مشاهدات من مهرجان للأفلام القصيرة كليرمون فيران (2)
أحمد شوقي- كليرمون فيران
تتواصل أيام المهرجان الأهم في عالم الأفلام القصيرة، وتدور العجلة
بلا توقف في مهرجان أبرز ما يميزه هو الحس الشاب المسيطر على كل
شيء، ليس فقط على الأفلام المعروضة ومخرجيها، بحكم كون غالبية صناع
الأفلام القصيرة من الشباب، ولكن أيضا على المدينة نفسها، والتي
تمتاز باحتضان جامعتين هما جامعتي أوفيرن وبليز باسكال، يدرس بهما
40 ألف طالب وطالبة، يأتون من كل أنحاء فرنسا ليحولوا مدينة
كليرمون الصغيرة وشوارعها ومواصلاتها إلى لوحة ديناميكية شابة لا
تتوقف عن الحركة.
هنا المهرجان احتفال حقيقي، ويكفي أنك في كل العروض تقريبا في 14
صالة مختلفة تستضيف المهرجان، تجد المقاعد ممتلئة عن آخرها بجمهور
أغلبه من السكان، الذين يدفعون تذاكر مخفضة الثمن لحضور العروض،
فيتواجدون بكثافة مدهشة حتى في القاعات الفرعية وفي أوقات العمل
والدراسة.
ويكتمل الاحتفال بمستوى الأفلام نفسها، فالمهرجان يعرض بالفعل
الأفضل في عالم الأفلام القصيرة، وعدد الأفلام الجيدة التي تشاهدها
يوميا، على مدار سبع حفلات متتالية كل ساعتين من العاشرة صباحا
وحتى منتصف الليل، تجعلك تنسى مع أفلام المساء الممتعة، ما قد
أعجبك من العروض الصباحية، فبينهما تشاهد عشرات الأفلام الأخرى،
وأغلبها أيضا مميز المستوى. لذلك تبقى المحاولة الدائمة هي رصد بعض
الأفلام شديدة التميز، والتي يصعب أن تخرج من الذهن حتى بعد مشاهدة
عشرات الأعمال.
في الصحراء (إسرائيل)
من أكثر الأفلام التي أثارت الاهتمام والدهشة في المسابقة الدولية
فيلم "في الصحراء" للمخرج يواف هورنونج، وهو الفيلم الإسرائيلي
الوحيد في المهرجان. سبب إثارة الدهشة ليست المستوى الفني المميز
للفيلم، فكثيرا ما قدمت السينما الإسرائيلية أعمالا مميزة، ولكن
السبب هو موقف العمل الذي يدين إسرائيل إنسانيا بشكل واضح وصريح.
الحكاية عن متدربتين في جيش الدفاع الإسرائيلي، تخوضان اختبارهما
الأخير عبر خوض رحلة في الصحراء، وبينما تقتربان من الوصول
للمعسكر، تكتشف إحداهما أنها قد نسيت بندقيتها عندما كانت تتبول.
التوتر والضعف يبدو على الفتاتين اللتين تبدوان فجأة عديمتي الخبرة
أو القدرة على اتخاذ قرار: من نسيت البندقية تريد العودة لجلبها،
وهو ما يعني التأخر عن الموعد والفشل في الاختبار، وزميلتها تريد
استكمال الاختبار وهي لم تخطئ ـ لكنها خالفت التعليمات وقامت بالغش
قبل اكتشاف نسيان البندقية.
تتصادم إرادة الفتاتين حتى تقرران الانفصال، فتقابل صاحبة البندقية
المفقودة بدويا عربيا يحاول مساعدتها، فتقوم بتضليله كي يوصلها
للبندقية دون أن تخبره عن السبب الحقيقي لعودتها، أي أنها معدومة
الخبرة فاشلة في تنفيذ التعليمات وكاذبة مخادعة، حتى تكتمل عناصر
الهجاء عندما تصل لمرادها ويصل إليها المدد من جيشها الباحث عنها،
فما يكون منها إلا أن تترك من ساعدها يلقى مصيره المخيف على أيدي
زملائها الذين يعتقدون أنه قد هاجمها واختطفها، فقط حتى لا تقول
الحقيقة وتعترف بأنها هي المخطئة والمخادعة!
النهاية مغايرة لكل التوقعات، وكنت أعتقد للحظة أن الفيلم سينتهي
بتعميم الإدانة على الجميع، حسب الطريقة المعتادة لإضاعة الحقائق
تحت غطاء من الإنسانية المدعاة، ولكن المخرج فاجأ الجميع بموقف
واضح وحاسم يحمد له، هذا بالطبع بخلاف المستوى الفني المميز
للفيلم، وقدرة مخرجه على الاحتفاظ بالتوتر والإثارة من أول وحتى
آخر لحظات الفيلم.
فخر (بلغاريا)
حكاية إنسانية أخرى تجدها في الفيلم البلغاري "فخر" للمخرج بافيل
فيسناكوف، عن رجل يجد ما يجدع به نفسه من تماسك ينهار في يوم واحد.
البطل جنرال سابق من أيام الكتلة الشرقية، اضطر بعد التغييرات
السياسية والاجتماعية على أن يعمل كسائق تاكسي، كي يوفر المال
اللازم للحياة، مقنعا نفسه بأنه سعيد لتمكنه من خلق أسرة سوية،
مكونة من ابنته المتزوجة في ألمانيا، وحفيده الذي يعيش معه ليدرس
في بلغاريا.
