ننشر مذكرات تحية كاريوكا للكاتب الكبير صالح
مرسي.. الحلقة الثانية
تحية: أكره اسم «كاريوكا» كراهية عمياء لأنه «مش
اسمى.. ده اسم رقصة!»
أعدها للنشر: محمد توفيق
عندما علم أخوها أنها تذهب إلى الكنيسة الموجودة فى المدرسة قرر أن
تجلس فى البيت
فكرت تحية أن تهرب من البيت للمرة الأولى بعد أن منعها أخوها أحمد
من الذهاب إلى المدرسة وقرر أن تعيش معه
عملت فى بيت أخيها مثل الخادمة كانت تساعد فى الغسيل والعجين
والكنس وغسل الأطباق.. وتغرقها الشتائم إن أخطأت!
إذا أراد أحد أن يعرف شيئًا من تلك الأيام التى تلت وفاة الأب، فهو
لن يجد مصدرًا سوى تحية كاريوكا نفسها.. ذلك أن معظم أبطال هذه
الحقبة من حياتها، قد ماتوا جميعًا.
غير أن الذى يركب مخاطرة السؤال أو الحديث، عليه أن يكون ذا معرفة
حقيقية بتلك السيدة التى ظلت طوال ربع قرن من الزمان، ويزيد، نجمة
تلمع وسط عشرات النجوم، ببريق متميز تختص به وحدها، ولا يشاركها
فيه أحد.
وعلى الذى يركب مخاطرة السؤال أو الحديث، أن يتسلح بالصبر أيضًا،
وقبل الصبر: بالحب الشديد.
ذلك أن تحية كاريوكا التى خاضت أهوال الحياة فى مصر وهى تضحك،
والتى تكره اسم «كاريوكا» كراهية عمياء: «لأنه مش اسمى، ده اسم
رقصة!»، تتحول إذا ما جاءت سيرة تلك السنوات العشر، التى تلت وفاة
الأب، إلى امرأة بائسة، تنهمر الدموع من عينيها بلا حساب، ويتصاعد
من داخلها بركان قذائفه كل ما فى الدنيا من شتائم.. ثم ها قد تفعل
أى شىء مع مرارة الإحساس بالهوان، وذكرى أيام كان الحزن الأسود،
والأصفاد، والحرمان، والذل.. هى علامتها الواضحة!
وكانت ليلة غريبة تلك التى مات فيها الأب.
وصل الخبر إلى المنزلة مع آذان العصر، وانهارت فاطمة الزهراء بلا
صراخ، راحت الدموع تنهمر من عينيها فى صمت.. جلست على الأرض،
وأسندت رأسها إلى كفها، ولم تعد تسمع شيئًا.. لا حديث الأخ، ولا
صراخ زوجته، ولا صوات نسوة القرية اللاتى تجمعن لكى يقمن بالواجب!
وعندما طلب منها أخوها أن تنهض لتسافر إلى الإسماعيلية، رفعت إليه
رأسها وقالت فى حزم:
«أنا
حاسافر بالليل.. زى ما كان المرحوم دايمًا بيقول».
وكان الليل حالك السواد عندما تحرك الركب الصغير.. فاطمة الزهراء
تحمل طفلتها بدوية، وبجوارها الأخ يمضى فى صمت.
وطوال الطريق من المنزلة حتى الإسماعيلية لم تكف عينا فاطمة عن
البكاء.. وكانت إذا ما رفعت الصغيرة رأسها وسألت أمها عن سبب
بكائها.. تمتمت الأم بكلمات غير مفهومة، ثم عادت إلى بكائها من
جديد.
فى البداية.. بكت بدوية لبكاء أمها، ثم تعبت من البكاء والطريق
معًا، ثم أسندت رأسها إلى صدر أمها، وراحت فى سبات عميق.
واستيقظت بدوية لتجد نفسها فى الإسماعيلية، ووجه النهار يطل من
الأفق عبر البحيرات، والشوارع خالية، والجو بارد، والجوع يقرصها..
لكنها عندما همت بطلب الطعام، كانت قد وصلت إلى البيت الكبير،
وكانت تعرف الطريق، فتملصت من أمها حتى هبطت إلى الأرض، وأرادت أن
تنطلق إلى الفناء ومنه إلى السلم، وأرادت أن تهتف: «أبا ستى.. »
أرادت.. وأرادت.. غير أن يد أمها منعتها، ظلت فاطمة تقبض على كف
وحيدتها بيد من حديد!
وقف الخال فى الفناء وترك شقيقته تصعد السلم وحدها.. كانت فاطمة قد
بدأت تبكى بصوت مرتفع، وارتدت الصغيرة داخل نفسها فى فزع، وهى ترفع
رأسها نحو أمها الباكية.. درجات السلم تعرفها القدمان الصغيرتان
تمام المعرفة، درجة وراء درجة، وثمة ضوء ينير الساحة فى الطابق
العلوى.. عند قمة السلم استقبلتها عاصفة عاتية من الصراخ والعويل،
وجوه وجوه وجوه، سواد سواد، سواد، أفواه فاغرة، صرخات عاتية، دموع
منهمرة. عيون محمرة. كلهن كن هناك، عماتها وأخواتها والجارات
والبنات والنساء، وجوه متراصة وأفواه تصرخ، فصرخت.. وكانت أمها
تصرخ مع الجميع، وإذا عاصفة الصراخ تجذبها فتصرخ بكل ما فيها تصرخ،
صدرها يتمزق وتصرخ.
