عندما يضرب المحارب زاتوإيشي بسيفه عدوه فيرديه لا يكترث لأن يراه
يهوى على الأرض، ولو اكترث لما استطاع أن يراه، فزاتوإيشي محارب
ساموراي أعمى.. يضرب من دون أن يرى، مستخدما حواسه الأخرى بمهارة
فائقة.. يسمع وينصت ويحدد. يشم ويحفظ ويعرف، وحين يتقدم منه عدو أو
أكثر (وعادة أكثر) يتحرك وسطهم مدركا تماما حركة كل منهم.. من أي
صوب هو قادم وما إذا كان يهجم بسيف مصوب إلى الصدر أو مرفوعا ليهوى
على الرأس.. زاتوإيشي لديه عيون لا نراها موزعة حول رأسه، أو هكذا
يخال المشاهد.
إذ يصل «47 رونين» إلى الصالة المجاورة في كل البلاد العربية
وسواها، يطلق مناسبة الحديث عن واحد من علامات اللقاء بين أساطير
الساموراي اليابانية والعالم المترامي بفعل قيام هوليوود في أكثر
من مناسبة، بينها هذه الأخيرة، باستلهام شخصيات وحكايات الساموراي
في أفلامها.
«رونين» هو الساموراي بعد أن يخسر سيده ولا يجد من يعمل لأجله،
و«47 رونين» قبل أن يكون فيلما من بطولة كيانو ريفز (انظر النقد
أدناه). بالنسبة للمحارب الأعمى زاتوإيشي، فإن الأمر يختلف قليلا..
هو ساموراي المهارة، لكنه ليس «رونين تقليدي» لأنه لم يعمل لحساب
سيد أو مع مجموعة.. هو ذئب وحيد ينتقل من قرية إلى أخرى، في أحداث
تقع في القرن الثامن عشر كمعظم أفلام الساموراي، يتعيش من وراء
تدليك الأبدان ولديه مهارة، ويصرف على لعب القمار حيث يستخدم حاسة
سمعه القصوى، فهو لا يرى الزهر لكنه يعلم إذا ما كان مغشوشا أو أن
راميه قصد رميه على نحو معين لكي يربح. من يستهين بالمحارب الأعمى
قد يندم لو عاش.. معظمهم لا يندم!
* سبعة آخرون مع أن حكايات الرونين (فريق من 47 مقاتل ساموراي
وجدوا أنفسهم مهانين حين تحولوا إلى البطالة ليلجوا بعد ذلك إلى
آخر قتال يحفظ لهم كرامتهم)، والزاتوإيشي موجودة في عمق الثقافة
اليابانية منذ مطلع القرن العشرين، وفي السينما منذ 1928، إلا أن «الساموراي
السبعة» للمخرج أكيرا كوروساوا (1954) هو من عرف غير اليابانيين
بهذا الرعيل من المحاربين المهرة. في ذلك الفيلم الذي كتبه ثلاثة
بينهم كوروساوا نفسه وخرج من مهرجان فينيسيا بالجائزة الفضية في
عام إنتاجه، سبعة محاربين يعيشون تلك البطالة وشعورهم المر
بالإهانة والعدمية عندما يتقدم إليهم قرويون يسألونهم مساعدتهم في
درء عصابة من اللصوص اعتادت سرقة محصولاتهم في هذا الوقت من كل
عام. ليس لدى المزارعين أي مال، لكنهم سيوفرون لهم الطعام والمأوى.
عرض يقبل به الساموراي، فبطونهم خاوية ويفتقدون إلى سقف فوق
رؤوسهم. كوروساوا بعد ذلك يلج الفصل الثاني، وهو تدريب القرويين
على القتال، وبعده الفصل الذروة حيث تغير العصابة على القرية
لتكتشف قوة دفاعاتها ولتدور بعد ذلك معارك كر وفر يبلي بها
الساموراي وأهالي القرية بلاءا رائعا.
