكثيرة داخل الحمام بتفاصيله، مما يبدو تعبيرا ميلودراميا نوعا ما، لكنه أيضا يظل متسقا مع الحالة الكابوسية اللاواعية داخل ذهن البطلة كما أراه، الأمر الذي يشبه منهج الجماعة الدادية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، من تعرية القبح والتركيز عليه كحالة ثورية على عالم لم يعد محتملا، حتى أن الفيلم يتشابه مع رؤيتهم للحياة الآلية للإنسان؛ فكثيرا ما شبهوا الإنسان في أعمالهم بشكل ساخر بالتروس والعجلات الآلية.  

يقدم الفيلم عالما ديستوبيا (تحت الطبيعي) بصياغة منيمالية شديدة التجريد والتبسيط، سواء في الصورة قليلة المفردات رغم دقة تفاصيلها، مع فراغات الأماكن بألوانها الشاحبة، أو في السيناريو الذي لا يعبأ بشرح تفاصيل الأحداث، أو في الحوار القليل جدا الآلي، والذي يبدو تلقائيا لكنه يمنع اندماجنا معه، أو في الأداء التمثيلي الذي يبدو مرتجلا فاترا بشكل مقصود، وهو ما كان يناسبه جدا فكرة الوجوه الجديدة عديمة الخبرة، التي وجدت لا لتمثل ولكن لتحضر بشكلها شديد الطبيعية، مع سعي للتحييد وإلغاء التأثيرات الدخيلة، أو في المونتاج الحاد الذي ينهي المشاهد ببساطة دون اكتراث، وزوايا التصوير واللقطات المبتورة التي لا تلقي بالا للأشخاص بذاتهم، فهم فقط متواجدون، في حالة مهمشة لقيمتهم، مع تسييل  للزمن والأماكن والنقلات بينها، فالأماكن شديدة التشابه تتداخل مع بعضها، وألوانها متقاربة شاحبة، وذلك برغم الحفاظ على سرد خطي، كما نجد الوجوه غالبا غير واضحة التفاصيل بشكل متعمد، حتى في الصور التي كانت تعرض على الزوجة لمعرفة الساحر.

كثير مما سبق يعد نوعا من "الجروتسك" وهو أسلوب فني يشوه الأشياء بهدف إبراز ما خلفها، يضاف إلى ذلك العملة الورقية الباهتة المتسخة من فئات قليلة مع كثرة الأوراق، فهي لا تحقق شيئا ولا تغني رغم كثرة عددها، مع التركيز على الكادرات المهملة بعيدا عن الحدث، واللقطات الثابتة الطويلة بلا جديد كزمن ميت، وتناقض الموسيقى مع الأحداث والتي دائما ما تنبع من داخل المشهد، كصوت أغنية من كاسيت السيارة، أو صوت موسيقى أو أغنية في التليفزيون، كل ذلك يوصل رؤية الفيلم لواقع آلي أقرب للموت، دون كثير من التعبير، بلا تحديد واضح لأسماء الأماكن أو الأشخاص، يخلط بين مستشفى بشري ومستشفى بيطري، وبين التطبيب لمريض أو تغسيل ميت، حيث نرى الزوجة تغسل جسد زوجها العائد وتعالجه في مكان في مستشفى يبدو كمشرحة تبدو كمن تغسّله فيها، فالفيلم ينزع الإيهام والتأثير النفسي المباشر، لنبدو في عالم غرائبي هذياني يرتدي ثوب الواقع.

 

الزوج الدجاجة..

ظهر الزوج والذي أدى دوره سامي بسيوني، بشكل ملفت في طبيعيته، يشير لموهبة جيدة، وإن كان دوره سمح له بهذه المساحة، يبدو أبا محبا لأولاده، الذين بالمناسبة كانوا أيضا شديدي الطبيعية بشكل موفق جدا، يقدم لهم السعادة من خلال نظرة استهلاكية سطحية تحاول الإيحاء بحياة مرفهة، تنم في حقيقتها عن سفه وشعور بالنقص الشديد والضآلة، فهو يجلب لهم أشياء لا يحتاجونها بينما البيت المعدم يحتاج الكثير، يشتري نافورة لتعطي مظهرا أنيقا، بينما لا يتخطى طعام أسرته الباذنجان الذي يحدده للزوجة بصرامة، ويقيم عيد ميلاد لابنه، لتبدو الزينة فيه والبلالين شديدة التناقض مع رماديات المكان القاتم، يعد فيه لفقرة ساحر يكون هلاكه على يديه بطريقة من الفانتازيا الساخرة، حيث يدخله الساخر في الصندوق فلا يخرج منه إلا دجاجة، في موقف كوميدي أسود، دون تفسير، فالقضية ليست في الأحداث بل في ما ورائها وما تعبر عنه، يذكرني مشهد إدخاله الصندوق بخداع "ست" في الأسطورة المصرية القديمة، لأخيه "أوزيريس" حين أوهمه بإهدائه له صندوقا طالبا من أوزيريس النوم فيه للتأكد من كونه يناسب مقاسه، ليغلقه عليه فيكون هو تابوته، وهنا يدفع الساذج ثمن سذاجته بقسوة.

