أرجو ألا تفوتك فرصة مشاهدة فيلم “ضائع في الترجمة” الذي حصل مؤخراً على جائزة “الجولدن جلوب” لأحسن فيلم كوميدي فهذا هو الوجه الآخر الذي لا يتاح لنا كثيرا أن نشاهده من السينما الأمريكية، الوجه الهادئ المتأمل الذي يتخلى بتواضع فني حقيقي عن ذلك الشعور الهوليوودي بالتفوق والغطرسة، الوجه الذي لا يخجل من أن يعترف بتأثره بأساليب من السينما الأوروبية واليابانية.. إنني أدعوك إلى مشاهدة فيلم “ضائع في الترجمة” لأنه ليس من ذلك النوع من الأفلام التي تصاحبها حملات دعائية ضخمة، لأنه لا يهتم بالبريق الزائف الذي يخطف الأبصار سواء من خلال نجوم مشهورين أو بهلوانيات تقنية شديدة الإبهار، ومع ذلك فإنه عمل سينمائي متميز بحق، سوف يشق طريقه باستحقاق إلى بعض جوائز الأوسكار، وان كانت فرصته ضئيلة للفوز أمام “سيمفونية” صاخبة مثل “سيد الخواتم”، بينما يشبه فيلم “ضائع في الترجمة” رباعية وترية تحتاج لقدر غير قليل من التأمل لكي تدرك جوهر المتعة الحسية والعاطفية والعقلية بداخلها. فلنبدأ بالقول ان من الصعب أن تصنف فيلم “ضائع في الترجمة” من خلال تلك التصنيفات التقليدية التي تواضعت عليها هوليوود، وتحولت لدينا في السينما العربية إلى مسوخ مشوهة نطلق عليها أسماء مثل “الكوميديا” أو “أفلام الحركة”، فالفيلم هنا يشبه الحياة التي تستعصي بالطبع على التصنيف والتنميط، ففي الحياة لحظات من المرح والحزن، التفاؤل والتشاؤم، التواصل والوحدة، الانفتاح على العالم أو الانغلاق داخل الذات، الرومانسية الدافئة والعواطف الباردة، وفي الحياة والفيلم شخصيات عادية ضائعة في زحام البشر، لكنها تحاول في هذا الزحام أن تجد لنفسها ونادرا ما تستطيع واحة تستظل فيها من هجوم الحياة. على مستوى القصة لا يحتوي فيلم “ضائع في الترجمة” على أية “أحداث” بالمعنى التقليدي للكلمة، فهو اقرب إلى اقتناص “حالة” بدأت فيما يشبه المصادفة، ولا تنتهي إلى شيء محدد، مثل العديد من حالات اللقاءات والفراق التي تحدث لنا عشرات المرات أو قد لا تحدث على الإطلاق.. يحكي الفيلم عن الرجل الكهل، في الخمسينيات من عمره، بوب هاريس (بيل موراي)، النجم السينمائي الأمريكي الذي بدأت نجوميته في الأفول، وقد ذهب إلى اليابان في رحلة قصيرة لتصوير إعلان عن أحد الخمور اليابانية مقابل مليوني دولار. الرجل يعيش أزمة حقيقية، حين لم يعد متاحا له أن يصنع أفلاما ولم يبق له إلا الظهور في الإعلانات، وهو محاصر بين صورة النجم الذي يجب أن يكون مرحا أمام كاميرا التصوير ومع المعجبين الذين يقتحمون عليه خصوصيته، وبين إحساسه بالوحدة القاتلة وهو بعيد عن وطنه وذاته، بل انك تعرف انه على المستوى الشخصي يعيش حالة من فقدان التواصل مع زوجته التي تعتبره مجرد أداة للحصول على المال والحياة المرفهة. ولتتأمل ذلك المشهد الذي يقبع فيه البطل وحيدا في غرفة الفندق في طوكيو، يتلقى مكالمات من زوجته عبر المحيط لكي تحكي عن أمور تافهة بينما لا تهتم أن تطمئن عليه. يفتح التلفزيون ليفاجأ على الشاشة بواحد من أفلامه السطحية التافهة، فيغلقه لتنعكس على زجاج شاشة التلفزيون صورته كما هو الآن، وحيدا بائسا لا تعرف عيونه طريقها إلى النوم. وبسبب ذلك الأرق، يتسلى الرجل بالسير في أروقة