هوليوود التقطت الفكرة وأطلقت سنة 1960 نسختها من ذلك الفيلم
الياباني. السبعة المعنيون باتوا أميركيين متشرذمين يعيشون جنوبي
الحدود المكسيكية.. يلم شملهم اثنان (يول براينر وستيف ماكوين)
لتأليف عصبة تدافع عن أولئك القرويين المساكين الذين جاءوا طالبين
الحماية من عصابة شرسة (يقودها إيلاي والاك). الفيلم حمل عنوان
«السبعة الرائعون» وأخرجه جون سترجز، خبير من خبراء سينما الـ«وسترن»،
وجرى نزع عنصر الساموراي تماما منه، فالمحاربون، من الطرفين،
يقاتلون بالأسلحة النارية وحدها. وفي حين أن «الساموراي السبعة» خص
العصابة بالسلاح الناري للإيعاز بنهاية فترة من البطولة كان فيها
المتحاربون يكتفون باستخدام السيوف، فإنه لا شيء من الجديد – ضد –
القديم، ولا طروحات حول الكرامة والعزة النفسية، يحوم فوق القصة
الأميركية وشخصياتها.
بسبب نجاحه، جرى تحقيق ثلاثة أفلام أخرى مشتقة هي «عودة السبعة»
(إخراج بيرت كندي - 1966) و«مسدسات الرائعون السبعة» (بول وندكوس -
1969) و«الرائعون السبعة يغزون» (جورج ماكغووَن - 1972).
* ساموراي فرنسا لكن المقارنة بين سيف الساموراي ووحدة صاحبه، وبين
البطل التقليدي في الغرب الأميركي جرت منذ الفيلم الأول.. كليهما
وحيد وجدانيا إن لم يكن فعليا.. كليهما يحارب في سبيل مبدأ،
وكليهما مسلح بما هو ماهر في استخدامه.. لكن السيف بقي لامعا،
وهوليوود توسمت فيه خيرا أكثر من مرة.
ففي عام 1971 استقدمت شركة أميركية (اسمها «لس فيلمز كورونا»)
الممثل الياباني توشيرو مفيوني ليكون واحدا من أربع شخصيات تقود
بطولة فيلم بعنوان «شمس حمراء»، قام بإخراجه ترنس يونغ الخارج من
سلسلة «جيمس بوند»، الأولى: وسترن حول عصبة متنافرة تضم الأميركي
تشارلز برونسون، والسويسرية أرسولا آندرس، والفرنسي ألان ديلون،
والياباني مفيوني، وتقود معارك ضد بيض أشرار حينا وضد الهنود الحمر
حينا، وعندما لا تواجه أعداءها تواجه بعضها بعضا. الرجلان الغربيان
(برونسون وديلون) يتقاتلان على ثروة، لكن همّ مفيوني هو استعادة
سيف ساموراي مقدس ضاع من سيده عندما حط في الغرب الأميركي.
اختيار مفيوني لم يكن اعتباطيا بالطبع، لأن الممثل كان تميز في
«الساموراي السبعة» لاعبا شخصية الساموراي الأكثر تهورا من بين
والأكثر فتكا، ولعب بعد ذلك أدوارا في أفلام ساموراي عديدة، مكونا
في الغرب الرغبة في الاستعانة به لتأدية ما يجيده في الشرق.
طبعا ألان ديلون كان العنوان المجسد في ترجمة المخرج الفرنسي جان -
بيير ملفيل لمفهوم المحارب الياباني في «الساموراي» (1967): كل شيء
فرنسي هنا باستثناء ذلك التجسيد للعنوان والاقتباس المشهدي من
سينما «الفيلم نوار» الأميركي. هنا لا يلتقي ديلون مع شخصية مفيوني
لأنه لن يمارس الساموراي، لكنه سيستلهم وجوده من شخصية ألان لاد في
فيلم «هذا المسدس للإيجار» الذي قام فرانك تاتل بإخراجه سنة 1942.
