إبراهيم العريس:
منذ أسابيع قليلة، صدر للناقد السينمائي اللبناني الزميل إبراهيم العريس كتاب جديد بعنوان "سينما الإنسان"، في "سلسلة الفن السابع"، عن منشورات "وزارة الثقافة، المؤسسة العامة للسينما" في سوريا (دمشق، الطبعة الأولى، 2003)، مُقدّما قراءة في حياة عشرة سينمائيين وأفلامهم المتنوّعة، ثلاثة منهم مصريين، هم: يوسف شاهين وكمال الشيخ وصلاح أبوسيف، والآخرون من جنسيات مختلفة: إنغمار برغمان ومارتن سكورسيزي وستانلي كيوبريك ولوتشينو فيسكونتي وفيديريكو فيلّيني وديفيد لينش وكريستوف كياسلوفسكي. بهذه المناسبة، أجرت "السفير" حوارا معه.
سبب ذلك كامن في عدم اهتمام دور النشر، في لبنان والعواصم العربية، بنشر الكتب السينمائية. لا أحد يريد نشر هذا النوع من الكتب والدراسات. الكتاب الوحيد الذي نشرته في خلال الأعوام العشرين الفائتة، أي منذ الفورة الأولى للكتب السينمائية في أواخر السبعينيات، كان عن المخرج السينمائي اللبناني الراحل مارون بغدادي، بعنوان "الحلم المعلّق"، نُشر ليس فقط لأنه كتاب عن السينما، بل انطلاقا من الحادثة التي ذهب ضحيتها بغدادي، وعن دار نشر (دار النهار للنشر) لم تنشر كتابا سينمائيا واحدا لا قبله ولا بعده.
هذا صحيح، فالدار أصدرت هذا الكتاب الجميل للزميل سويد، لكنه لم يكن كتابا نقديا عن السينما، بل عن بيروت وصالاتها السينمائية، وهذا شيء آخر مختلف تماما عن الكتب النقدية المتعلّقة بالثقافة السينمائية. زمن الاستسهال
هناك سبب آخر أيضا: ميل مشاهدي السينما ومتابعي الأفلام إلى تثقيف الذات سينمائيا بشكل علمي ومعرفي، وربما أيضا بشكل نضالي، في ذلك الحين. أعتقد، أيضا، أن الإقبال الكبير الذي عرفته الكتب السينمائية حينها، نبع من رغبة في مواكبة ما كان يُعتبر أعوام النهاية للسينما، أو لنوع سينمائيّ على الأقلّ (سينما المؤلّف، أو سينما التيارات أو سينما القضايا أو السينما الجديدة، إلخ.)، بات من دون أثر تقريبا في أيامنا هذه. لم تشهد المرحلة نفسها ازدهار الكتب السينمائية فقط، بل أيضا ازدهار النوادي السينمائية والزوايا الصحافية السينمائية التي كانت تُقرأ على نطاق واسع، قبل أن يأتي أصحاب الصحف ومسؤولوها ليقولوا لنا (ركّزوا على النجوم والفضائيات، وما إلى ذلك).
لا، هناك جيل جديد من النقّاد الشباب المتميّز بسمات خاصة به، استفاد من الجيل السابق. لكن المشكلة ليست في وجود جيل نقدي أو في غيابه، بل ما حصل في الحياة الثقافية والصحافية العربية عموما، من استسهال كل ما يدفع إلى التفكير وتغييبه، لصالح المعلومات والرواج وما يشبه ذلك. في الماضي، كانت الصحافة والثقافة تحتملان جزءا من رسولية ثقافية ونضالية معينة. الآن، بات الهمّ الصحافي تجاريا ليس أكثر. في الماضي، كان سيّد الصحافة اسمه غسان تويني أو طلال سلمان. اليوم، بات المُعلن سيد الصحافة، ولك أن تتخيّل الباقي. في الماضي، كانت الصحافة تُموّل مما كان يُسمّى "دولا تقدّمية"، لأهداف ثقافية، وربما لـ"أهداف ثقافية مزيّفة". حاليا، تبدّلت الأحوال، وبات صعبا حسم مسألة التمويل هذه.
في الحقيقة، لم أُصدر الكتاب إلاّ بتشجيع من الصديق الناقد محمد الأحمد، الذي سُلّم في دمشق، بصدفة مدهشة، مقدرات "المؤسسة العامة للسينما" في سوريا. إنه ناقد وسينمائي مثلنا، منفتح وليبرالي لا يُقدّم السياسة والإيديولوجيا على الفكر والفن. لذا، ما إن عرف بأن لديّ كتابا، حتى ألحّ عليّ بنشره في دمشق، في "سلسلة الفن السابع". وافقت، ونلت مكافأة عليه تفوق ما كان يُدفع لي من دور النشر التجارية. أعجبه الكتاب، فطلب مني، والزميل بندر عبد الحميد، أن أعطيهم ما لديّ من كتب جاهزة للنشر، لا سيما الكتاب الذي أنجزته مؤخّرا عن يوسف شاهين وسينماه. واضح أن أهدافهما ليست تجارية ولا إيديولوجية، وفي هذا ما يعطي أملا لغيري من النقّاد، فيجدوا قنوات لكتبهم، حين تنسدّ في وجوههم الآفاق الأخرى.
