ننشر مذكرات تحية كاريوكا للكاتب الكبير صالح
مرسى.. الحلقة السادسة عشرة
تحية كاريوكا: كنت أفقد أعصابى إذا نادانى أحد باسم
كاريوكا!
أعدها للنشر: محمد توفيق
فى البداية.. لم يكن يثير تحية شىء فى هذه الدنيا إلا أن يناديها
الناس باسم «كاريوكا»، ورغم النجاح الساحق الذى حققته هذه الرقصة،
ورغم الشهرة التى حملت اسم تحية مقرونا باسم هذه الرقصة إلى كل
لسان، فما كانت تسمع أحدا يناديها بهذا الاسم، حتى تفقد أعصابها،
وتثور، وقد تتشاجر.. وقد اختارت لنفسها اسما آخر ذات يوم، فبدلا من
اسم تحية محمد، اتخذت لنفسها اسم تحية كريم، وهو اسم جدها الأكبر،
غير أن الناس أبوا إلا أن ينادوها بكاريوكا، فى كل مكان، فى الشارع
أو فى الصالة.. حتى إذا سافرت ذات يوم إلى الولايات المتحدة، عندما
تزوجت تحية لأول مرة، ظنَّت أنها سوف تتخلص نهائيا من هذا الاسم،
وقدمت نفسها إلى الناس، لا على أنها «مسز ليفى» -وهو اسم زوجها
الأول- وإنما على أنها «مس كريم»!
ومضت بها أيام وهى تشعر بسعادة بالغة، وذات يوم كانت تسير فى
الشارع الخامس بنيويورك، حين حكت أذنها صيحة: «ست كاريوكا.. ألف
مرحبا!».
كانت لهجة الرجل شامية، وكانت تحية سعيدة أن وجدت فى الولايات
المتحدة من يحدثها بالعربية، وأيقنت فى تلك اللحظة بالذات أن لا
مفر، كان الرجل متحمسًا أشد الحماس لرؤيتها، كان عربيا يعرفها ويرى
صورها على أنها «كاريوكا» لا «كريم»، وفى هذا اليوم، قبلت دعوة هذا
الرجل على العشاء، وقبلت أيضا اسم «كاريوكا» فصاحبته وصاحبها حتى
اليوم.
وفى تلك الليلة التى رقصت فيها تحية رقصة الكاريوكا لأول مرة، ولد
فى نفسها ذلك الإحساس الشديد بالثقة بالنفس، كانت تتلقى التهانى من
الجميع وهى سعيدة، وكانت تصعد إلى غرفتها فى كازينو الكوبرى عندما
لمحت الست نرجس، أم حورية محمد، فتوقفت!!
هل تتكرر المأساة مرة أخرى؟!
ولم تكن تحية فى حاجة إلى جواب، فسرعان ما عادت أدراجها إلى غرفة
بديعة، وقد استقر رأيها تماما على الدفاع عن نفسها مهما كلفها
الأمر.
«اسمعى
يا مدام بديعة، لو الولية اللى اسمها نرجس دى جت ناحية البدلة
وقطعتها أنا حاقطع جتتها!».
لم تكن تلجأ إلى بديعة هذه المرة، لكنها كانت تهدد.
ولقد وقع كل ما كانت تنتظره من نرجس، وقد بلغها تهديد تحية الذى
أعلنته على الجميع، كانت تحية معجبة أشد الإعجاب برقص حورية محمد،
لكنها لم تكن على استعداد لأن تضحى بمستقبلها فى سبيل إعجابها هذا!
صاحت الست نرجس وهى تحدث بديعة مصابنى فى احتجاج:
«انتو
عاوزين بنتى ترقص عندكم ولاّ لأ؟!.. ما هى بنتى بترقص أفرنجى كمان!».
كانت الست نرجس هى الأخرى تهدد ولم تكن تحية موجودة ساعتها، ووقفت
جمالات فى انفعال تنتظر حكم بديعة مصابنى، لقد حكمت فى المرة
الأولى، وكان حكمها حرمان تحية من الرقص الشرقى، فهل تحرمها أيضا
من الرقص الغربى؟!
قالت بديعة: «تحية هترقص الرقصة دى، إذا كان عاجبك أهلا وسهلا.. مش
عاجبك خدى بنتك ومع السلامة!».
إن بديعة لا تضحى بنجمة مثل حورية محمد، إلا إذا كانت واثقة أنها
ستجنى ما يعوضها عن هذه التضحية، وعادت الست نرجس تصيح متراجعة:
«بس حورية بترقص أفرنجى!».
«اسمعى
يا نرجس، البنت دى زى بنتى بالضبط، فاهمة الكلام ده كويس؟!».
قالت بديعة هذا.. ثم مضت!
ولم تخرج حورية محمد، وانتصرت تحية كاريوكا انتصارها الأول!