لكن هوليوود لم تتوقف عن الاستعارة من الساموراي وشخصياتها:
المحارب الأعمى زاتوإيتشي انقلب إلى محارب ساموراي أميركي اسمه نك
باركر (أداه روتغر هاور) في فيلم فيليب نويس «فورة عمياء». اسم «رونين»
ومفاده استخدم في فيلم الأكشن «رونين» بطولة روبرت دينيرو وجان
رينو وستيلان سكارسغارد وإخراج جون فرانكنهايمر سنة 1989. وهناك
ساموراي أسود (فورست ويتيكر) في فيلم جيم يارموش «كلب شبح: طريقة
الساموراي» (1999)، ولا ننسى تأثر المخرج كونتين تارانتينو بثقافة
الساموراي واستخدامها بفعالية في فيلمه «أقتل بل» و«أقتل بل 2».
* أميركي في اليابان
* «إذا لم يأت إليك فاذهب أنت إليه».. وهوليوود ذهبت إلى اليابان
أكثر من مرة لتصوير أفلام ساموراي مختلفة. ثلاثة منها هي الأكثر
حضورا لليوم: «ياكوزا» لسيدني بولاك حيث يهب روبرت ميتشوم لإنقاذ
صديقه الياباني من غضبة العصابة، و«آخر الساموراي» لإدوارد زويك
(2003) عندما يترك توم كروز الغرب الأميركي ويلتحق بمقاتلي
الساموراي، وبينهما «مطر أسود» مع رجل البوليس مايكل دوغلاس الذي
يعيش مغامرة حياته في طوكيو تحت إدارة ريدلي سكوت.
شاشة الناقد
حتى الموت
الفيلم: «47Ronin»
إخراج: كارل رينش تقييم الناقد:(3*)(من خمسة).
بعد 10 سنوات على قيام توم كروز بتمثيل «آخر الساموراي»، انتقل
كيانو ريفز إلى اليابان لفيلم جديد هو «47 رونين». فيلم كروز نص
على شخصية من القرن الثامن عشر تعيد اكتشاف معنى الحياة والمبادئ
عندما تترك الغرب الأميركي صوب إمبراطورية الشمس. لكن ريفز يؤدي
شخصية هجينية: والده، كما يقول الفيلم سريعا، بريطاني وأمه يابانية
التقيا وأنجبا هذا الولد الذي يبدو بلا أصل. الولد شب منبوذا وكاد
يموت كذلك لولا أن الرونين بقيادة أويشي (هيرويوكي سانادا) عدّوه
واحدا منهم بعدما أبلى بلاءا حسنا في أكثر من واقعة.
كيانو ريفز، الخارج من شخصية نصف صينية في «رجل تاي تشي» قبل عام،
ممثل من مستوى تعبيري واحد، لكنه المستوى المطلوب هنا، وهو لا
يستطيع أن يحيد عنه حتى عندما يكون من المفترض به التعبير عن الحب
الهائل الذي يشعر به حيال بطلة الفيلم كو شيباساكي. بما أن الفيلم
لا يطلب بالضرورة قدرات أنطوني هوبكنز أو آل باتشينو التعبيرية،
فإن مراقبة صولات وجولات ريفز تنسجم مع عمل مليء بالمواقع الخالطة
بين التراث الياباني والفانتازيا الغرائبية ومعارك السيوف والذود
عن المبادئ ضد الأشرار والأرواح الداكنة في نفوس الأعداء.
التراث الياباني مليء بمفاهيم الحياة والموت، والحياة بعد الموت.
وفيلم كارل رينش يتعامل معها باحترام كما مع ثقافة الأساطير
الشعبية. لا يحاول أن يقتنص منها أو يسخر؛ بل يعززها بحكاية مكتوبة
لإبراز المبادئ التي يكتنزها المحاربون اليابانيون. وعلى القدر
ذاته من الأهمية، هناك حقيقة أن ريفز لا يؤدي دور الأميركي الذي
لولاه لما استطاع الخيرون في الفيلم تحقيق النصر، بل هو واحد من
المحاربين يكاد عدد لقطاته يتساوى مع عدد لقطات سواه من الممثلين.