جوابي على سؤالك هذا ذكرته لك أعلاه: ما من أحد من النقّاد، زملائي أو أنا، تلقّى طلبا من دار نشر معينة للتفرّغ لبعض الوقت لوضع كتاب نقدي تتولّى نشره. الحلّ، بالنسبة إليّ، وسطي. ذلك أن ما يضمّه كتابي الأخير <<سينما الإنسان>> ليس مقالات صحفية فقط، جمعتها في كتاب، بل مجموعة دراسات نشرتها متفرّقة في مجلات فصلية، بعضها نُشر أيضا بلغات أجنبية كالإيطالية والفرنسية والإنكليزية، علما أني وضعتها بذهنية "الدراسة المُعمّقة". هذا كلّه لا يعفيني من ضرورة العمل، فعليا، على وضع كتب حقيقية، حين تسنح لي فرصة ما. الكتاب المقبل (سينما يوسف شاهين) ينتمي إلى هذا النوع، إذ إني وضعته أصلا ككتاب، بناء على طلب من وزارة الثقافة المصرية، التي تنصّلت من إصداره فيما بعد، إثر إلغاء المناسبة التي استدعت وضع كتاب كهذا، وهي تكريم شاهين في "المهرجان القومي للسينما المصرية". لذا، قررت إصداره في دمشق.
في الحقيقة، هذا نوع من الكتب ليس على النقّاد والصحافيين أن يضعوه، إذ إنه من مهام الباحثين والجامعيين. لكن مراكز الأبحاث والجامعات في بلادنا العربية لا تزال متخلّفة إلى درجة أنها لم تُدرك، بعد مرور أكثر من مئة عام على ولادة السينما، أن السينما ثقافة وبحث وتعمّق. لو أدركت هذه الجامعات (مثل "اليسوعية" و"ألبا" وغيرهما في بيروت)، لوجّهت طلابها ليس فقط إلى أن يكونوا تقنيين جديين، كما يحدث أحيانا اليوم، بل أيضا إلى أن يكونوا باحثين ودارسين في الشؤون السينمائية المختلفة، فيكونوا بالتالي أساتذة أو نقّادا أو صحافيين متخصّصين. هناك أمور كثيرة يُمكن دراستها وبحثها في السينما العربية. تحضرني هنا حكاية ذات دلالة حدثت معي قبل أيام: ضمّتني جلسة خاصة والشاعر أدونيس والباحث والروائي حليم بركات، أجرينا فيها نقاش حول الكتاب المهم والضخم لبركات عن المجتمع العربي، والتأثيرات الثقافية فيه. ولما جاء دوري للكلام، أخذت على بركات عدم تطرّقه، ولو بسطر واحد، إلى تأثير السينما في المجتمعات العربية، وفي خلق الذهنيات العربية. فدُهش بركات وأدونيس معا أمام ملاحظتي، قبل أن ينتبها إلى خطورة النقص الذي يعانيه علم الاجتماع العربي، غير المُنتبه لغاية الآن إلى أن السينما والتلفزة تشكّلان جانبا أساسيا في تكوين العقليات العربية، في خلال القرن العشرين. فهل تريد من صحافي يلهث يوميا وراء لقمة العيش، ويمضي وقته في البحث عن المعلومات اللازمة ومشاهدة الأفلام، أن يشتغل في مثل هذه الأمور التي تعرف أن لها أقساما خاصة وغنية جدا في الجامعات العالمية المختلفة؟ هناك كتب سينمائية مهمة للغاية وضعت بلغات عالمية عدّة، ومنها الصينية واليابانية، صدرت عن جامعات ومراكز أبحاث ودراسات. بعض هذه الكتب قادرة على أن "تُعيّش" كتّابه إلى أبد الآبدين.
هذه الملاحظة صحيحة. ولعلّ مردها أنه بإمكان الباحث أن يعثر، في خلال دراسته نتاجا سينمائيا ما لأحد المخرجين الكبار في السينما العالمية، على وحدة موضوعية، وتناسقا أسلوبيا، يمكّنه من أن يدرس هذا النتاج كمنظومة فكرية لديها ما تقوله، وخصوصا لديها الكيفية التي بها تقوله. هذا غائب عن معظم المخرجين العرب، على الأقلّ أولئك المنتمين إلى أجيال الخمسينيات والستينيات، ومنهم صلاح أبو سيف وكمال الشيخ، اللذين دفعتني مناسبتين مختلفتين إلى الاكتفاء بعرض مبسّط لأعمالهما ولسيرتيهما الذاتيتين، يتقاطع مع حوارين أجريتهما معهما. مع احترامي الشديد أعمالهما ومكانتهما في السينما العربية، لا أعتقد أنه بإمكاني الوصول إلى وضع دراسة معمّقة عن كل واحد منهما، حتى ولو انصرفت كلّيا إلى ذلك، على نقيض أسماء أخرى كيوسف شاهين ومحمد ملص ويسري نصر الله ونوري بو زيدوغيرهم، وهذا موضوع آخر أتركه لكتب أو دراسات لاحقة لي. مع هذا، لا أبرّر ما يبدو تقصيرا مني. لكن، هذا هو السبب الحقيقي برأيي. فهل كان عليّ ألاّ أُدخل هاتين المقالتين في "سينما الإنسان"؟ ربما. غير أني أعتقد أن وجودهما بهذا الشكل خير من ألاّ يوجدا أبدا. جريدة السفير في 27 يناير 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
إبراهيم العريس* بمناسبة صدور كتابه الجديد لا أحد ينشر أو يسعى إلى نشر كتاب عن السينما السبب هو ضحالة الحياة الثقافية العربية حاوره: نديم جرجورة |
* ناقد وصحافي لبناني ولد في العام 1946م في بيروت، ألف وترجم عدداً من الكتب الفنية والسياسية والإقتصادية. من مؤلفاته السينمائيية: (الصورة والواقع)، و(الكتابة في الزمن المتغير)، و(رحلة في السينما العربية). كما أصدر كتاباً عن (شابلن)، وآخر عن (هيتشكوك)... يشرف حالياً على ملحق "سينما وفضائيات" الأسبوعي، والذي تصدره جريدة الحياة اليومية.
|