خاص بـ«سينماتك»

 

فيلم «السابع والعشرين من مايو لهذا العام».. تراجيديا نهايتها الموت

بقلم: الشيماء أحمد فاروق/ خاص بـ«سينماتك»

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

الشيماء أحمد فاروق

صحفية في جريدة الشروق المصرية وحاصلة على دبلومة النقد الفني من أكاديمية الفنون المصرية، وبكالريوس الإعلام، مهتمة بكل ما له علاقة بالفنون.

 
 
 

26 دقيقة لكي نغوص في أعماق رجل قيده الماضي وأخطاءه فعاد به إلى حيث بدأ، حيث وقعت الجريمة، وحيث نُسجت خيوط العنكبوت السام حول الضحية، حتى ماتت مندفعة من أعلى شبكته إلى أسفلها، فهو رجل حُكم عليه بالعودة، تأخذه رهينة الوصول، لأنه رهينة الماضي.

 

التراجيديا وشخصية البطل والنهاية الحتمية

في 26 دقيقة مكثفة الأحداث والأفكار يروي لنا مصطفى مراد، كاتب ومخرج الفيلم، قصة أدهم سليمان، صحفي وكاتب، يبدأ رحلة مختلفة في الفصل الأخير من حياته، لا يتقدم فيها إلى الأمام بل يعود إلى الماضي، رحلة إلى الذكريات التي عاشت معه سنوات طويلة تؤرقه فلم يستطع التخلص منها وكانت النتيجة أنه عاد إليها، ظناً منه أن في مقدرته التدخل ومنع ما حدث منذ ثلاثين عاماً.

يبدأ أول مشهد ورجل يقف منتظر إحدى السيارات ولكن لا نعلم أين تحديداً أو المنطقة الموجود فيها، كل ما نعلمه الزمن من خلال إحدى الأغنيات، أغنية ويجز دورك جاي، والتي سرعان ما يختفي صوتها ويعلو صوت منولوج داخلي للبطل  يحدث به نفسه عن ماضيه وما حل به من آلام، فهو الكاتب الذي قرر أن يروي قصة زوجته مستغلاٌ ما في الحكاية من تفاصيل لتحقيق حلمه في أن يصبح كاتباً مشهوراً، وخلال فترة كتابته للرواية كان يمنع زوجته منعاً باتاً من الإطلاع عليها، وفي ذات الوقت الذي يتحدث عن شغفه كان يتعمد بالتوازي التقليل من حبها للموسيقى وعزفها على آلة الهارمونيكا.

كل هذا يؤسس لحالة البطل الذي يعيش في سعادة مع زوجته ولكن هناك شيء ما يخفيه سوف يقلب الأمور ويحول الوضع من السعادة إلى التعاسة والشقاء، ثم عقدة الذنب التي سوف تلازمه طول عمره الباقي، وعندما يعود للمنزل يتذكر في كل ركن فيه ما كان يجري من أحداث، نجدنا أحيانا نجتمع مع الثلاث شخصيات، وأحياناً يختلط الحاضر بالماضي، فنجد أدهم العجوز يقف مكان أدهم الشاب، ثم يجمعهما مشهد أخير قبل أن تكتشف الزوجة حقيقة ما يكتبه زوجها، يحاول فيه أدهم الحاضر أن ينبه أدهم الماضي ويحذره من أفعاله وأنه سوف يتسبب في خسارة كبيرة ولكن الأخير لا يستجيب ويستمر في كبرياءه وتصرفاته التي يرى بها نفسه كاتباً يستحق الشهرة بينما زوجته لا يلقي بالاً لموهبتها بل بالعكس يحاول كبتها وإغراقها في شئون المنزل فقط والتسفيه من آلتها المفضلة، وكلما حاولت أن تعود للعزف لتحقيق حلمها يذكرها بأن العزف يرتبط بقصة حبها القديمة.