اليوم يبدأ باكتشاف مخيف للجنرال، عندما يعلم أن الحفيد مثلي
جنسيا، اكتشاف بمثابة الصدمة لكل أفكاره وقيمه وتصوره عن العالم،
يواجه الحفيد ويسبه ويلعن الزمن الجديد الذي أصبح زمن حريات الشواذ
بما لم يكن ليحدث ابان الفترة الشيوعية، ثم يطلب منه كأي حاكم شرقي
أصيل ألا يخبر والدته التي تصل لوطنها مساء بما حدث، لحين أن يجدوا
حلا للأزمة (يتلخص في رأيه في تناول الصبي لبعض الأدوية التي تعيد
له الوضع الجنسي الطبيعي!). لكن حتى هذا التصور ينهار أكثر عندما
تصل الإبنة فيعلم أنها أتت لتعلمه بأنها بصدد الحصول على الطلاق.
في المجتمعات الحرة ميول الأشخاص الجنسية وقراراتهم العاطفية أمور
لا تشغل إلا أصحابها، لكن الفيلم يدور في المساحة بين وضع المجتمع
والتصورات القائمة داخل ذهن البطل، سواء تصوراته عن عالمه القديم
السعيد الذي يعاقب المثليين ويمنعهم من الحياة، أو تصوراته عن قيمة
ما يفعله والمبررات التي يسوقها لنفسه باعتبارها سبب ما يعانيه من
هوان لم يعتاده. ويبرز هنا الأداء الناضج الجاذب للنظر من الممثل
ميهائيل موتافوف، الذي يجسد معاناة الجنرال وصراعه النفسي بأدواته
جسدية نابعة من وضع الشخصية وسنها ومأزقها.
يوم الأب (بولندا)
هذا فيلم صالح بشدة لأن يكون فيلما طويلا جيدا، ليس فقط لمدة عرضه
التي تفوق النصف ساعة، ولكن لأن بناء الدراما فيه ومراحل تطور
شخصياته متلازمة لبناء الأفلام الطويلة. صحيح أنه في صورته الحالية
مُشبع دراميا، مكتمل الحكاية والتأثير، إلا أن هناك دائما وعدا
بالمزيد، أو شعورا بأن الحكاية تحمل من المشاعر والأفكار ما يحتاج
للمزيد من الوقت لتكشف عنه.
مارسيل بطل فيلم المخرج كاسبر ليزوفسكي رجل تجاوز الأربعين، لكنه
لا يزال يحلق شعره من الجانبين ويرتدي الملابس السوداء، ويعيش حياة
نجوم الروك، فهو مغن مغمور في فرقة تقوم بشغل المساحات الفارغة في
برامج العروض، يعمل في وظيفة بمتجر لا تناسب إلا مراهقا لم يحدد
مستقبله بعد، ويعيش حياة لا يبدو أنها قد تفضي إلى شيء سوى الفشل.
حتى تأتي ليلة يقابل فيها مارسيل امرأة كان يعرفها قديما، ويتطور
الأمر سريعا لذهابه لممارسة الجنس معها في منزلها. وفي الصباح
التالي وبعد دقائق من استيقاظه تسقط السيدة في غيبوبة مفاجئة،
وتترك ابنها الصغير الذي يصبح ورطة لابد لمارسيل التعامل معها،
فالصبي يعاني من شرخ بسبب علاقته بوالده الذي ترك المنزل ورحل مع
امرأة أخرى، والذي يرفض الصبي أن يذهب ليعيش معه لحين إفاقة الأم
من الغيبوبة.
لا حاجة لأن نقول أن علاقة المغني الفاشل والصبي المعقد ستقوم
تدريجيا بتخليص كل منهما من مشكلاته النفسية، فهذه هي طبيعة
الدراما، ولكن ما نحتاج لقوله هو أن الفيلم المتماسك والممتع كان
يتحمل المزيد من التعميق والإمتاع، ولعلنا نسمع خلال عام أو اثنين
عن صناعة النسخة الطويلة منه.
مونتوك (سويسرا)
آخر هذه القائمة من المشاهدات هو درس في المونتاج يقدمه المخرج
السويسري فينس فيلر في فيلم "مونتوك". لا يوجد في الفيلم أي تصريح
عن أي معلومة، ولا لقطة واحدة زائدة عن الحد، ولا يقدم المخرج أي
تفسيرات لما يدور على الشاشة، لكنه يتمكن عبر سرده البصري وتصاعد
الدراما، من أن يقدم المعلومات اللازمة للمشاهد لا ينقص منها شيئا.
رجل عجوز يجلس في سيارة يدخن سيجارا أخيرا، قبل أن نسمع صوت رصاصة
نعلم منها أنه قد انتحر. لماذا انتحر؟ لا يهم، المهم أن رماد رفاته
أصبح مسؤولية زوجته أن تلقيه في مياه مونتوك الأمريكية حيث كان
لقاؤهما الأول، نشاهد السيدة تصل وحدها للولايات المتحدة قبل أن
نفهم سبب الرحلة، ثم نفهم السبب ونحاول استكشاف حالتها النفسية
وموقفها مما حدث، ليتكشف هذا تدريجيا بتجربة ملاقاتها لأسرة
مكسيكية عندما تتعرض لحادث على الطريق.
الفيلم يدور بالكامل داخل مشاعر السيدة التي فقدت زوجها فجأة، وكل
معلومة تصل تدريجيا للمشاهد تتعلق فقط بهذا الأمر، دون إطناب أو
خوف مراهق من عدم وصول القدر اللازم من المعرفة للجمهور، وهذا نضج
يجب أن يكون الهدف الدائم لمن يصنع فيلما قصيرا، لا سيما إن أراد
عرضه وسط منافسة شديدة القوة كالتي نتابعها يوميا في كليرمون
فيران.
عين
على السينما في
|