من وسط الوجوه وجه لا تنساه حتى وإن مرت مئات السنين، وسط الصراخ
تنهض أختها «نجية».. تنهض مثل صرخة ثاقبة، طويلة لها قامة رجل،
قوية لها كف بحار، مارس جذب الحبال وتوجيه دفة السفينة.. تنهض،
تمشى، تقترب، تصرخ، تقف أمامها وأمام أمها كانت تقف، وترفع بدوية
عينيها إلى أعلى، إلى فوق حيث وجه نجية، وإذا الذراع الهائلة تحمل
الكف الكبيرة وتهوى بها فى صفعة دوت فوق الصراخ، وكانت الصفعة على
وجه أمها.. فاطمة الزهراء!
ويعم الصمت.. صمت مرتجف خائف ينخر العظام، ثم يأتى صوت نجية
مغيظًا: «خشى.. أهو عندك جوه!».
وعندما انفجرت الأم باكية وهى تتجه نحو غرفة الأب.. كانت بدوية قد
انطلقت تمزق نفسها صراخًا.. تخشب جسدها وارتمت فوق الأرض وراحت
أعضاؤها تتشنج، وصدرها يعلو ويهبط فى صرخات رهيبة.. ثم غابت
الصغيرة عن الوعى!
بدأت رحلة العذاب قبل أن يغادر جثمان الرجل غرفته! ولقد فزعت بدوية
وغابت عن الوعى وهى تشعر أن شيئًا هائلًا وكبيرًا قد حدث.. ولم يمض
وقت طويل، حتى عرفت أن الشىء الذى حدث هو أن «آبا» قد مات!
منذ هذا اليوم، تكره بدوية المآتم كراهيتها للموت ذاته.. كما تكره
الأفراح أيضًا.
ظلت بدوية تحية لأسابيع طويلة، بعد وفاة الأب، تستيقظ فى الليل
صارخة فى فزع:
«آبا..
آبا.. آبا».
كانت قد أدركت أن «آبا» قد مات. ولطالما انتابها الحنين، حتى بعد
مرور قرابة نصف قرن من الزمان، لتلك الأيام التى سبقت موت «آبا»..
طالما انتابها الحنين، بدموع غزيرة، لشاربه الكث وجسده الهائل،
ويديه الكبيرتين.. والكحل الأزرق. فى عينيه!
كان «آبا»، أو المعلم على الشيدانى، مثله مثل الكثيرين من أولاد
البلد فى ذلك الزمان، يضع الكحل فى عينيه، وكان الكحل الذى يفضله
أزرق اللون.. وكان بالنسبة إليه، دون شك، نوعًا من العلاج لعينين
يحتاج منهما البحار لقوة نظر وحدة إبصار، كما أنه كان نوعًا من
الزينة، أخذه بعض المسلمين سُنة عن النبى صلى الله عليه وسلم كما
يروى بعض الرواة!
كانت بدوية تعشق النظر إلى هذا الأب الهائل فى الشارب الكث، وكانت
كثيرًا ما تقلده فى مشيته، كانت تقلده فى حديثه، حتى فى جلسته..
وذات يوم كان الرجل يمسك بالمرود، وهو يكحل عينيه بكحله الأزرق
هذا، عندها صاحت بدوية:
- «وأنا
يا آبا!).
كان الأب جالسًا فوق الكنبة فى غرفته الواسعة، النافذة التى تطل
على الشارع مفتوحة ينسال منها الضوء باهتًا. فى الركن المقابل كان
السرير ذو الأعمدة والمساكر النحاسية، وزام الأب، ولم يلب لبدوية
رغبتها.
«وأنا
يا آبا.. والنبى يا آبا!».
وعبثًا حاول الرجل أن يثنى ابنته عن رغباتها.. ظلت تلح، وتلح، وتلح
حتى رضخ.. فطمس المرود فى الكحل وراح يكحل لها عينيها!
وما كاد المرود يلمس جفنها، حتى صرخت بدوية من الألم!
كان الكحل حراقًا حاميًا، وكان الأب يعلم ذلك، فراح يضحك، وبدوية
تصرخ، والكحل يكوى عينيها، فيزداد صراخها ويزداد ضحك الأب.
وكانت هذه هى المرة الأولى والوحيدة التى بكت فيها بدوية فاستلقى
الأب على قفاه من الضحك، دون أن يغضب أو يثور أو يسأل: «إيه
الحكاية!».