في المشهد الأخير قبل وفاتها يترجى أدهم الحاضر أن يغير أدهم الماضي الرواية، ولكن في مشهد يتعمد المخرج جعله مسرحياً إلى حد كبير، يقف أدهم "الماضي" في غرور على الطاولة، ويتحدث عن ذاته، ويقول: "السيدات والسادة معنا الكاتب والروائي والصحفي الكبير أدهم سليمان - يصفق لنفسه- وقراءة في أعظم ما كتب"، الظلام يسيطر على المشهد إلا من ضوء نور مسلط على وجه أدهم وهو يتحدث وفي الخلفية تظهر ستائر المنزل وكأنها ستائر خشبة المسرح، لأنه في الحقيقة ممثل بارع، خدع صديقه وحبيبته، ثم اقتنصها لنفسه وزهد فيها فيما بعد.

بعد قراءة عواطف للرواية بالصدفة في صباح يوم 27 مايو، وهو ذاته يوم عيد ميلادها، تنتحر من شرفة المنزل، ويبقى أدهم جالساً يتابع مع الماضي يتكرر أمام عينيه، وعندما يدرك أنه لا يستطيع اصلاح ما قام به، يتزين متخلصاً من لحيته البيضاء وملابسه غير المنضبطة ويرتدي أفضل ما لديه  ويقرر في خياله أن يقتل أدهم وهو نائم، ولكنه في الحقيقة يقتل نفسه. 

وأنا أتتبع أدهم وأشاهد ما يحدث، كنت أرى في كل مرة أنه يشبه شيئاً ما، أن صفاته هذه قد مرت أمامي في مواضع أخرى، وهنا أضاءت في رأسي كلمة تراجيديا، فأخذت أتجول في كتاب فن الشعر لأرسطو، من ترجمة الدكتور ابراهيم حمادة، ووجدت في جولتي داخله أن المخرج متأثر بشكل كبير بسمات البطل التراجيدي وتفاصيل التراجيديا. 

 
 
 
 
 
 
 

والتراجيديا ليست محاكاة لفعل تام فحسب وإنما هي أيضاً محاكاة لأحداث تثير بطبيعتها انفاعلي الخوف والشفقة وتكون هذه الأحداث أقوى تأثيراً عندما تقع فجأة ويؤيدي أحدهما إلى إلى الآخر، والحبكة الدرامية إما بسيطة أو مركبة، والمركبة تقع عندما يحدث تحول أو تعرف أو بهما معاً على أن يتولدا مع الحبكة تولداً طبيعياً كنتيجة حتمية أو محتملة لما وقع من أحداث سابقة، والتحول هو تغير حظ البطل من السعادة إلى التعاسة ويعتبر التحول والتعرف عنصران رئيسيان في الفعل الدرامي أما الجزء الثالث هو مشهد المعاناة الباعث على الشفقة، ومن الواجب ألا تتضمن التراجيديا نهاية مزدوجة كما يفضل البعض، أحدهما سعيد للانسان الصالح وأخرى مفجعة للانسان السيء وإنما ينبغي أن تتضمن تحولاً واحداً في حظ البطل من حال السعادة إلى حال الشقاء، لا بسبب رذيلة أو شر وإنما بسبب خطأ أو سوء تقدير،وبهذا لن يكون البطل مثالياً إلى حد الكمال وإنما ينتمي إلى المستوى الأخلاقي العام، وينبغي أن تكون الشخصية هدفها الدائم تحقيق الحتمية أو الاحتمال، بمعنى أن أي شخصي يقول أو يفعل كذا ينبغي أن يكون ما يقوله أو يفعله هو النتيجة المحتملة أو الحتمية لشخصيته، وكذلك أي حادثة تتلو الأخرى ينبغي أن يكون التتابع جارياً على مقتضى من طبيعة الأحداث نفسها.

إذا خرجنا من كتاب فن الشعر وعدنا إلى الفيلم مرة أخرى، نجد هذا التتابع الحتمي للأحداث، لأننا بالفعل نشاهد شيء قد وقع منذ سنوات، وبالتالي كل ما يحدث هو إعادة سرد للماضي بعيون البطل، ونحن نسير تجاه النهاية نرى نظرة الإحباط في نظرات أدهم  وهو يعلم تمام العلم أن لا شيء سوف يتغير وأن زوجته ماتت بالفعل، وفي لحظة ينتصر إحساس الندم ويتعاظم شعور الخطيئة التي ارتكبها، فيقرر قتل ذاته، متطهراً مما فعل.