لم يحدث فى تاريخ بديعة مصابنى أن استمرت رقصة واحدة لأكثر من
برنامج واحد.. حتى ولو كانت هذه الرقصة لبديعة مصابنى نفسها، وكان
البرنامج لا يعرض لأكثر من أسبوعين ثم يتغير تماما، بموسيقاه
ومونولوجاته وأغانيه ورقصاته الأوروبية.. نوع واحد من الرقص هو
الذى لم يكن يتغير أبدا أبدا.. هو الرقص الشرقى.
غير أن رقصة الكاريوكا نجحت نجاحا مذهلا، وتحمس لها الناس وأحبها
رواد الصالة، وتردد اسم كاريوكا على ألسنة الزبائن، كما أصبح يتردد
على ألسنة أعضاء الفرقة أيضا، وكأن الناس تستسيغ نوعا واحدا من
الطعام!
ولذلك فلقد استمر عرض الرقصة أربعة أسابيع، ولبرنامجين متتاليين..
وبلغ نجاح الرقصة حدا جعل بديعة تطلب من تحية أن تقدم الرقصة فى
الكباريه أيضا، ولكن تحية رفضت هذا فى البداية، أن معناه أن تقدم
الكاريوكا مرتين فى الليلة أو ثلاث مرات، فى أثناء تقديم البرنامج
فى الماتينيه والسواريه، وما بعد البرنامج فى الكباريه.. وصرخت
بديعة ذات يوم فى وجه تحية:
«انتى
بترقصيها فى البرنامج من أسبوعين خلى عندك دم!».
وابتسمت تحية، ووافقت!
كانت تحب بديعة مصابنى، وتشعر بضعف أمامها، هى -أساسا- لم تكن
تستطيع أن ترفض لها طلبا، ثمة نوع من الولاء العميق كانت تكنه لهذه
السيدة التى رعتها، وأشرفت عليها وربتها.. فى تلك الأيام كانت تحية
كاريوكا قد شقت طريقها إلى الشهرة، وكان مرتبها قد بلغ اثنى عشر
جنيها بالتمام والكمال، وإذا وصلت راقصة عند بديعة مصابنى إلى هذا
المرتب فإن معناه على كل المستويات أنها راقصة ممتازة.. وكان أى
نادٍ ليلى آخر على استعداد لأن يدفع لتحية أضعاف أضعاف أضعاف هذا
المرتب، لو قبلت أن تترك بديعة.
ولم تكن تحية تحلم، وربما كل بنات بديعة، أن يفعلن هذا.. غير أنه
حدث ذات يوم، وألقت بديعة ملابس الشلة كلها من النافذة، وطردتهن
جميعا وهى موقنة أنهن لن يغادرن باب الكازينو، كانت مثل أم تثق ثقة
مطلقة بولاء بناتها.. غير أن المفاجأة أن تحية رفضت هذا الأسلوب،
أن بديعة بمثابة أمها، هذا حق.. ولكن كرامتها كانت مستقبلها!
كان العيال قد أصبحوا يمارسون الحب بين بعضهم البعض علنا، وتراخت
محاولتهم لإخفاء هذا الحب يوما بعد يوم.. ولم تعد المدام فى حالة
تسمح لها بأن تغمض عينيها أكثر من ذلك عن تطبيق مبدأ فى الفرقة..
وكانت المدام تسأل فلا تجد جوابا من البنات إلا الإنكار.. وإذا
كانت تحية تنكر ما حدث وهى تعلم تفاصيله علم اليقين فهى لم تكن قد
وقعت فى الحب مع أحد.. كان طموحها شديدا وهى تتبع توجيهات سليمان
نجيب، ولقد اكتشفت فى إحدى مدارس الرقص أن الأصول الأولى للرقص
الكلاسيكى، ذات فائدة حقيقية للراقصة.. كان سليمان نجيب يدفع أجر
الدروس التى كانت تصل إلى خمسة جنيهات فى الحصة الواحدة، وعندما
تمردت عليه لم تكن تعرف ماذا كانت ستفيدها تدريبات الصوت عند «مدام
رطل» الشهيرة، وهى راقصة وليست مغنية، فرد عليها سليمان نجيب فى
حرارة وعصبية: «الفنان لازم يستغل كل إمكانياته، الرقاصة كمان لازم
يبقى صوتها حلو!».
واستسلمت تحية، وتدربت على مبادئ الرقص الكلاسيكى، وكلما أحست
بمقدار الفائدة التى جنتها فى أثناء تأدية رقصاتها فإن إعجاب الناس
برقصها كان يزداد يومًا بعد يوم.. كانت تحية غارقة لشوشتها وسط شلة
«المحنطين»، لقد وجدت فى عبد العزيز البشرى صديقا كشف لها كثيرا من
حقائق الدين، إنها ابنة البيئة التى يشكل الدين فيها لا عنصرا
أساسيا فقط ولكنه عنصر من عناصر الحياة وطعمها.. لم تكف عن سؤاله
عن الحرام والحلال، الخطأ والصواب، وكانت فى بعض الأحيان تصلى
بحرارة وحب، وكانت تعيش حياتها فى سعادة واقتحام، لكنها لم تقع فى
الحب، فلماذا تشتمها بديعة؟!