وعندما مرت السنوات وتغيرت بدوية.. اشتهرت بين أهل مصر بالكرم
الشديد.. ولقد أسهبت الصحف، كما أسهب الذين عرفوها عن قرب أو عن
بعد، عن هذا الكرم حتى أصبح سمة من سمات شخصيتها.. ولقد كانت فاطمة
الزهراء، عندما تقدمت بها السن، ولقد حافظت على عهد الزوج فلم
تقترن من بعده برجل آخر، تقول لابنتها «هو إنتى جايباه من بره؟!».
ذلك أن المعلم على النيدانى كان يخرج لصلاة الفجر، وهو يرتدى الجبة
والقفطان والعباءة.. ومنذ تزوجته فاطمة، كانت حريصة على أن تستيقظ
قبله، لتضع له المياه فوق النار حتى تدفئها قليلًا، ثم تصب له
المياه فيتوضأ إذا ما كان خارجًا لصلاة الفجر.. وكان الرجل يغيب
ساعة أو بعض ساعة، ثم يعود إليها بالعباءة على جسد عار!
يقول الذين عرفوا المعلم على النيدانى، إنه كان رجلًا كريمًا، إذا
وجد محتاجًا أو فقيرًا أو عاريًّا، خلع عليه ما يرتديه من ملابس
وترك على جسده ما يستره فقط، حتى يعود إلى البيت.
ذات صباح كانت بدوية تلعب فى فناء البيت، كان البيت قد خلا إلا من
جدتها وأمها فقط، وكانت الصغيرة تلحظ شيئًا غريبًا، كان بطن الأم
ينتفخ، ويكبر.. ولما سألت، علمت أن فى بطن الأم «نونو».
وظلت بدوية تنتظر مجىء النونو بفارغ الصبر، لكنها أبدًا لم تنتظر
ومجىء الأغراب ليحتلوا البيت!
وعندما مات الأب لم يتغير فى الحياة شىء كثير، سوى مجىء شقيقها
أحمد، الذى كانت تخافه وتخشاه وتهرب منه كلما رأته، كثيرًا إلى
البيت.. وتلك المناقشات الحامية التى كانت تدور بينه وبين الجدة..
حتى كان ذلك الصباح، وبدوية تلعب فى الفناء الواسع وحدها، عندما
انفتح باب البيت، الذى لم يفتح من قبل لغريب، ليدخل إلى الفناء
رجال ونساء وأسرة ودواليب ومقاعد ومراتب.. و..و.
ولقد فزعت الصغيرة فزعًا شديدًا وهرولت تصعد السلم إلى أمها، وإذا
هى تنزوى مع أمها فى غرفة واحدة، وكان بطن الأم يزداد انتفاخًا!
مات المعلم على النيدانى وزوجته حامل، وما إن مضت بضعة أشهر حتى
وضعت طفلة اسمها سعاد، وليس مهمًا ما حدث بعد ذلك لأن سعاد لم تعش
أكثر من عامين، ثم ماتت!
وزاد ارتباط بدوية بأخيها مرسى، فقد كان الوحيد الذى تندفع إليه
كلما رأته، وتتعلق برقبته، وتجلس على حجره، وهو كان يعاملها كابنته
أكثر من كونها أخته، لذلك فقد اصطحبها إلى مدرسة «السبع بنات» مع
أولاده، وظلت الصورة ثابتة لسنوات.
ذات يوم عادت بدوية من المدرسة فتجد أخاها أحمد فى البيت، وما أن
خطت خطوة حتى سمرتها صرخته: «تعالى يا بت هنا!».
كان الشرر يتطاير من عينيه، إلى يمينه جلست جدتها، وبدا عليها
الحزن والهم، وعلى يساره جلس مرسى، وكان المرض قد تمكن منه، وأصبح
وجهه أكثر شحوبًا، وصوته أكثر خفوتًا.
«بتروحى
الكنيسة فى المدرسة ولا لأ؟!»
شلها غضب أخيها فظلت للحظات لا تجسر على النطق، ثم أنطقتها صرخته
الهادرة وهو يعيد السؤال:
«بتروحى
الكنيسة فى المدرسة ولا لأ»..
وقالت بدوية: «أيوه!»
واندلعت النار...
نار مناقشة حامية كان الثلاثة، أحمد ومرسى والجدة، وهم أطرافها،
وظلت بدوية ترتجف فى وقفتها، وكان أحمد يطالب بأن لا تذهب بدوية
إلى المدرسة حتى لا تغير الراهبات دينها، وكانت بدوية تحب
الراهبات، وتحب الحديث معهن باللغة الفرنسية، لكنها لم تكن تحب، بل
ترتجف خوفًا وهلعًا من أن تذهب إلى بيت أحمد، بل إنها قررت أن تهرب
من البيت إذا أرسلوها إلى بيت أخيها أحمد!
ثم جاء صوت الجدة ليحسم الأمر كله: «أنا حاجيب لها شيخ يعلمها
القرآن والعربى هنا فى البيت»..
وتمضى الأيام، وتذهب إلى بيت أحمد مرغمة، تقبع بعيدًا كقط مذعور،
تغرقها الشتائم، وتُمنع من دخول المدرسة، وتساعد الخادمة فى الغسيل
والعجين والكنس وغسل الأطباق!
التحرير المصرية في
|