 

هل الخطيئة فقط.. أم اكتئاب الحنين إلى الماضي 

نشأ مصطلح " الحنين إلى الماضي " من اليونانية القديمة عبر اللاتينية الجديدة، وهو مركب من جذر الكلمات "nostos" التي تعني "الوطن" و "algos" التي تعني "الألم"، في الأساس كان يشير إلى ألم الابتعاد عن المنزل، كانت المرة الأولى التي بدأ فيها استخدام "الحنين إلى الماضي" في سويسرا في القرن السابع عشر، عندما وصفها الطبيب يوهانس هوفر بأنها حالة خاصة بالجنود السويسريين المرتزقة، ووفقًا له، فإن الحنين إلى الماضي نتج عن فرق حاد يسبب ضغطًا مفرطًا في الجسم، يؤثر على شعور الشخص، ومع بداية القرن العشرين، كان الحنين إلى الماضي يعتبر اضطرابًا نفسيًا، وشملت الأعراض القلق والحزن والأرق، وبحلول منتصف القرن العشرين اعتبرت المقاربات الديناميكية النفسية الحنين إلى الماضي رغبة لاشعورية للعودة إلى مرحلة مبكرة من الحياة، وتم تصنيفها على أنها اضطراب قمعي قهري، بعد ذلك بوقت قصير وصف أنه نوع من الاكتئاب، يتسم بشعور الفقد والحزن. 

يقول الدكتور ماثيو بولاند، طبيب نفسي إكلينيكي في مجال الصحة العقلية في رينو ، نيفادا، يمكن أن يثير النظر إلى الماضي أعراض الاكتئاب عندما يعتقد الفرد أن الحاضر لا يرقى إلى المستوى الذي تمناه، قد يصاحب ذلك شعور بالذنب، كجزء من أعراض الاكتئاب، ويعود ذلك لخذلان أحد الأحباء وعدم تنفيذ الوعود تجاهه، ومن خلال العديد من دراسات اليوميات، وجد الباحثون أدلة تشير إلى أن الحنين إلى الماضي يمكن أن يخلق في بعض الأحيان حلقة من الضيق والوصول إلى الإكتئاب، وغالبًا ما يظهر الحنين إلى الماضي عند التفكير في الأحباء، ويزداد الشعور السلبي إذا كان فقدان أحد الأحبة لم يتم بصورة مُرضية.

إذا أسقطنا هذه التفاصيل المرتبطة بمشاعر الحزن ثم الندم والاكتئاب الشديد، على شخصية أدهم، سوف نجده يعاني من حالة حنين شديدة إلى الماضي، عند وصوله إلى المنزل أول ما اجتمع به كان مجموعة من الصور له وزوجته وقصاقيص من صحف قديمة تحمل خبر انتحار الزوجة، وجلس وسطهم، وفي مشهد آخر  جلس أمام صورة زواجه منها، وفي الخلفية نستمع إلى صوت محمد عبدالوهاب، وهو يدندن ويقول: "امته الزمان يسمح يا جميل"، لتعبر هذه الأغنية عن شخصية البطل، كما عبرت الأغنية المفعمة بالحيوية والحب "تعالى جنبي" عن صوت البطلة وشخصيتها منذ بداية ظهورها وحتى النهاية، كل هذه الذكريات لم يخرج منها البطل وظل سجيناً لها، حتى عادت به حيث بدأ، من مكان مجهول ينتقل في بداية الأحداث إلى مكان معلوم يمثل معلومية البطل بالماضي وعدم اكتراثه بالحاضر مطلقاً وما يعنيه له، وهذه الحالة من الحنين إلى الماضي المبني على شعور بالندم لفراقه حبيبته بصورة غير مرضية أدت إلى تكون هذا الشعور بالاكتئاب ثم الاندفاع إلى لحظات الانتحار.

ونلاحظ من خلال إشارتنا لتوظيف الأغاني في أكثر من موضع سابق، أنها كانت ذات دور قوي في العمل ككل، ليس فقط للتعبير عن الشخصيات، وإنما للتعبير عن الزمان والمكان وحالة الانتقال من الحاضر إلى الماضي، ففي البداية نستمع إلى أغنية ويجز  ثم تتلاشى مع توجه البطل اتجاه مسكنه القديم، أي إلى الماضي، ثم تظهر أغاني زمن آخر مختلف كلياً.

سينماتك في ـ  04 ديسمبر 2021

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004