في هذا الصدد من المنعش والمختلف أن ريفز ليس النجم الرئيس بالنسبة
للجمهور الغربي (كما هي الحال كلما جرى اختيار ممثل أميركي في
حكاية تقع خارج البلاد) بل واحد من عوامل الجذب العامة. والمثير
هنا هو أن هذا العامل لم يحقق المرجو منه جماهيريا لا في أميركا
ولا في سواها. إيرادات الأسبوع الأول لم تزد على خمسين مليون دولار
بعدما ارتفعت التكلفة، حسب مصادر لا تنفيها «يونيفرسال»، إلى 200
مليون دولار.
لكن الأكثر إثارة للاستغراب موقف النقاد الأميركيين من الفيلم:
واحد فقط أبدى إعجابه وتحبيذه مقابل 20 ناقد تحفظ عليه أو هاجمه.
«47 رونين» بعيد عن أن يكون تحفة، لكنه ليس الفيلم الذي تستطيع أن
تجد فيه الكثير من العيوب.. ليس عملا رديئا في مطلق الأحوال. كارل
رينش لديه عين رائعة حين يأتي الأمر لاستخدام عناصر صورة طبيعية أو
مفبركة بواسطة الدجيتال. دائما ما يصنع صورة مثيرة.
ما يخفق به الفيلم عاملان: المشهد المفصلي الذي يدور حول ما أدى
لانتحار اللورد أسانو (مين تاناكا) ليس مقنعا، وزكذلك إلقاء بعض
الممثلين اليابانيين جملهم المنطوقة إنجليزيا مما يجعلهم غير
قادرين على منح الحوار بعض الروح غير المفتعلة وغير الباردة حينا
آخر. النهاية، التي لا ضرورة للكشف عنها هنا، تدخل أيضا في نطاق
التجاذب: من ناحية تعكس الالتزام بواقع ما حدث، ومن ناحية أخرى
تطرح تساؤلات. تنفيذ المعارك من صنف أول. ينتقل المخرج ما بين
إدارة ممثليه جيدا إلى دمجهم بالمؤثرات الخاصة بالإجادة ذاتها
خالقا ساعتين مثيرتين دراميا وترفيهيا. المثير هنا هو أنه رغم
الاعتماد كليا على مؤثرات الدجيتال والـ«كومبيوتر غرافيكس»، فإن
هناك حبا واضحا لسينما قديمة تتعاطى مفاهيم البطولة والحب
والتضحية.
بين الأفلام
أفلام قد لا تجد طريقها للعرض
The Secret Life of Walter Mitty
«الحياة السرية لوولتر ميتي»(2*)
* مجلة «لايف» تمتعت بحياة رغدة لمعظم سنوات حياتها بين 1883 و1972
عندما توقفت عن الصدور أسبوعيا قبل أن تتحول إلى شهرية ثم تتوقف عن
الصدور سنة 2007. فيلم بن ستيلر الجديد «الحياة السرية لوولتر ميتي»
مستوحى من قصة قصيرة كتبها جيمس ثوبر ونشرها على صفحتين من صفحات
مجلة «ذا نيويوركر» القيمة في الثلاثينات. ومنذ 20 سنة وهوليوود
تحاول تقديمها للمرة الثانية (هناك فيلم عنها تحت العنوان ذاته
أخرجه نورمان مكلاود سنة 1947). أخيرا بن ستيلر يحقق الفيلم الذي
يحتوي على شخصية ذلك الموظف العامل في قسم الإنتاج في المجلة التي
تحضر لتقديم آخر عدد لها. التواريخ تتضارب هنا، ففي السبعينات لم
تكن هناك هواتف جولة، لكن الفيلم يعمل على أساس أن الأحداث تقع
اليوم. لكن المشكلة الفعلية هي أن ستيلر ليس مخرجا جيدا. برهن على
ذلك في «رعد استوائي» (2008)، ويؤكده هنا.. ضعفه هو السياق السردي
وإدارة الممثلين.