«ماتشتميش،
اللى عاوزه تشتميه اشتميه فى وشه!»،
وهكذا ردت تحية على أستاذتها، لكن الأستادة لم تطق هذا الرد، فتحول
غضبها إلى ثورة، وتحولت ثورتها إلى هياج، فأمرتهن -كل البنات-
بمغادرة الصالة، طردتهن جميعا، ثم ألقت بملابسهن إلى الشارع!
قالت تحية لتيتى وجينا:
«اسمعوا
يا بنات، تيجوا نخرج؟!».
لم تطلب تحية هذا الطلب من جمالات، لأن جمالات كانت تحب فى تلك
الأيام أنطوان، ولما كان أنطوان جزءا من الكازينو فلم يكن من
المعقول أن تطلب منها أن تترك بديعة.. لكن جمالات فاجأت الثلاث
بأنها على استعداد لترك بديعة والانفصال عنها.. وكنت المفاجأة، أن
راقصة شرفية اسمها «سميرة أمين» جاءتهن وهى متحمسة للثورة لتعلن
انضمامها إليهن.
وهكذا أعلنت تحية كاريوكا أنها لن تنتظر حتى تتصالح مع المدام،
ولكنها ستبحث عن عمل!
وغادرت تحية كازينو بديعة لأول مرة فى حياتها!
كانت قد تركت بيت بديعة منذ شهور طويلة، وكانت تعيش فى بنسيون فى
شارع عماد الدين، كان البنسيون كله من بنات بديعة، لم يكن فيه غريب
ولا رجل، فى البنسيون كله لم يكن هناك سوى رجل واحد هو فريد الأطرش!
وكانت الحياة فى البنسيون لها طعم خاص، طعم لذيذ ملىء بالمرح
والحماس والانفعال والحب، وكان فريد طيبا حنونا يعيش قصة حبه فى
صمت وعاطفية.. وفى ذلك اليوم اجتمعت شلة الثائرات على بديعة فى
البنسيون وعقدن اجتماعا سريعا تزعمته تحية، فلقد أبدت استعدادها
لأن تتحدث مع «كالوميرس» صاحب ملهى الكيت كات، المنافس الأول
لبديعة فى ذلك الوقت!
كانت تحية تتحدث مع «مسيو كالوميرس» باسم الأربع الأخريات.. كانت
تعلم أن الكيت كات لا يقدم إلا الرقصات الأوروبية فقط، وأنه لم
يقدم فى كل تاريخه رقصة شرقية واحدة.. وكانت الفترة التى أعقبت
رقصة الكاريوكا عند بديعة فترة مزدهرة وخصبة، ذلك أن إيزاك ديكسون
دخل الصالة بعد أن تم الصلح بينه وبين بديعة ليخلق فى كل يوم رقصة،
وقدمت جينا وتيتى وجمالات وتحية رقصات عديدة أدهشت الفرق الأجنبية
التى كانت تستورد دائما من الخارج، وكان إيزاك مع دفعه الحماس يهدى
إلى كل راقصة من راقصات الشلة رقصة بلا مقابل، ولقد كان «كالوميرس»
يعلم كل هذا، ويعلم قبل كل شىء، أنهن بنات بديعة!
التدريب والمستوى والذوق الرفيع!
ووافق «كالوميرس» على الفور، وافق أن يأخذ تحية وحدها، أو تحية
ومعها جينا!
ورفضت تحية فى حزم شديد:
«يا
احنا الخمسة، يا بلاش!».
واضطر الرجل إلى قبول البنات الخمس فسألته تحية:
«حاتدينا
كام؟!».
وقال «كالوميرس»:
«ستين
جنيه!».
وتوقفت تحية لبرهة، أن كل واحدة منهن تتقاضى اثنى عشر جنيها عند
بديعة، وأن «كالوميرس» يعرض عليها نفس الأجر، أن ستين جنيها
للفتيات الخمس، تعنى نفس الأجر، وهى لن تقبل أقل من خمسة عشر جنيها
أجرًا لكل فتاة!
«لا..
شوية».
ورد عليها «كالوميرس».
«طيب..
أنا أخدك انتى وجينا، كل واحدة بخمسة وثمانين جنيها، والباقى بستين!».
وكاد قلب تحية يتوقف!
واحدة بخمسة وثمانين جنيها، والباقى بستين!».
..
إذن فلقد كان الرجل يعرض عليها فى البداية ستين جنيها لكل واحدة..
ولم يكن معقولا أن ترفض تحية العرض لثانية واحدة، لكنه كان من
المعقول أن تقول:
«بلاش
احنا ناخد أكتر.. وادى كل واحدة خمسة وسبعين جنيه.. كلنا زى بعض!».
ووافق «كالوميرس»!
أيقنت تحية كاريوكا، التى كانت قد اشتهرت فى الوسط وبين الناس باسم
كاريوكا فقط، أيقنت فى ذلك اليوم أن أخلاق الفنان لازمة
لاستمراره.. فعندما علمت البنات بما حدث، ازداد حبهن لها، وتعلقهن
بها.. واحترمها «كالوميرس»! |