 
 
 
 
 
 

الزوجة .. إيزيس الجديدة

وتتورط الزوجة التي لم تعرف لها عائلا ومدبرا سوى زوجها، في رعايته وهو دجاجة أملا في رجوعه وحل الموقف الجديد العصيب، وكأن هذا الاختفاء يعادل غياب أوزيريس، الذي واجهته إيزيس وحدها، بمحاولاتها لإرجاع زوجها، لكن محاولات إيزيس كانت بدافع الحب بعكس إيزيس الفيلم التي تريد عودته فقط ليدبر أمور الأسرة، ولكن الدجاجة التي تحتل الفراش وتملؤه بفضلاتها لا تتحول للزوج من جديد، فالانتظار يبدو غير مجد، لتبدأ الأحداث في دفع هذه المرأة الصابرة التي تحترف نزف الزمن، إلى الحركة، لكنها حركة تعتمد دوما على رجل، فهو النمط الذي تعرفه، فتعتمد على رجل جديد ظهر كالمنفذ هو رب عمل الزوج، الذي يبدأ في عرض خدماته، ونراها دوما تركب سيارته التي يقودها، فهي دوما مفعول به، تؤمن بضعفها وقدرة الرجل فقط على الحلول أو القيادة.

هذه الزوجة التي أدت دورها دميانة نصار، كوجه مبشر بطزاجته ومصريته، وإن لم يفسح لها الدور أو رؤية المخرج فرصة التعرف على مهاراتها، إلا أنها أدت ما يتطلبه دورها كما أراده مخرجه، بأن تكون تحت الطبيعية كمن تشاهد حياتها في حلم، تضطر للمواجهة أخيرا، وتحمل عبء أطفالها وبيت بديونه ونفقاته، لكن من خلال نفس النمط الاعتمادي على الرجل، ولا يخرجها منه سوى الأذى الذي طالها منه، فالزوج اختفى، ورب عمله الذي عرض مساعدته لها، تعرضت على يديه لمحاولة الاستغلال الجنسي، لتضطر بعدها لاستدعاء قوتها، سواء الذهنية باستخدام الحيلة أحيانا، أو البدنية بالاعتماد على نفسها، والعمل بأعمال شاقة قاسية كالذبح والتعامل مع الدم، صارت مشيتها أكثر انتصابا وقوة، نرى ضحكتها الحقيقية لأول مرة حين كان أطفالها يلعبون فيما يشبه حمام السباحة، تقدم لهم الجاتوه، قطعتين فقط لهما، حتى حين سرقت وجدنا قطعتين فقط من اللحم وبعض الحلوى لطفليها، بينما كان الزوج الذي يفترض أنه راعيا للبيت لا يقدم لأسرته إلا الباذنجان، مع اهتمام بمظاهر مدعية للرفاهية، أما هي فتطمح لإسعادهم بحق دون مباهاة، يبدو جسدها ضعيفا رغم أنها من تحمل دعائم البيت الحقيقية، دوما متوارية، لا تظهرها الكاميرا بوضوح خاصة في البداية، بل تهمشها وتبتر رأسها من الكادر ولا نرى سوى ما تفعل، نراها كثيرا من الخلف أو من ظهرها، بكلمات شحيحة وصوت ضعيف، لتتسيد اللقطات بعد ذلك، ونرى هدوءا وسكينة حققتهما لبيتها في النهاية رغم كل ما حدث، بعكس ما كنا نرى الزوج الطويل قوي البنية كثير الثرثرة، الذي يظهر أمامنا بوضوح بمواجهة الكاميرا، لكنه ببساطة يتعرى كدجاجة، تؤكد ذلك لقطات للدجاجة فوق فردتي حذاء الزوج الغائب، في لقطة جيدة التعبير، فهي قد حلت مكانه وتعد كأنما هي معادله النفسي الحقيقي، لتبدو الزوجة هي راعية الدجاجة وهي أيضا من تنتظرها لترعاها، في وضع شديد الهزلية.