Grudge Match
«ثور هائج»(2*)
* وراء روبرت دينيرو دور رائع في «ثور هائج» (1988) ووراء سيلفستر
ستالون دور ناجح في «روكي» (1976).. لم لا نشوه الإنجازين السابقين
بجمعهما معا؟ وهكذا كان: «مباراة ضغينة» قائم على حبكة حول ملاكمين
لعب كلاهما ضد الآخر قبل 30 سنة والآن - وبعد أن ترهلت عضلاتهما -
يجري جمعهما من جديد في مباراة حاسمة! هل استنفدت الفكرة أكثر من
ربع ساعة لتكوين حكاية منها؟ مثل «روكي 2» (أخرجه ستالون نفسه سنة
1979)، يلعب التلفزيون هنا دورا في إعادة الحياة إلى جهازين عاطلين
عن العمل.. في دفع المنافسة إلى حدتها الإعلامية، وما على الفيلم
سوى الانتقال من موقف سخيف إلى موقف سخيف آخر.
Tokyo Story
«قصة طوكيو»(4*)
* ليست هناك سينما مثل سينما ياسوجيرو أوزو، وليس هناك فيلم مثل
«قصة طوكيو» التي أخرجها سنة 1953 والذي ينطلق على أسطوانات هذا
الأسبوع. حكاية زوجين متقدمين سنا يقرران أن الوقت قد حان لزيارة
أولادهما في مدينة طوكيو. يفعلان ذلك ويفاجآن بالمواقف حيالهما. لا
شيء لا يستطيع مخرج آخر تقديمه، لكن ما يوفره أوزو هنا خاص به:
معايشة ملهمة لواقع هو خاص وعام في الوقت ذاته.. أبعاد إنسانية
مؤثرة مع بعد تام لأي عنصر ميلودرامي. تنقيب اجتماعي - ثقافي
ياباني خالص في حكاية قد تقع في أي مكان آخر على سطح الأرض.
سنوات السينما: 1939
وقفة ثانية مع الأوسكار
المنافسة على أوسكار أفضل تمثيل كانت حادة بين جيمس كاغني عن
«ملائكة بوجوه متسخة»، وتشارلز بوير عن «الجزائر»، وروبرت دونات عن
«الحصن»، ولسلي هوارد عن «بيغماليون»، وسبنسر ترايسي عن «فتيان
البلدة»، ونالها الأخير فيما يشبه اقتناصا.
بالنسبة للممثلات بيتي ديفيز فازت بأوسكار أفضل ممثلة عن «جيزابل»
في مقابل مجموعة من الممثلات بعضهن أقل شهرة: مرغريت سولافان عن
«ثلاثة رفاق»، ونورما شيرر عن «ماريا أنطوانيت»، ووندي هيلر عن «بيغماليون»،
ثم فاي باينتر عن «رايات بيضاء»، لكن الأخيرة فازت بوصفها ممثلة
مساندة عن دورها في «جيزابل».
المخرج المتوج كان فرانك كابرا عن «لا تستطيع أخذها معك» ضد مايكل
كورتيز الذي تبارى بفيلمين هما «ملائكة بوجوه متسخة» و«أربع بنات»،
وضد نورمان توروغ عن «فتيان البلدة»، ثم كينغ فيدور عن «الحصن».