الفندق الياباني الضخم الذي يقيم فيه، لتقوده قدماه إلى حانة الفندق، حيث يجتمع السائحون الأثرياء السكارى الذين يتمايلون على نغمات مغنية أمريكية متواضعة، لكنه يلتقي هناك مع شارولت (سكارليت جوهانسون) الزوجة الأمريكية الشابة التي تعيش بدورها حالة من الأرق والملل، لأن زوجها المصور الفوتوغرافي المشغول دائما بعمله جون (جوفاني ريبسي) تركها في رحلة عمل مع فريق غنائي، وربما كان يخونها مع النجمة الأمريكية المغمورة كيلي (أنا فاريس) لأن نجوميتها الزائفة تخطف أبصاره. العلاقة بين الرجل الكهل والمرأة الشابة تشبه لقاء الخريف بالربيع تبدأ كأنها برعم صغير قد ينكسر بسهولة أو يموت، لكن هذه العلاقة تنمو شيئا فشيئا في تلك الظروف الصعبة لتمثل بيتا زجاجيا صناعيا يمكن للبرعم أن يعيش فيه. إن هاتين الروحين الضائعتين في بلاد غريبة، تتشاركان بلا هدف محدد في اكتشاف ذاتيهما والعالم من حولهما، من خلال رحلة “أوديسية” في طوكيو وفي أعماق النفس في آن واحد، رحلة لا تستغرق إلا بضعة أيام وليال لكنها تكاد أن تلخص عمرا بأكمله. هنا يجب أن نعرف أن كاتبة الفيلم ومخرجته هي صوفيا كوبولا، التي لا يجب أن نكتفي في تعريفها بأنها ابنة فرانسيس فورد كوبولا، فهي ذات أسلوب خاص يتجسد في هذا الفيلم، وسوف نتوقف عنده لاحقا، لكن ما يهمنا في هذا السياق أنها لا تدفع العلاقة بين البطل والبطلة على نحو متعسف في أي اتجاه مقرر سلفا، حتى أنها تبدو كأنها تترك هذه العلاقة للأقدار، مكتفية برصد التفاصيل الصغيرة التي لا تفوت على امرأة وفنانة مرهفة المشاعر والأحاسيس، بل لعلها تقتنص لحظة من الصمت المشحون المتوتر بين البطل والبطلة، تاركة للمتفرج مساحة كافية -لكنها ليست مساحة خالية للتأمل واستخلاص النتائج، لأنها لحظة محتشدة بالفعل بالعديد من الدلالات التي يمكن اكتشافها. وعلى العكس تماما من أفلام هوليوود التقليدية، فإن العلاقة لا تتحول إلى تجاذب جنسي، فعندما يتم من خلال الوعي الناضج إقصاء الرغبة الجنسية في مثل هذه العلاقة فإن الرغبة تتسامى إلى شعور وجداني عميق، يكشف عن نفسه في لحظات الصمت اكثر من لحظات الكلام. إنها علاقة لا يمكن بسهولة أن تطلق عليها اسما، لأنك لو استخدمت الكلمات في وصفها أو ترجمتها فسوف يظل هناك شيء “ضائع في الترجمة”، وعندما يوشك الفيلم أن يصل إلى لحظاته الأخيرة، يحدث اللقاء أو قل الفراق الأخير بين البطل والبطلة، ويهمس في أذنها بشيء لا نسمعه، فلا نعرف على وجه اليقين إذا ما كان للعلاقة أي مستقبل، أو أنها انتهت في تلك اللحظة، فالأهم هو أن لها وجودا يتجاوز الزمن. إننا لا نقلل من شأن الفيلم أبدا إذا قلنا انه بدون “بيل موراي” فربما فقد الفيلم كثيرا من تأثيره، وفي الحقيقة أن صوفيا كوبولا اعترفت في بعض أحاديثها الصحفية بأنها كتبت شخصية البطل وفي ذهنها “بيل موراي” لكي يقوم بتجسيدها، ولعله الأقدر حقا على التعبير عنها حتى انه يتوحد معها أو تتوحد معه. تأمل شخصية النجم الكهل بوب هاريس داخل الفيلم، والممثل بيل موراي خارجه، فكل منهما يشعر أن أعباء النجومية تثقله لكنه لا يريد ايضا أن يتخلى عنها، يرى السنين وهى تمضي بعيدا عنه، يخفي مرارته خلف وجهه المتغضن الذي يشي -في تناقض مذهل