تبدو الزوجة كحقيقية وحيدة في عالم هزلي أكثره من الرجال، حتى موظفو عمل الزوج ممثلو القانون الجامد ورغم حديثهم بشكل قانوني جاد؛ إلا أنهم يبدون هزليين، يصورهم تكوين المشهد وتحكمهم في مصيرها في هيئة قضاة، من حيث وجود ثلاثة في الكادر يلقي أوسطهم رأيه النهائي، لتزداد عبثية المشهد بأكل الإثنين على الطرفين لسندويتشات والاكتفاء بترديد كلام أوسطهم، مع آخرتحول لدجاجة، وآخر يرتدي عادة نظارة شمسية توحي بحقيقة مخفية، وآخر نراه رغم لحيته يرقص كالنساء، فهي رغم ضعفها تبدو الأكثر اتزانا، وصدقا وسط زيف، وفي إحدى اللقطات نراها تسكب مياه التنظيف المتسخة في محل عملها، ومكان عمل زوجها سابقا، في نافورة مياه تشبه تلك التي جلبها الزوج في بداية الفيلم، فقط لإعطاء البيت مظهرا أنيقا، بما يبدو سخرية حادة طريفة من هذا المنطق، نراها تقوى تدريجيا حتى تجرؤ على تقديم محضر في القسم كانت تهابه في مشهد سابق، حتى إذا ما عاد الزوج أخيرا يعود مصابا ضعيفا فاقد الإدراك، وبالتالي لا يرفع وجوده عبئها، بل عاد كمزيد من العبء تماما كالدجاجة التي ما زالت لديها، فالدجاجة لم تختف برجوعه، ولك أن تفسر ذلك كانكشاف خدعة في ثوب فانتازي، أو بلا تفسير كنوع من العبث، لكنه موقف لتبادل الأدوار والمصائر بينها وبين زوجها، فتصبح الأقوى وهو الأضعف، تطعمه مما كان يجبرهم عليه، تضع له الباذنجان كالسابق، ولا يوضح الفيلم حقيقة ما حدث لكننا يمكن أن نستنتج أن خدعة الصندوق وراءها مثلا صاحب العمل لرغبته في الزوجة، كما خدع ست أوزيريس بخدعة الصندوق الشهيرة، لكن الزوجة قررت أن لا تكون إيزيس لمن كان في حقيقته بضع ريش، والتمرد على أسطورتها والتحليق بريشها الجديد بعيدا ولو بشكل عكسي. 

 

دخان في البدء والنهاية ..

يبدأ الفيلم بمشهد افتتاحي لرجل يحترق دون تفسير، لا نعرف إن كان منتحرا أم أنه حادث حريق، لكنه يصرخ في مواجهتنا، ككتلة مشتعلة وسط كتل أسمنتية مهجورة باردة اللون، لنراه بعد خمود النار بينما يظل الدخان مستمرا، وهو مشهد لم نجد له تفسيرا مباشرا في الفيلم أو أحداثه، مما يجعلنا نعتبره مشهدا تعبيريا يجسد مضمون الفيلم، فكأن هذا الاحتراق للإنسان هو المصدر الحقيقي للدخان المتكرر في مشاهد الفيلم، الذي نراه من مدخنة أحد المصانع التي تطل عليها نافذة المنزل، بعيدا أو قريبا، خفيفا أو كثيفا، بالخارج فقط أو يصل لداخل المنزل، من مدخنة المصنع أو من عربة رش، كما نراه من دخان سيارة الرجل المستغل، ونراه من قطار يسير بجوار السيارة الواقفة،..فهو مستخدم كالنذير طوال الوقت وعلامة اختناق موشك.