المشهد
أزمة بلا سينما
ما بين 1973 و2013 أربعون سنة تغيرت فيها أحوال كثيرة في عالمنا
كله. من العبث التوقف عند ذكر التغيرات فهي تشمل كل شيء.. ما من
شيء يتنفس بقي كما هو.. لا الإنسان ولا البيئة، ولا الحياة البحرية
أو النباتات أو مصادر المياه أو أقل من ذلك وأكثر. كل شيء تغير
باستثناء شيء واحد يسمونه «واقع السينما العربية». هذه، نظريا، لا
تزال مطروحة بوصفها مشكلة تراوح في مكانها. نعم، في عام 1973 عقدت
ندوة على هامش مهرجان دمشق السينمائي تنادى خلالها المجتمعون ببحث
واقع السينما العربية وما مستقبلها محتمل الحدوث. بعض الذين حضروا
ندوة 1973 كانوا موجودين في ندوة 2013 التي دعا إليها مركز دراسات
الوحدة العربية، وهو مركز جاد ومرموق وضم عددا من النقاد
والمتحدثين بلغة النقد، وانتهت أعمالها في الوقت المناسب قبل حلول
الأعياد الأخيرة. كل واحد من الحاضرين خاض متسائلا وشارحا ومحللا،
ثم عاد من حيث أتى. البعض دعا إلى إجراء مثل هذه الندوات البناءة
مرة كل سنة.
وهي بالفعل لم تتوقف تماما منذ سنة 1973 إلى اليوم.. ربما لم تقع
في كل عام، لكن الحديث ذاته (وعندي نصوص الندوة المشار إليها)
والعناوين نفسها والمتحدثين، أحيانا هم أيضا «على حطة إيدك» لا
يتغيرون. كيف سيتغيرون إذا كان الموضوع الكبير لا يتغير: وضع
السينما العربية اليوم وملامحها المستقبلية. دائما ما يدور الموضوع
حول «أزمة» السينما العربية والحلول المقترحة لها. أحيانا ما تتخذ
الندوات والمؤتمرات والكتابات عنوانا بات كاريكاتوريا هو: «السينما
العربية إلى أين؟».
لا بد أننا الدول الوحيدة في العالم الأكثر انشغالا بهذا الموضوع
من أي مجموعة دول أخرى متجانسة. هناك بالطبع مكتب أوروبي يتبع
الاتحاد الأوروبي يرصد سينمات دوله ويعاين أوضاعها، لكن السينمات
الأوروبية موجودة فعليا بصفتها صناعات داخل كل بلد على حدة. وهناك
اتحاد سياسي واقتصادي وثقافي وأمني أدى طبيعيا إلى تفعيل هيئات
رسمية فاعلة لحل أي قضية أو تفعيل أي قرار من شأنه تنشيط هذه
السينمات. لا أحد يتحدث عن «أزمات» قدر حديثنا نحن. وفوق كل هذا لا
نصل إلى قرارات وحلول.. كيف نفعل ذلك وليس هناك، حسب المنشور من
نصوص الندوة الأخيرة، اتفاق على ماهية هذه الأزمة؟
يدخل المرء ندوات كهذه ليجد أن عدد الأزمات هي بعدد المتحدثين.. كل
يرى أزمة ما أو يفسر الأزمة الواحدة حسب رؤيته.. والأفكار غزيرة..
هذا يقترح مجلة سينمائية فصلية، وذاك يريدها شهرية، لكن الثالث
يرفضها تماما.. آخر يقول إن الأزمة تستدعي إعادة خلق مجتمع
سينمائي، لكن آخر يجد أن الفنون تتصارع فيما بينها ويقترح إجراء
مصالحة، وهناك من أكد أن «السينما صور متحركة» (مبروك)، وحاول
أحدهم بيع مشروعاته من الكتب السينمائية الجاهزة.. في النهاية هذا
طالب وهذا أوصى، والجميع عاد.
هل هناك أزمة؟ لا. لقد جرى حل «الأزمة» منذ حين فلم تعد هناك أزمة
لأنه لم تعد هناك صناعة فعلية كاملة المواصفات ومستوفية الشروط. ما
هو متوفر بكثرة عدد المتحدثين باسمها.
الشرق الأوسط في
|