بالمرح والحزن، وعن حب الحياة والزهد فيها، برجل تثقل كاهله خبرة حكمة بالحياة لكنه لا يزال بداخله طفل. إنها الحكمة التي تبدو من خلال بيل موراي مجرد ادعاء بمعرفة حقائق الحياة، لكنها في حقيقتها اضطرار للتواؤم والإذعان للقوانين القاسية لهذه الحياة، وسوف يكون استمرارا للظلم الذي وقع على بيل موراي طوال حياته إذا لم ينل ترشيحا للأوسكار عن هذا الفيلم، فقد عانى من اعتباره ممثلا كوميديا اشتهر بنكاته المرتجلة من خلال خبرته الطويلة في الاستعراض التلفزيوني “ليلة السبت على الهواء”، أو بأدائه الذي يبدو سهلا لكنه بالفعل ممتنع، يستخدم اقل الإيماءات والحركات التي تعبر تماما عن الشخصية التي يجسدها. من جانب آخر، فإن من الظلم أيضا أن تظل الاتهامات تطارد الكاتبة والمخرجة صوفيا كوبولا، بأن أباها يساعدها أو أن زوجها المخرج الشاب سبايك جونز، صاحب الأفلام المجنونة مثل “أن تكون جون مالكوفيتش” و”اقتباس” يقوم بإضافة لمساته إلى أفلام زوجته، فالحقيقة أن صوفيا كوبولا تملك أسلوبا خاصا بها، أسلوبا شديد النعومة والرقة، يميل إلى البناء الأفقي “الغنائي” في السرد والمونتاج، دون تصاعد درامي أو إيقاعي في الأحداث، كما تفضل أن تتخذ الكاميرا وضع المراقب المتأمل المحايد إن شئت الدقة فهو يبدو محايدا لأن الكاميرا عندها لا تتدخل باستخدام تقنيات الحركات البهلوانية أو العدسات الغريبة لكي تفرض على المتفرج تفسيرا معينا لما يراه على الشاشة. إنها في ذلك تشبه إلى حد بعيد الفنان التشكيلي ادجار ديجا، الذي كان نسيج وحدة بين الفنانين التأثيريين في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، فبينما انشغل الانطباعيون بالتقنيات، حتى انتهت أعمالهم إلى لوحة واحدة ذات تنويعات عديدة، كان ديجا مشغولا بأن تكون تلك التقنيات وسيلة وليست هدفا في حد ذاتها، وسيلة لاقتناص الحياة وهي في حالة حركة لا تتوقف أو تنقطع.. لكن الأهم هو ألا يكون هذا “الاقتناص” نفسه سبباً في تجميد الحياة داخل العمل الفني، والأكثر أهمية أيضا هو أن هذا الأسلوب لا يقع في خطأ -وخطيئة المذهب التأثيري الذي يقصي الإنسان عن جوهر اللوحة باعتباره “شيئا” مثل بقية الأشياء الأخرى، وحيث يتحول إلى مجرد “لون وضوء”، فأسلوب ادجار ديجا وصوفيا كوبولا (الذي يكاد يتطابق في بعض الكادرات) يحكي دائما عن الإنسان، ذلك الكائن العبقري والبائس في آن. تبقى كلمة عن اسم الفيلم، الذي لابد أن تقع عند ترجمته إلى وجود شيء “ضائع في الترجمة”!! فلهذا الاسم دلالات عديدة، فعلى المستوى القريب قد تجد تفسيره في عدم قدرة البطل الأمريكي على التواصل مع المجتمع الياباني لأن هناك بعض المعاني التي تضيع في الترجمة بين اللغتين، لكن هناك دلالات أخرى، فإن محاولة ترجمة مشاعر البطلين إلى لغة منطوقة سوف تتسبب في ضياع جوهرها، أو لعله الاعتراف شديد الرقة والتواضع من صانعة الفيلم أن من الصعب على أي فنان أن يقدم لك “ترجمة أمينة” للواقع، لأنه على العكس من السينما الأمريكية التقليدية- من الحق القول إن الواقع اكثر ثراء من أي فن يسعى إلى احتوائه. جريدة الخليج في 4 فبراير 2004 |
برتولوتشي: لقاء |
فيلم "ضائع في الترجمة" قصيدة سينمائية تختصر العمر أحمد يوسف |
|