وبينما بدأ الفيلم بدخان بعد حريق، تأتي نهايات الفيلم بتصاعد دخان المدخنة، ليضبب تماما النافذة التي تطل منها الزوجة كعلامة تصاعد قادم، لتمتد يدها للتليفزيون ترفع صوته، بينما نرى صورة به لزهرة اللوتس، برمزيتها الأسطورية في مصر القديمة، كونها تغطس ليلا في الماء وتضم أوراقها حتى إذا جاء النهار تفتحت، وهو تعبير موفق جدا لمصاحبة ثورة البطلة، مع موسيقى أغنية حكايتي مع الزمان لوردة بدلالتها، التي ينبع صوتها أيضا من التليفزيون، انتهاء بأغنية "الصبحية" لفرقة المصريين، التي تتحدث عن الأمل والبهجة، تسمعها مع أطفالها بعد انتهائها من مشهد صادم وكأن شيئا لم يكن، في تضاد يثير السخرية والأسى، يشاهدون معا بهدوء التليفزيون، لا يبدو شيئا ينقصهم، لكننا نستشعر سكونا كأنه كل نعم حياتها، ولأول مرة نراها في مواجهتنا بوضوح.

 

بين الذهنية الخالصة والفنية

يرى "أندريه بازان" الناقد الفرنسي المؤثر في ظهور"الموجة الجديدة" في السينما؛ أنه ناقد سينمائي يتأثر بالفكر أولا، وأنه لا يعتبر الفيلم متعة وتسلية، بل درس في الفلسفة والمنطق، حتى لو كانت الأفلام التي اختارها قابلة لأن تكون ذات طبيعة تجارية ويقبل عليها الجمهور أينما كان، وعمرالزهيري اختار تقديم فيلم ليس للمتعة أولا ولا لتلق سهل معتاد، وخاض مغامرته التي تستحق التقدير لصنع فيلم أسلوبي فني بحت، يعلم أنه لن يكون تجاريا يحظى بمشاهدة كبيرة، تخلى فيه عن كل محفزات المشاهدة للمشاهد العادي، كل لقطة فيه مدروسة، تغرد خارج السرب، مع سيناريو متقن ومتميز لأحمد عامر، وقد سبقه عدد من أفلام من هذه النوعية المتخلية عن الرضا الجماهيري من أفلام فنية ومستقلة لها لغتها الخاصة، مثل "الخروج للنهار" لهالة لطفي و"باب الوداع" لكريم حنفي و"يوم الدين" لأبو بكر شوقي وغيرهم من أفلام تنتمي لما بعد الحداثة، إلا أن هذه الأفلام كانت تحمل طبقات متعددة للتلقي أقلها الصورة الجذابة، أو إيقاعا جاذبا للمشاهدة بغض النظر عن بطء الإيقاع المقصود، طبقة مشهية تسري بشكل ما في المشاهد العادي دون اجتهاد أو جهد كبير، وإن لم يصل لتأويل كلي، وأذكر هنا حضوري ذات مرة لعرض مسرحي ينتمي لمسرح القسوة، كان صامتا شديد الاختلاف أسلوبيا، لا يسهل فهمه حتى على بعض المتخصصين، لكنه رغم ذلك مبهرا يعمل في لاشعورك كمفتاح للتلقي، تشعر بجرعة من الألم والجمال والإثارة معا قبل تفسيرها، كان بجواري صديقين متخصصين كذلك، لم نصل بعد وقتها لفهم حقيقي لكن تيارا شعوريا أصابنا بدقة من كل تفصيلة فيه، وفيلم عمر الزهيري به تفاصيل حقيقية مدروسة تعمل أيضا في اللاشعور، لكنه وبرغم جودة تفاصيله وبراعة رؤيته التي صاغ بها أسلوبه، بدا ذهنيا للجمهور العام، فلن يحسن تلقيه غالبا سوى المدربين على تلقي هذه النوعية من الأفلام أو الدارسين والمتخصصين، ولا أعني أن يخاطب الفنان ذوق الجمهور أولا، ولكن أيضا يفضل أن يتضمن العمل طبقات متدرجة التأويل، يمكن أن تصل إليها الدرجات المختلفة من التلقي، فكثير من الأفلام الهامة جمعت بين فنيتها وقدرتها على جذب المتلقي العادي، وإن لم يفهم مضمونها الأعمق،وهو الأمر الأصعب فنيا والأبقى، لكن يبقى فيلم "ريش" فيلما هاما يشير لمخرج متميز ومختلف في كل تفاصيله، له رؤية خاصة دون أن يغرد حتى مع السرب المختلف، بل يذهب بعيدا خلف نداء شغفه، كما يجب أن يكون الفنان.

سينماتك في ـ  10 نوفمبر 2021

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004